الأسواق والمرجعية التقنية د, عبدالعزيز علي الخضيري |
أجازت الإدارة الزراعية USDA في الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً طرح اللحوم المعالجة بالإشعاع أمام المستهلك الأمريكي, وقد يبدو للقارىء العزيز أن المسألة هنا مثيرة للقلق خصوصاً للمستهلك المحلي في بلادنا إذ مايزال القلق يراوده تجاه منتجات غذائية كثيرة في الأسواق المحلية بسبب عدم وضوح الرؤية أمام هذا المستهلك، فكيف سيكون الحال إذا ما برزت إلى السطح فكرة تناول اللحوم المعاملة بالإشعاع!
وهناك مبررات قوية تستند إليها الإدارة الزراعية الأمريكية فهي ترى وفق ماهو متوفر من أدلة علمية أن المعالجة بالإشعاع لا تغير من خواص اللحوم المعالجة أو تفقدها شيئاً من قيمتها الغذائية بخلاف تغير بسيط في الطعم وهي لا تترك أثراً تراكمياً لأي مواد مشعة, أما هدف تلك المعالجة فهو تعقيم اللحوم وذلك بقتل البكتيريا الضارة مثل السلالات المميتة لبكتيريا القولون, وسوف يجد هذا الأمر طريقه إلى حيز التنفيذ خلال الشهرين القادمين.
هذا القرار لم يكن وليد المصادفة، لكنه جاء نتيجة جهد طويل من البحث العلمي الرصين شاركت فيه مراكز بحثية متعددة وبدعم كبير من القطاع الخاص الأمريكي، ولهذا جاء القرار متأنيا وهو أيضاً محل تقدير من قبل المستهلك الأمريكي.
والوضع مختلف تماماً في الأسواق الأمريكية، فالبائع هناك ملزم وبحكم القانون بوضع الملصقات واللوحات التي توضح نوعية المنتج الغذائي المعروض، ولذا فإن عرض اللحوم المعالجة بالإشعاع من قبل البائعين يجعلهم ملزمين بوضع الإشارة الدولية الدالة على المعالجة بالإشعاع radura على جميع اللحوم المعالجة، وهو أي المستهلك الأمريكي صاحب القرار.
هناك فرق كبير بين الأسواق الغذائية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ومثيلاتها في الدول العربية, ففي الأولى هناك مستهلك واع وجهات رقابية صارمة ومرجعيات تقنية معتبرة، أما في الأخيرة فالمستهلك يفتقر إلى سمة الوعي وهناك وجهات رقابية ضعيفة وفوق هذا وذاك لا يوجد مرجعيات تقنية محددة يمكنها الفصل بين ماهو ضار وغير ضار وبين ما هو في حدود المسموح به وغير المسموح به في عالم صناعة الغذاء.
مانحتاجه في بلادنا العربية هو الاهتمام بثلاثة عناصر رئيسية.
الأول هو تشكيل عقلية المستهلك الواعي بحقوقه وواجباته تجاه المنتجات الغذائية المنتشرة في الأسواق العامة، إذ يظهر هذا المستهلك سلبية كبيرة تجاه هذه الأسواق، فالقليل من هؤلاء لديه القدرة على تجنب المنتجات الغذائية المحظورة إما لسوء حالة العرض أو نهاية صلاحية المنتج أو بسبب بلد المنشأ تماما كحظر منتجات اللحوم ومشتقاتها ذات المنشأ البلجيكي بسبب المخاوف من التلوث بمادة الديوكسين.
أما الثاني فهو تفعيل دور الجهات الرقابية، وقد سرت إلى هذه الجهات عدوى مقيتة ألا وهي إلقاء اللوم على المستهلك في تعامله من المنتجات المحظورة دون أن يكون لهذه الجهات الرقابية دور فاعل, مقولة إن المستهلك هو حجر الزاوية في مراقبة الأسواق صحيحة لكنها غير فاعلة بدون دور رقابي صارم يضمن توقيع أقصى العقوبات على الأسواق والتجار المخالفين.
وثالث هذه العناصر هو ضرورة الركون إلى مرجعية تقنية معتبرة, وفي ظني أنه عنصر مهمل تماماً في علاقتنا مع المنتجات الغذائية, ولعل الصحافة اليومية أكبر شاهد على هذا الإهمال, نحن هنا لا نلقي اللوم على الصحافة لكنها تقدم لنا يومياً نماذج حيّة لجدل لا ينتهي حول قائمة كبيرة من المواد الغذائية المعروضة في أسواقنا المحلية, الملونات والنكهات والمواد الحافظة والخضار المعاملة بالمبيدات الزراعية وكذلك المضادات الحيوية في اللحوم، كلها أمثلة على جدل تقني علمي بين أكثر من جهة حكومية وغير حكومية بما فيها الجامعات ومراكز الأبحاث.
هل يمكن الاعتماد على مراكز الأبحاث الملحقة ببعض القطاعات الحكومية كوزارة الزراعة والبلديات ومصلحة المياه وكذلك تلك الملحقة ببعض مؤسسات القطاع الخاص وذلك لتقرير صلاحية المنتجات التي تخرج من تحت مظلة أي من هذه القطاعات، أم يجب الاعتماد على مراكز البحوث الأخرى في الجامعات والمستشفيات ومدن الأبحاث؟
سيظل هذا الجدل العقيم قائما في الصحافة وكل وسائل الإعلام مالم يوجد مرجعية أو مرجعيات تقنية متعددة تبعاً لنوع المنتج وظروفه الإنتاجية، وقد تكون تلك المرجعيات ذات اتصال مباشر بخطوط الإنتاج والاستيراد أو مستقلة بعيدة كل البعد عن هذه العمليات.
مايدعو للتفاؤل حقاً هو أن كل مانحتاجه هو إعادة ترتيب المهام بين الجهات الحكومية والخاصة وليس الاعتماد على مرجعيات تقنية أجنبية، ومايزيد من جرعة التفاؤل أيضاً هو أن بلادنا باتت غنية بالتجهيزات الأساسية اللازمة لإجراء الأبحاث العلمية على اختلافها,
نحن قادرون بما لدينا من إمكانات تقنية وقدرات سعودية مؤهلة أن نحقق قدراً من المنهجية العلمية اللازمة لرفض أو قبول كل ما له علاقة وثيقة بالصحة والمرض.
|
|
|