Friday 17th December, 1999 G No. 9941جريدة الجزيرة الجمعة 9 ,رمضان 1420 العدد 9941


شخصيات قلقة
جوليت ريكامييه 1777 1849م
من القصور إلى الجحور

نفيت جوليت ريكامييه إلى خارج الوطن,, واصيبت بالعمى اثر جراحة فاشلة في عينيها,, عرفت عيشة القصور كما عاشت ايام الفقر,, وأخيراً قضت نحبها وهي عجوز عمياء مصابة في وباء الكوليرا عام 1849م, ومن يتتبع سيرة هذه السيدة يجد ان بواكير حياتها اختلفت كل الاختلاف عن خواتيمها، فالفتاة الشابة ابنة الموظف الكبير، والتي تزوجت من احد اثرياء باريس وعاشت حياة رغدة في قصره، لم تستطع ان تبقى اسيرة لتلك الحياة الرتيبة، فسرعان ما خالفت التقاليد العريقة في الازياء، ونبذت الثياب الفضفاضة والاكمام الطويلة، ثم أقامت صالونا أدبيا يؤمه المشاهير وصفوة المجتمع الفرنسي من ساسة وفنانين حالمين,, تاليران، باراس، جيراندو، شاتوبريان، وغيرهم، ممن يلتقون ليلقوا بالمقطوعات الشعرية وبالفصول المسرحية والمشاهد التمثيلية، ففي صالون مدام ريكامييه قرأ بلزاك احدى رواياته، كما اقنعت تلك السيدة الناقد الشهير سانت بيف بأن يكتب نقدا لمؤلفات شاتوبريان، ووصفها الناقد المعروف جان جاك امبير قائلا إن عطف مدام ريكامييه خلال ثلاثين عاما علي قد ملأ حياتي، كانت بالنسبة للكثيرين من امثالي رمزا للاسرة السعيدة، وقال لامارتين: إن مجد فرنسا كله وسحرها كانا قابعين في صالون مدام ريكامييه وفي شخصها.
ولم ينقطع الصالون الادبي لمدام ريكامييه إلا عندما فوجئت بنبأ اعتقال ابيها الذي كان يشغل منصب مدير دائرة البريد، على اثر اكتشاف مؤامرته ضد الحكومة والقنصل الاول بونابرت,, حاولت مدام ريكامييه الافراج عن ابيها من خلال الاتصال بأصدقائها من ذوي النفوذ لانقاذ ابيها من الاعدام، ولولا المارشال برنادوت (ملك السويد فيما بعد) لكان ابوها في عداد المحكوم عليهم بالاعدام,.
ويبدو ان تلك الحادثة احيت في جوليت ريكامييه الجانب الثوري والمتمرد في شخصيتها إذ كانت احد زعماء الحزب الدستوري، وسبق ان عُدل الدستور الفرنسي عام 1789م في بهو دارها، مما كان يجعلها خاضعة بشدة للمراقبة من قبل اجهزة البوليس, وفي عام 1803م وضعت على رأس القائمة السوداء وفي طليعة المعارضين لنابليون وسياسته، وذلك على اثر القرار الذي اتخذه بونابرت بنفي صديقتها مدام دي ستايل إلى المانيا, ومرة اخرى تخضع للمراقبة من قبل البوليس، ومما زاد الطين بلة ان مركز زوجها المالي اهتز بشدة وفقد كثيرا من ثروته الكبيرة، وحاول نابليون في تلك الفترة ان يتقرب منها معتمدا على الترهيب والترغيب لكنها رفضت محاولاته، وصدت الاغراءات التي يعرضها فوشيه وزير الشرطة العامة، وأصرت على المطالبة بعودة اصدقائها المنفيين وعلى رأسهم مدام دي ستايل.
الثمن
وكان لابد ان تدفع ثمن صلفها وعنادها حين اعلن رسميا افلاس زوجها، وكان السبب الاساسي رفض وزير الخزانة وقتئذ ان يسلف السيد ريكامييه مليونا من الفرنكات، وكان حقد الامبراطور والحاشية يدور في الخفاء لتحطيم تلك السيدة وأسرتها، وجاء تقرير وزير الخزانة معبراً عن روح الحق والانتقام إذ أعلن ان الدولة لاتدين المال إلا للتجار الموثوقين!! هكذا ببساطة يسقط احد كبار الاثرياء في باريس، لتصاب جوليت بنوبة قاسية من الاحساس بالذنب تجاه ما أصاب زوجها، وانها سبب غير مباشر فيما حدث!! ضاعف من آلامها وفاة امها في تلك الفترة، لتفقد سنداً غالياً في وقت عصيب، مما اضطرها لتأجير القصر (وكان مسجلا باسمها) كما باعت حليها وانسحبت من المجتمع الى عزلة مختارة.
أثرت النكبة المزدوجة التي اصابتها، تأثيرا سيئا على صحتها، ونصحها الاطباء بالقيام برحلة والابتعاد عن جو باريس، فلجأت إلى جنيف حيث تعيش صديقتها المنفية مدام دي ستايل وأصدقاؤها القدامى, كانت في الثلاثين من عمرها، في اوج الشباب والجمال، لكنها كانت شاحبة وحزينة تظن ان شبابها قد ولي، وان حياتها وصلت إلى النهاية,, إلى الفقد والخسران,, ربما تكون قد عاشت في القصور وعرفت الثراء لكنها لم تعرف السعادة,, هناك فرق كبير في السن بينها وبين زوجها الثري، كما انها لم ترزق منه بطفل,, هناك قلبها الذي اغلقته تماما أمام مناوشات الضيوف والاصدقاء، حيث مازالت التقاليد والوفاء للزوج يمنعانها من اللهو ومن الانحدار إلى الهاوية.
لكنها لم تستطع ان تقاوم عاطفة الحب في المنفى الاختياري حين تعرفت على اوجست اميربروسيا، الذي كان يصغرها في السن، والذي وقع في غرامها على طريقة فرسان العصور الوسطى (وربما طريقة انا كاريننا التي صورها تولستوى فيما بعد), قدم لها امير بروسيا العديد من الهدايا وتبادل معها الرسائل لكنها لم تتزوجه.
ومنذ قرار النفي الى وفاتها عاشت مدام ريكامييه سنوات عديدة تعاني الوحدة وآلام الفقد، حيث ساءت صحتها بعد وفاة مدام دي ستايل اعز صديقاتها، كما فقدت زوجها الذي كان بمثابة الاب لها والذي عملت جاهدة على الوفاء له,, وتستمر قائمة المآسي إلى انتهت بالعمى ثم الموت مصابة بوباء الكوليرا,, ورغم كل هذا فإنها لم تتوقف عن عقد صالونها الادبي بعد ان استأجرت جناحا في احد الاديرة، إنها الرغبة العارمة في الاستمرار وكأنها اشبه بسمكة تقاوم التيار والعواصف بحثا عن مكان آمن إلى ان تجد نفسها فجأة خارج المياه تجتر الاسى والحزن.
شريف صالح

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

مقـالات

الثقافية

الاقتصادية

أفاق اسلامية

لقاء

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير



[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved