مع التربويين التربية بالعبادة: شهر الجود والسجود د, عبدالحليم بن إبراهيم العبداللطيف |
إن من أهم خصائص هذا الشهر العظيم:
كبح جماح الشهوة:
إذا كان المسلم يعلم علم اليقين أن الصوم هو الإمساك بوجه عام فليتذوق حلاوته ليجن ثمرته حيث يصل المسلم بالنفس الأمارة بالسوء إلى السيطرة عليها وكبح جماحها والأخذ بزمامها وتوجيهها الوجهة الصائبة الوجهة السليمة والكريمة الراشدة الموصلة إلى الغايات الحميدة والمقاصد السعيدة، فهو يصل بالنفس إلى تطهيرها وتنقيتها وتزكيتها وشفافيتها، وهو ينظم تماماً العلاقة بين الإنسان وربه وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس أجمعين.
تجنب الشرور والآثام والوقاية منها:
وضح ذلك جلياً في التوجيه النبوي الكريم قال عليه الصلاة والسلام: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولإ يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم, والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه .
إن الصوم فريضة ربانية وشعيرة إلهية لذا وجب على المسلم أن يتعامل به ومعه من خلال تعامله مع فرائض الله قبولاً ورغبة ومحبة وتسليما وفرحاً بهذا الشهر الكريم وغبطة بهذه العبادة الكريمة وانقياداً تاماً لأمر الله، وفي هذا الامتثال والاشتغال بهذه العبادة أثر عظيم على الفرد والجماعة ماديا وروحيا وصحيا واجتماعيا، لذا يجب على المسلم ليكون صومه صحيحا وموافقا لمراد الله، أن يهيئ نفسه مسبقاً لهذه العبادة، ويتعمق كثيرا في معطياتها ومدلولاتها ليخرج بنفسه من التبعية والتقليد والآلية الجامدة، مفكراً ومتذكراً ومتأملا في هذه العبادة وكيف يؤديها وفق شرع الله وكيف تكون المكاسب والمغانم والأرباح وكيف تكون هذه العبادة جرعةً واقيةً ومصلاً مفيداً طوال عامه، ويتجدد معه هذا اللقاح الواقي بإذن الله كل عام مدة عمره ففيه خير عظيم له ولأمته ملاحظا في صيامه أشياء كثيرة واقية ومعينة ومنها على سبيل المثال ما يلي:
1 أن يحفظ جوارحه عن المعاصي والآثام والإجرام، ولا يقصر ذلك على البطن والفرج كما يفعل البعض، فيطلق لسانه وبعض جوارحه للآثام والمخالفات والمنهيات.
2 لا يأكل إلا الحلال الطيب ولا ينتفع إلا به فلا يلبس من حرام ولا يجلس عليه ولاينفق على نفسه أو غيره إلا من طعام طيب يعرف مدخله واصله وكيف وصل إليه فأكل الحرام والسحت والانتفاع بهما يخالف نهج المسلم في جميع أحواله وخاصة حالة الصيام، والمسلم أيضا في صومه يتأدب تماما مع إخوانه وخلانه وجيرانه ويحس الجميع أثر الصوم في سلوك أفراد المسلمين، والأمة الاسلامية حال صومها لابد أن تظهر بمظهر الأمة الواعية المدركة وتطبع كلها بطابع الإسلام فيرى الناس اجمع اثر الصوم ومعطياته في رمضان وغير رمضان، والمسلم لا يسرف في شراء وجمع وتناول الحلال والمباحات أيضا لئلا نخرج هذا الشهر من قدسيته وروحانيته ونخرج هذه النعم العظيمة من طريقها الصحيح إلى إسراف ومباهاة، والمسلم دوماً قلبه بين الخوف والرجاء فليس يعلم هل قبل صومه أم لا.
وباستسلام المسلم لهذه الآداب يعطي نفسه حصانة قوية ومتينة من إغراءات الشيطان الذي قال الله عز وجل فيه (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين).
إدراك الحكمة من تخصيص هذا الشهر:
من الآداب التي يجب أن يعرفها ويلتزم بها المسلم في صومه إدراكه لحكمة ومكانة هذا الشهر العظيم ومن تخصيصه بالصيام، فمن أدرك الحكمة بدقة ووضوح أدركها بقلبه الواعي وفكره السليم وسلوكه المستقيم، أدرك الأدب الرفيع والخلق المنيع والصفات والسمات القويمة التي هي خلق المسلم على الدوام والحكمة جلية وواضحة في قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) فهذا تحبيب وتشويق ندي رخي مؤنس في أداء هذه الفريضة العظيمة صوم رمضان الشهر الذي نزل فيه القرآن، الذي أخرج الله به هذه الأمة من الظلمات والجهالات إلى نور العلم والفهم وصلاح الآخرة والأولى فجمع الله به الشتات وقضى على الفرقة والاختلاف وأبدل الله الأمة به عزاً وأمناً ورخاءً وصلاح بال وحال ومآل، وهبها مقوماتها الصحيحة التي صارت بها أمة ولم تكن من قبل شيئا وهي بدون هذه المقومات لا تكون شيئا لا حالاً ولا مآلاً، وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء، كما كانت قبلاً، وفرائض الإسلام ومنها الصيام كلها خير وبركة وبر وإحسان عاجلا وآجلا (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) هذه تكاليف الإسلام ميسرة سهلة لا عسر فيها ولا شدة ولا عنت ولا مشقة، فهي بمزاولتها وفهمها الفهم الصحيح تطبع نفس وخلق المسلم بطابع السماحة واليسر، فلا تعقيد ولا جمود، بل طمأنينة وثقة ورضا، مع الشعور الدائم بالعزة والنصرة والتأييد، ومدد الله وعونه، والمسلم يجد هذه النفحات والرحمات والقرب والملاذ الأمين في سائر الطاعات, وفي الصوم خاصة، يشعر المسلم بالهدى والقرب محسوساً ملموساً وبالصحة البدنية والنفسية، وهكذا تتجلى بوضوح، الغاية التربوية من الصيام فهو اعداد تربوي متميز لهذا الإنسان المسلم الذي أراد الله له الخير والصلاح والفلاح (لعلكم تتقون)، كما يتجلى في مدرسة الصيام والقيام واطعام الطعام الواجب العظيم الملقى على عاتق هذه الأمة (خير أمة أخرجت للناس) إنه إعداد دقيق منظم لهذه الأمة من أجل الواجب الكبير الذي اخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء مميزا، تحرسه التقوى ومراقبة الله والرغبة في طاعته والانقياد لأوامره ونواهيه.
حقا إن الصوم الصحيح عبادة متميزة تطهر القلب وتوقظ الروح وتسمو بالنفس النفيسة إلى أشواقها كما تطلق النفس الحبيسة في الشهوات والملذات والرغبات العاجلة، من مال وجاه ومنصب وغير ذلك من خُدَع ومتع الحياة الرخيصة، إلى آفاقها العالية والكريمة وكل هذا تصوره ألفاظ القرآن الكريم (لعلكم تتقون) وهي ألفاظ عميقة دقيقة مصورة معبرة، ألفاظ رفافة شفافة شيقة كأنها مصابيح في ليل بهيم, هذه العبادة تستمر شهراً كاملاً لحكمة أرادها الله تطهيراً وتنويراً وإعداداً وإسناداً وصقلاً لهذه الأمة الماجدة، ويتكرر الدرس كل عام لينمو الغرس فشهر رمضان بما أنزل فيه من قرآن واختصاصه بليلة القدر وفريضة الصيام فيه نال ما نال من تكريم.
فوائد الصيام التربوية:
الصوم قيمة عظيمة قيمةٌ في حد ذاته لأنه منهج لإصلاح النفس ولما له من اثار عظيمة يدركها اصحاب الفكر السليم والصيام المنضبط، والمسلم في صيامه وقيامه وصدقاته وهباته وأُعطياته ومكارم أخلاقه يرتقي إلى مراتب أعلى وأسمى وهذه الدرجات تؤثر تماماً في النفس كما يلي:
1 إذا صام المسلم الصيام المراد شرعا عمق وغرس في نفسه خلق المراقبة والمحاسبة والمتابعة الذاتية للنفس في كل وقت وحين، كما يغرس ويؤصل الصوم الصحيح خلق الصبر والمصابرة والمثابرة، والأناة والتبصر التربوي المراد في كل الامور فهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة.
2 في الصوم الشرعي تربية كاملة وشاملة للعزيمة الصادقة التي هي مرتكز ومنطلق أمور الدين والدنيا، وفي الصوم الصحيح كسر لنوازع الشهوة وضرورات الجسد، وضبط وربط لهوى النفس، وما ينشأ عن ذلك من غضب وانتقام.
3 للصوم الشرعي ميزة كبيرة على سائر العبادات، وهي أن جميع العبادات عمل بالجوارح، أما الصوم فهو امتناع باطني، لأنه كف للنفس عن بعض ما تعودت وهي مرحلة تدريب البدن على ضبط الأجهزة الداخلية من جهازهضمي وغيره من الكف عن الأطعمة التي ألِفها هذا البدن طول عامه.
من هنا تأتي أهمية الصيام ومزيته على سائر العبادات فهو حرمان يقوم على حراسته إيمان، ومثابرة على الطاعة وصبر عليها وكل ذلك يؤدي إلى تقوية وتعميق وتثبيت الإيمان وتأصيل اركان العقيدة في النفس الإنسانية، كما يغرس ذلك الجانب العملي في العبادات والمعاملات، والأخلاق الإسلامية العالية التي يتميز بها المسلم في كل حين.
4 الصيام سر بين العبد وربه، وهذه السرية تولد لديه المراقبة والتدريب على الجوع وفقد حظوظ النفس البهيمية، وذلك كله يطبعه بطابع الصبر والحلم والأناة، وضبط النفس في مواطن ضعفها وما أكثرها في دنيا الناس، كما أنه يضيق دروب ومسالك الشيطان إلى هذا الإنسان.
كما أن الصوم ينمي في نفس المسلم القدرة على التحمل، إذاً هو تربية نفسية أخلاقية بالدرجة الأولى, ومن هنا ترتفع مستويات الأخلاق لدى الأمة المسلمة الصائمة الصيام الصحيح وتعلو الهمم وتبلغ القمم، وتكبر النفوس، وتحيا الضمائر، وترتفع عن الصغائر ويتقارب المسلمون ويتحابون ويتآلفون، باتفاقهم على أمور عدة حققها الصيام لهم، فنراهم يمسكون في وقت واحد (عدا فارق التوقيت) يمسكون عن الطعام والشراب وسائر المفطرات والمنهيات، كذلك يفطرون في وقت واحد، ومن هنا ترتفع الأرواح عالية في مدارج الرقي، في معارج الأخلاق والصفات والطباع السامية الكريمة والخلال النبيلة وهي كلها أهداف مرادة في الصوم الصحيح، ومع تكرر هذه العبادة عاماً إثر عام يتكون المجتمع المسلم، والمسلم الصالح في نظر الإسلام ومنهجه الفريد، والصيام بهذا المفهوم النبيل يعيد للأمة قوتها ووحدتها وتماسكها، وللافراد ترابطهم وودهم واحترامهم.
إذاً كيف كان الصيام في أعقاب الزمن لدى البعض سبباً لإهمال العمل، والملل والضجر منه، والعبوس أحيانا في وجوه المسلمين وثورة الغضب لأدنى سبب؟ إذاً لا مكان في صوم المسلم لتبرير مهمل او تقصير مقصر أو سوء خلق بل هو مكان رحب للتلاقي والتصافي والتماسك والترابط تحت مظلة التوحيد وتلبية نداء الحق جل وعلا (وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون) والله الهادي والمعين.
|
|
|