Thursday 16th December, 1999 G No. 9940جريدة الجزيرة الخميس 8 ,رمضان 1420 العدد 9940


الشاعرة ثريا العريض
نقادنا خلطوا الأدوار، ونطالبهم بالنزاهة والشفاء من عدوى النخبوية

في عصر هموم العولمة ومطالب التقنية ومعالم التراجع الحضاري واتساع الهوة بين موقعنا وموقع الريادة، قد لا تكون القضية التي تطرحها مصيرية فعلاً,, ولكنها قضية تشغل أفكار الكثيرين على الساحة الثقافية والأدبية بالذات,, مما قد يدلك على حجم الهوة بين واقع انشغالاتنا الهامشية وفداحة تخلفنا الثقافي, ما تشير إليه يحمل إلى البال تداخل عدة اشكاليات تتفاعل في بوتقة واحدة فتربك وضوح تفهمنا لها، منها: إشكالية ماهية الإبداع ومعاييره، وما هو دور النقد، وأين موقعه من الإبداع,, أيهما العربة,, وأيهما الحصان؟، وإشكالية الكم والنوع,,، واشكالية الرواج على الساحة والتفرد المجدد,,، واشكالية الدوافع الفردية والأدبيات المهنية في كل من الناقد والأديب.
وهي اشكاليات نرى تفاعلاتها ونتائجها في ظواهر مثل تلك التي تشير إليها من انحسار النقد وتضاؤل عدد النقاد الفاعلين أو المنتجين، وانصراف العاملين في النقد عن تناول الأعمال الأدبية المتكاثرة في الساحة.
ولأن كثرة الأعمال الأدبية في الساحة ليست في حد ذاتها دليلاً على جودتها أو اثباتاً بان الساحة تتمتع بصحة جيدة، ظاهرة عزوف النقاد عنها قد يشير إلى قصورها عن إثارة اهتمامهم النقدي أو يشير إلى عدم تمتعها ببلوغ درجة التميز، فهل نطالب النقاد بتناول أي عمل مطروح على الساحة أو نترك لهم حرية الاختيار,, ومن هو الذي يطالب؟ القارئ الذي يحتاج إلى ناقد يضيء له الأعمال الأدبية التي اتسعت الشقة بينه وبينها؟ أم المبدع؟ أم الذي يحس أنه لم يصل إلى كفايته من الأضواء ويرى دون الناقد أن يبرز اسمه لكي يتعالى التصفيق بغض النظر عن مستوى أدائه الحقيقي؟
هذه الاشكاليات تتداخل فتزيد ضباب الساحة وفي محاولة إزاحة العتمة الناتجة تفرز شعوراً بالتأزم لعدم اتضاح الرؤية يثير المزيد من الأسئلة المباشرة: كيف يتم الحكم على العمل الأدبي؟ بكونه متفرداً في تميزه في حد ذاته أم بكونه يناسب مرئيات الناقد من حيث التميّز؟ وفي الحالة الأولى، أي في غياب الناقد المرموق المعترف له بثقل الرأي الذي يتبنى إظهار تميّز مبدع ما أو الإشارة إليه، ما هو المعيار البديل الذي يظهر تميّز العمل الأدبي مقارنة بغيره؟ ثم هل يعني شيوع أسلوب ما على الساحة أن هذا الأسلوب يلاقي فعلاً تقبلاً من المتلقي بمعنى أنه رائج في السوق، أم استسهال وبالتالي إقبال على استخدامه من محترفي العمل الأدبي؟ وهل يخضع الحكم على جودة العمل الإبداعي لسيادة هذا الوضع المؤقت أو ذاك، أم يجب أن يترك للنص أن يثبت موقعه بعد اجتياز امتحان محك الزمن، خارج صخب التيار السائد؟
ثم هناك أدباء مقلون في عدد أعمالهم معترف لهم بالتميز وهناك أدباء مكثرون مع الاحتفاظ بمستوى التميز,, وأدباء ذوو مستوى عادي سواء قل انتاجهم أو كثر، فهل نلغي عامل الإكثار من الانتاج كمعيار لتفوق الأديب وبالتالي معرفة النقاد به أو اقبالهم على تناول أعماله؟,, أم إن الإكثار يرتبط بامتلاك مهارة الكتابة ولكنه لا يضمن تميّز الناتج من حيث الإبداع في كل مرة,, ولذلك لا يضمن بروز الأديب ولا إقبال النقاد على دراسة ما ينشر؟
وما هو دور النقد في كل هذا؟ وهل كل من تشبث بلقب ناقد يمتلك كل مقومات التخصص المهني في النقد بما في ذلك الاطلاع الوافي على مختلف التوجهات النقدية القائمة والتاريخية؟، والحيادية تجاه ما يقرأ ليحكم عليه دون تحيّز أو تبرير يعود الى مسببات ودوافع فردية مثل الميل لهذا المبدع أو كره ذاك؟، والدخول في حلبة النقد لتأدية مهمة يحترم فرضياتها، وليس من منطلق الدوافع الأدنى كالإثارة للبروز الفردي، أو للاسترزاق مثلاً؟
