أدرك أنني أطرح المعادلة مقلوبة، وإلا من يجرؤ أن يضع الصناعة قبل التعليم والصحة وبالذات في مجتمع كهذا، مجتمع ترتفع فيه صيحات الاحتجاج على التعليم والصحة وهو ما زال في مراحله الأولى من عهده التنموي, إلا أن ما يجري في هذا المجتمع من تأمين للصحة وتخصيص للتعليم يشفع لي طرح مثل هذا الرأي, إذ إن ذلكما التأمين والتخصيص يستوجبان وجود جيب مليء كي يستطيع أن يدفع أقساط التأمين ورسوم التعليم، وهذا يتطلب إيجاد مستوى معيشي للفرد وللمجتمع يمكنه من تأمين مثل تلك الاحتياجات الضرورية, ولا أحد يشك فيما قد تلعبه الصناعة من دور في تحقيق مثل هذا المستوى، وذلك لاسباب عدة يأتي في مقدمتها مساهمة الصناعة في التوظيف وقدرتها على إبقاء رؤوس الأموال داخل البلد نتيجة احتياجاتها الرأسمالية الضخمة.
إلا أن الصناعة وبالرغم مما وصلت اليه لم ترق بعد إلى المستوى المنشود الذي يمكنها أن تلعب من حيث الكم والنوع دورا أكبر في صياغة المستقبل الاقتصادي لهذا البلد, فبالرغم من النمو الصناعي الذي بدأ يأخذ مكانه مع بداية الخطط الخمسية وما صاحب ذلك من إنشاء لوزارة الصناعة وبعض الاجهزة الأخرى، إلا أن المتأمل يلحظ فتوراً صناعياً في الآونة الأخيرة, مما يتطلب ضرورة إعادة النظر والعمل على تقويم تجربتنا الصناعية وتحديد الدور الذي يجب أن تلعبه الأجهزة الحكومية خلال الفترة المقبلة فيما يتعلق بالصناعة وكذلك مواجهة وتذليل العقبات التي تقف عائقاً أمام نمونا الصناعي.
والاهم من كل ذلك أهمية إيجاد توجه استراتيجي واضح يرسم الصورة المستقبلية لصناعتنا من الناحيتين الكمية والنوعية بهدف إيجاد صناعة مميزة وقادرة على مواجهة المنافسة العالمية من جانب وداعمة لاقتصادنا الوطني من جانب آخر, ووجود مثل هذا التوجه الاستراتيجي يتطلب قبل كل شيء وجود القناعة بأهمية الصناعة كخيار استراتيجي مع ما تفرضه تلك القناعة من توفير كافة السبل الضرورية لتحقيق ذلك الخيار على ارض الواقع والتي يأتي في مقدمتها إيجاد المجتمع الصناعي ذي الثقافة القادرة على استيعاب ذلك المفهوم ونقله من اهتمامات رجال الأعمال وأروقة الجهات المختصة إلى اهتمام عام لكل طبقات المجتمع.
إن الصناعة بحكم أنها استثمار طويل الأجل تتطلب رؤية واضحة وبالذات لرجال الأعمال والمستثمرين والذين لن يقدموا على الدخول في هذا المجال ما لم تكن تلك الرؤية واضحة أمامهم, ووضوح الصورة هذه يشمل الأنظمة والقوانين والخطط الاقتصادية العامة التي تؤثر على القرارات الاستثمارية ليس فقط على المدى القصير ولكن وهم الأهم في حالة الصناعة على المدى البعيد، حيث يبدأ المستثمر الصناعي قطف زرعه.
إن الإمكانات والموارد المادية والطبيعية تؤكد صحة توجه الجهات المسؤولة باعتبار الصناعة مصدرا مهما من مصادر تنويع الدخل, الا أن الجهود بحاجة الى المضاعفة لتدعيم القاعدة الصناعية وتوفير كافة العوامل الضرورية لإنجاح ذلك التوجه، وبالذات مع اشتداد المنافسة وتداخل الأنظمة والقوانين الدولية المؤثرة في ذلك.