نهار جديد عبدالله سعد اللحيدان |
هل يجب على المبدع، ولكي يمتلك رؤية ويتخذ موقفا، ان يكون قد درس او اطلع او لديه على الاقل إلمام او معرفة عامة بكل الرؤى والمواقف السابقة؟
ولكي يمتلك اسلوبا او يصبح لديه منهج خاص به في الكتابة، هل يلزم ان يعرف كل الاساليب والمدارس الادبية السابقة؟
للالمام مثلا بالمدارس الادبية، من الكلاسيكية الى ما بعد الحداثة، مرورا بالرومانسية والسريالية والرمزية والواقعية والحداثة، ولادراك اهم مكوناتها وسبر تحولاتها وتطوراتها فقط، عدا عن الطموحات والأهداف، ما تحقق منها وما لم يتحقق,, ورؤاها ومواقفها واسئلتها الكبرى والصغرى، لابد من الوقوف عند طبيعة كل مدرسة منها، لمعرفة جوهرها واسرارها ومحاولة اكتشاف بنيانها وارتباطها بالانسان الذي انتجها وبالواقع والظروف التي أدت الى ظهورها وتألقها وانطفاء بعضها.
ان مجرد التفكير في ذلك بالنسبة للمبدع شاعرا او ناقدا(لا مؤرخا) قد يصيب المبدع بالاحباط ويغريه بالكسل والانسحاب واختيار السلامة, ويكون السؤال إذن، هل نعيد دراسة وحوار ومناقشة ما سبق دراسته ومحاورته ومناقشته في الشعر,, مثلا منذ (أيون وافلاطون وسقراط وارسطو) وحتى الآن، أم نبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأين انتهوا، وهل انتهوا حقا؟
المشهد العام يعطي انطباعا عن سباق متواصل عبر طرق ودروب متوازية ومتقاطعة ومتشابكة، وتزيد المشهد ضبابية كرة غامضة يبرز من فوضاها عدد هائل من أطراف الخيوط، فأي طرف منها وأين ومتى وكيف نلتقطه؟
كل مبدع يدرك انه بحاجة الى احداث تغيير والحصول على سبق ما,, في الاسلوب، في المنهج في الفرادة والتميز والخصوصية والابتكار.
كان المبدعون العرب، الى نهاية ما يسمى بعصر النهضة، يتسابقون في التقليد، وكان ميزان الابداع ومعياره هو القدرة على محاكاة النموذج، واصبح المبدع العربي كائنا تاريخيا حسيا يسكب ابداعه في قالب ذهني مرسوم، ويرى الى الحقيقة والكمال في كل ما (سلف) وكانت المبادرة (أي مبادرة)تهمة لا يغفرها النقد الأدبي.
ثم حققت الرومانسية قفزة نوعية، تبعتها مدارس اخرى، وطال التطوير والتجديد وكافة الابداعات والتنظيرات حولها، وتمايزت الى حد التداخل, يقرأ المبدع نماذج من الانتاج الشعري لهذه المدارس، كلاسيكيات لأحمد شوقي وحافظ، رومانسيات لشعراء المهجر، ورمزيات لسعيد عقل، وواقعيات للفيتوري ودرويش والبياتي، وسرياليات وحداثيات لأدونيس وتلاميذه، فماذا يجد؟
الكلاسيكية ليست واحدة بل كلاسيكيات وكذلك الرومانسية وغيرها، ويجد في كل قصيدة من قصائد أي شاعر منهم ومهما كانت مدرسته ملامح من المدارس الأدبية الاخرى، قليلة أو كثيرة.
وينظر الى الحداثة (وهي حداثات)، تعني في مجملها التجديد والقطيعة مع الماضي، ويرى إليها وهي أكثر المدارس حضورا في المشهد الثقافي وأكثرها فاعلية وأضخمها انجازا.
ولكنه يفاجأ بتيارات ما بعد الحداثة، وهي تراهن على تجاوز الحداثة وان الطليعية وحركاتها التقدمية ذات الأهداف التنويرية والانسانية قد انتهت وكذلك التاريخ والحقوق، وان كل ما كانت الحداثة (التحريرية) تركن اليه قد انهار امام واقع العولمة الجديد,!!
ثم يسمع من يقول بأن الافكار والمبادئ لا تسقط وانما يسقط حاملوها، او من تبنوها ثم تخلوا عنها، او انها كانت (الحداثة) مشاريع لم تكتمل بعد، وان مابعد الحداثة مرحلة متطورة من الحداثة ذاتها، وان كانت (ما بعد الحداثة) لا أخلاقية ولا انسانية رغم قيامها على التجاوز والتفاهم وتحويل الانسان الى حيوان كوني في القرية الكونية (على الرغم من عدم التناسق)، وان كانت الثقافة الساخرة للرأسمالية,!
كل هذا، وربما بعضه يكفي، ليجعل الضباب المحيط بالمبدع أكثر كثافة، ويجعل مجال الرؤية اقصر، والتقييم والاختيار شبه مستحيل.
ولكن سأعود، واسأل، هل من الواجب على المبدع ان يعرف هذه المدارس الادبية ومبدعيها،و ان يعرف الى اي مدرسة ينتمي كل اثر أدبي او قصيدة،؟ وهل هو ملزم بذلك، لكي يبدع ويكتب او يحاول الكتابة الابداعية، ام يكفي ان يتذوق هذه النصوص ويستمتع بها، ويحاول انتاج نصوص ابداعية لا تحاول الانتساب لهذه المدرسة او تلك، او لهذا السياق او ذاك، بقدر ما تحاول الانتساب للانسان في تجلياته وعذاباته واحلامه وواقعه,, وللفن والإبداع في صفاته ونقائه، ومنطلقا من أرضه البكر, ألا يكفيه بداية الا تستدرجه (هذه السوق) الثقافية (العربية) اليوم، فينتج (سلعة) بلا لون ولا طعم ولا رائحة,, وحسب المواصفات المطلوبة, والا يغريه او يستفزه تأكيد على جوانب بعيدة عن الجوهر الحقيقي للابداع، وهي تسعى (لا أدري لماذا) الى كل ما هو سطحي وناء عن الرسالة الانسانية الحقيقية (للثقافة) والابداع وتنشغل بمسالك ومسارات بعيدة كل البعد عن روح الانسان الذي منه وإليه يتجه كل من الابداع والثقافة، وهي تتحول (ربما,, مجاراة للعصر) الى تحويل أدواتها وفعاليتها الى وكالات تجارية؟!
|
|
|