الناقد في ملخص الأمر قارئ متلق، ولكنه متلق متمرس يمتلك أدوات تفهم النص أو تأطيره في مرجعية أوسع تسمح بالمزيد من التفهم,, ولكن هل يعني هذا ان الناقد بيده عصا سحرية يغير فيها من حقائق الأمور الإبداعية؟ مثلاً ان لأسباب شخصية خارج معايير الإبداع، يصنف النص الضعيف قوياً عبر اختلاق جذور مرجعية ليست له أو ابعاد معنوية ولغوية أو مبررات تفسيرات سياسية أو اجتماعية تجعل له قيمة أكبر؟ الناقد إذن مطالب بالنزاهة النقدية أو الحيادية كما سميتها,, السؤال الأهم هو كيف تحكم على نيات النقاد لتعرف إن كان نزيهاً أو لا؟ هل تسيره مشاعر ورغبات في داخله واضحة أو ليست واضحة له,, أم هو في قراءته وأحكامه حيادي فعلاً,, أو ربما حتى مجدد ذو رؤية متفردة؟
والمبدع بدوره هو غالباً فرد موهوب بقدرات التعبير يأتي غالباً مكتظاً بانفعالات ذاتية وفردية تجاه نفسه ومحيطه ومتغيرات حياته الخاصة والعامة,, فينفس عن تأزمه في مواجهتها بالتعبير اللغوي في نص ما.
ولكن القدرة في أي مجال كان تستدعي الاحترام والتقدير وبالتالي تجتذب الراغبين في الحصول عليهما,, ولذلك حول أي مجال للقدرة هناك قادرون فعلاً وهناك أدعياء متظاهرون,, حول النخبة من المبدعين يتوالد الكثير من أدعياء الإبداع والمطالبين بأوشحته,, ومع القلة من النقاد يتجمهر كثيرون من المطالبين برتبة ناقد ممن لا يستحقونها إذ لا يملكون قدراته ولا رؤيته ولا حتى أدواته.
ربما المشكلة هي أن النقاد في أوضاع تكاثر مدعيي الإبداع الأدبي خلطوا الأدوار واستحلوا أن يزيلوا الحواجز بين العربة والحصان,, فحين حققوا الاعتراف العام بأن النقاد هم المرجع الأقدر على تمييز الإبداع المتميّز، تجاوزوا ذلك الإنجاز إلى التطلع إلى صدارة رتبة الإبداع نفسه، واستحل بعضهم التحول من موقع اضاءة الإبداع للمتلقي حيث يظل المبدع أو على الأقل نص المبدع هو مركز الاهتمام، الى موقع التنافس مع المبدعين، وحللوا ذلك التحول بتبرير مراوغ عبر إعلان ابداعية النص النقدي, بل إن بعضهم أوصل هذا التبرير إلى درجة ان النص الإبداعي ليس مهماً في حد ذاته وكما قصد به المبدع، الأهم هو كيف يقرأ المتلقي النص وما يصله منه عبر استيعابه الخاص ليعطيه رؤية خاصة، وطبعاً الناقد هنا هو ذلك المتلقي الذي يتمتع بأقصى قدرات التذوق الخاص والرؤية النافذة وما يراه في النص يغني عن النص الأصلي ذاته,, وما يكتبه عن النص هو الإبداع الأرقى من النص ذاته!!
أرأيت كيف تسلل الناقد إلى مشروعية صدارة الأضواء عبر تسخير النص الأصلي لخدمة أغراضه,, حتى لو تطلب الأمر إلغاء النص الأصلي المظلوم؟ والأشد من ذلك أنهم ما عادوا يكتبون للمتلقي,, بل أصيبوا بعدوى النخبوية في اللغة فأصبح الخطاب النقدي موجهاً لرفاق النخبة,, النقاد الآخرين,, وبذلك انفصمت الساحة النقدية عن الساحة الإبداعية وأصبحت ذاتية التمركز تهتم بما ينتجه النقاد وليس ما ينتجه المبدعون.
ربما يفسر هذا قلة النشاط النقدي كما اعتدنا ان نفهمه مركزاً على النصوص الإبداعية,, وربما يزيد ذلك صعوبة اقناع المتلقي لالإبداع النقدي بأن هذا الزميل الناقد تفوق على الرفاق في ساحتهم النخبوية, وربما أيضاً هذا هو ما فتح الساحة لنصوص تتكاثر من مستوى الشويعر والأويدب ونشاط نقدي ضعيف من مستوى النويقد أو مزيف من نوعية شيلني وأشيلك ,, وحتى ما سميته انت قراءات انتقامية تتلثم برداء النقد.
ويبقى أن أقول تعليقاً على سؤاليك إن الإبداع لا يمكن أن يتواجد بكثرة على الساحة,, الإبداع بطبيعته نخبوي ومقتصر على القلة من ذوي الموهبة,, والمبدع لا يحتاج النقاد ليبدع,, ولكننا كمتلقين نحتاج إضاءات الناقد المتمكن والنزيه.
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

لقاء

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved