Thursday 16th December, 1999 G No. 9940جريدة الجزيرة الخميس 8 ,رمضان 1420 العدد 9940


الروائية
حسين المناصرة

ثمة مصطلحات تتجدد بتجدد النقد وتوسع رؤاه, وقد كانت ثقافة المنهج التي تحيل الكتابة النقدية على وجه العموم إلى حالة من الذوقية الخاصة الكامنة داخل كل قارىء ناقد, مهما كان الادعاء بالمنهجية العلمية أو الأكاديمية المتسلحة بأسلحة التجرد، ومحاولة التلبس بالنظريات النقدية السائدة.
ويبدو أن مجمل النقد الجديد، المتجدد في ذاته، قد اخذ يسعى في التسعينيات إلى التخلص من قيود الكلاسيكية ، الواقعية، والنفسية، والبنوية، وحتى من التفكيكية، ومن كل ما يمكن أن يوحي بتشكل نظري نقدي منهجي، أدعاء أو اقترابا من الحقيقة, وفي كل الأحوال، لا غنى عن ثقافة نقدية جامعة لكل المناهج، يتسلح بها أي ناقد يطرح ثقافة نقدية، شاملة، لا مجرد آراء ذوقية مسطحة ساذجة.
وقد كانت مقدمات كتب النقد، تحديداً، فضاء لتقديم الرؤى المنهجية التي تقرأ من خلالها النصوص، وعلى هذا النحو مالت الكتب النقدية في التسعينيات في مقدماتها إلى التخلص من النظريات النقدية، وإلى احلال مكانها القراءة النقدية المفتوحة كمنهج يعني عدم الالتزام بأكثر من الحيادية تجاه الانصات لما يقوله النص أولاً وأخيراً، وما يمكن أن يستنبطه القارىء من جماليات ورؤى يراها حميمة إلى نفسه من خلال قراءته لاي نص كان، وخاصة الرواية التي هي نص جامع لكل النصوص، ونتيجة لذلك تحتاج إلى قراءة جامعة لكل القراءات والمناهج تحت مظلة واحدة، هي مظلة ثقافة المنهج، أو القراءة المفتوحة.
إن مقدمة كتاب مقالة في الروائية لصلاح الدين بوجاه ، رغم اختزالها في صفحتين من الحجم الصغير، جاءت حاملة لهاجس النقد الجديد المتجدد العائد إلى اسلوبية الماضي، إذ يحدد من البداية أن كتابته النقدية تزعم لنفسها منزلة وسطى بين العلمي الأكاديمي والأدبي الصرف، وكأن هذه المنزلة تعني بالنسبة له كسر المستقر الثابت متمثلاً بالأكاديمي، لصالح حركة المتخلق، المقبل على تغيير إهابه، وإرباك حدوده الجامعة المانعة كما يقول.
والسؤال الذي نطرحه على أنفسنا، هو لماذا أصبح النقد الذي كان يعتز بأنه يتسامى في العلمية والتجرد، على الأقل من خلال بنيوية الستينيات إلى أوائل التسعينيات، نقداً شبيها بالنقد الذوقي؟.
والإجابة الوحيدة المبررة إلى الآن هي هيمنة نظريات التلقي والاستجابة على النقد عموماً، مما يعني انفتاح أذواق القراء النقاد وآرائهم على النصوص، وبالتالي الانصات لها وتقديم القراءات الخاصة المولدة لرؤية الناقد وجمالية قراءته للرواية، ومن هنا تجيء كلمة الروائية ، كما يزعم المؤلف بديلاً عن الأدبية أو الانشائية، وربما بديلا عن الشعرية، وعن السردية، وعن كل ما شابه من مصطلحات، لتغدو الروائية كمصطلح كلمة جمّاعة منّاعة مختصة بالنص الروائي دون غيره، رغم كون النص الروائي نفسه هو مجموعة متداخلة، ليمثل من هذه الناحية من وجهة نظر المؤلف في مقدمة فاتحة كتابه: النص المتجاوز المتخطي للحداثة الأدبية أو الانشائية,, وبذلك تصبح روائية الرواية,الحداثة المتخطاة ، وكأن المسألة مازالت بالنسبة للنقاد تعيش في ظل الحداثة أو تتجاوزها إلى ما بعدها,,هروباً من اعترافهم بضرورة احترام قراءات ما قبل الحداثة!!.
وهكذا تكون الرواية نصاً جامعاً، وتكون الروائية نقداً جامعاً، وهذه هي الفكرة التي نظر لها صلاح الدين بوجاه، بشكل مختصر، فأحال الرواية إلى النص الجامع الذات المركبة وأحال النقد إلى النص المتعدد الذات المفككة وبالتالي غدا تعريف الرواية والروائية عنده على النحو التالي:
الرواية اليوم بلا منازع مؤسسة (لنص جمع) تتعدد لدنه الهواتف والأجناس وضروب الخطاب فيجتذب إلى مجاله أفق القصيدة والمقطع الملحمي والمشهد المسرحي، فضلة عن محض السرد القصصي بمختلف سماته وحيثياته.
والروائية إذن مناط وصف وفهم وتفسير وتأويل للنص للروائي، ومن مزاعمها فيما نرى ان تنصت إلى خفي هواتفه، بما يكشف المضمر، بأدوات من جنسه!.
ولا نظن على الاطلاق بأن في هذين التعريفين ما يعني التجدد، بقدر كون تعريف الرواية المنفتح الجامع كان منذ أن وجدت الرواية، ومن ضمن تنظيرات باختين في بدايات القرن العشرين ، ثم اكتشفت هذه الآراء متأخرة، في حين كانت نظيرات التلقي، والتفكيكية سائدة لدى كثير من المنظرين في الفترة نفسها، واحتفل بها مؤخراً وبالتالي ليس صحيحاً أن هذين الرأيين متجاوزين للحداثة، وإنما هما من صميم النقد التكاملي المنفتح منذ أن وجد النص ووجد مقابله النقد أو القراءة سواء ما قبل الحداثة، أو فيها، أو ما بعدها، مع ما في هذا التصنيف من جور وتعسف ثقافي، إذ الحداثة بالمفهوم المنطقي تعني التجدد والتجاوز في أي مرحلة أو زمنية, ولأن الناقد اليوم هو الأكثر ثقافة في التعمق داخل جماليات النص قياسا إلى الناقد في العصر الجاهلي أو في عهد اليونان، فإنه لا يجوز اعتبار الحداثة خاصة به دون الماضي الممتد، إذ كل نص هو بحاجة إلى الوصف، والفهم، والتفسير، والتأويل كحركات متداخلة بعضها مع بعض.
وهذه العلاقة بين القارىء والنص كانت موجودة عبر التاريخ كله، لأنها قيمة قانون فلسفة الفهم والمتعة.
ولعلنا نتفق في النهاية على أن كل قراءة تكتسب منهجاً بعد أن تكتمل إن كانت ذات منهج أو متعددة المناهج، إذ إن المسألة ليست أكثر من انصات للنص للتعرف على هواتفه ومضمراته,, وكأننا في حالات تطورنا نقديا,, نعيش فقط حالة تعددية المصطلحات النقدية التي نقلتنا من أدبية الرواية أو شعرية الرواية أو انشائية الرواية أو جمالية الرواية أو سردية الرواية أو انفتاح الرواية أو,,,أو,,, إلى روائية الرواية، لتعني الروائية ما يختص بالرواية من جماليات ورؤى دون غيرها، وفي هذا السياق كانت منهجية الكتاب المذكور رغم تشتت نصوصه، وتشتت تواريخ نشر القراءات: البحث فيما به يكون النص الروائي نصا روائياً في نؤي عن المناهج والنظريات المغرقة في التجريد حينا، وفي مساجلة ثرية لها حينا آخر فبدأ حقا وسطا بين العلمي والأدبي لدى ذلك الحيز الذي كان به الأدب العربي حيا طريفاً رائقاً ثرياً عند جيل الرواد الأول .
وهنا نحن في غنى عن التأكيد من خلال المقولة الأخيرة للمؤلف يصف فيها قراءاته النقدية بأنها نفي للمنهجية,, وعودة إلى جيل الرواد الأول، اي العودة إلى المدرسة الذوقية منذ النابغة الذبياني حتى طه حسين، ممايؤكد على العودة إلى طفولة الكتابة النقدية التي شاخت على أيدي البنيويين والتفكيكيين، وقد كان المؤلف نفسه واحداً من هؤلاء.
لقد قرأت مرة فكرة ساخرة في مظهرها، وفي ذاتها حقيقة، تجيب على التساؤل التالي: ماذا نفعل بعد التفكيكية/ ما بعد الحداثة؟.
فكانت الاجابة: نعود إلى المحاكاة, والمحاكاة تعني تعبيرية الكتابة الانشائية الشفافة الواضحة ذات السهل الممتنع,, وذوقية القراءة النقدية التعليمية,, فهل فعلا عادت الكتابة إلى فضائها الماضي مع بدايات القرن القادم؟,, ربما هذا هو الهاجس الذي بدأت روحه تسري داخل الكتابة النقدية الجديدة، وداخل النصوص الجديدة نفسها.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

لقاء

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved