Tuesday 28th December, 1999 G No. 9952جريدة الجزيرة الثلاثاء 20 ,رمضان 1420 العدد 9952


منذ فجر الإسلام حتى اليوم,.
السودان,, الغائب الحاضر
حمّاد بن حامد السالمي

يشكل السودان اليوم عمقاً جغرافياً وثقافياً مهماً في القارة الأفريقية، التي تموج بكافة الصراعات الثقافية والأيدلوجية وحتى العسكرية، وتتلاقى عند هذا الصراع شتى القوى العالمية، التي تسعى جاهدة من أجل ترسيخ أقدامها، وتأمين مصالحها، وتحقيق مآربها وأهدافها، ومن هذه المآرب والأهداف، وقف المد الاسلامي وتحييده، حتى لا يصل مجدداً الى ما كان عليه في قرون ماضية، من انتشار وحضور في غرب وجنوب افريقيا، التي ما كانت تعرف حتى القرن الخامس عشر الميلادي الا انها قارة عربية مسلمة، ثم انحسر هذا المد، وتقلص هذا الحضور بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح على يد المستكشف البرتغالي (فاسكو داجاما)، الذي دار حول افريقيا واصبح ميسراً من هذا التاريخ، وصول الأوروبيين الصليبيين الى كافة افريقيا، وجاء هذا الاكتشاف الذي حمل صورة جغرافية ردة فعل للمد العربي الاسلامي في شبه القارة الإيبيرية عن طريق الأندلس، وعقب الحملات الصليبية التي فشلت في اخضاع الشرق العربي عن طريق القدس، وهي خطة على شكل كماشة من الشمال والجنوب، لتقويض الدولة العربية الاسلامية ووأدها، ومع ذلك ظل السودان قلعة حصينة، وثغراً عربياً اسلامياً استراتيجياً، ليس لمصر جارته من الشمال كما قال بذلك بعض المؤرخين المصريين المعاصرين فحسب، وانما للعرب الافارقة والمشارقة على حد سواء.
على أن اتصال العرب بأرض السودان لم يكن وليد قرن أو قرنين أو قرون قليلة، وإن من يتتبع تاريخ الهجرات العربية القديمة التي تلت سيل العرم وتهدم سد مأرب، سوف يجد أصولاً تربط بين عرب الجزيرة العربية وسكان النوبة والسودان والحبشة، ابتداء من البربر قبل ظهور الاسلام، الى العماليق فيما بعد، والبحر الاحمر لم يشكل عائقاً بين شرقه حيث عرب اليمن والحجاز، وبين غربه حيث الحبشة والنوبة وبلاد السودان، ووجود أبرهة الحبشي على رأس الدولة اليمنية قبيل ظهور الاسلام، ومن ثم هجرة المسلمين الى الحبشة وحمايتهم من قبل ملكها النجاشي، ودخوله في الاسلام كما ترجح الروايات، في كل هذا دليل قاطع على عمق الصلات التي كانت تربط بين العرب وبين الأحباش والسودانيين، ومن ثم الانصهار الذي حدث بعد دخول الإسلام الى هذه البقاع، وما تبعه من هجرة جديدة من قبائل شمال الجزيرة العربية التي استوطنت شمال ووسط السودان.
أما دخول الاسلام الى بلاد السودان، فقد جاء من بوابة مصر، فقد دخلت النوبة التي تقع جنوبي مصر في الاسلام زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه في النصف الأول من القرن الهجري الأول، فعثمان رضي الله عنه صالح أهالي النوبة على اربعمائة رأس من ابلهم في السنة, وهؤلاء القوم مدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من لم يكن له اخ فليتخذ أخاً من النوبة),, وكان هذا ايام الفتوح الاسلامية، ويوم أن كان سكان النوبة ومن كان في الجنوب منها، من النصارى.
وبلاد النوبة التي عرفها المسلمون الاوائل، تمتد من اسوان حتى مفترق النيل وسط السودان, فهذه بلاد السودان اليوم، وكانت الحبشة قد عرفت الاسلام قبل هذا التاريخ بحوالي ثلاثين سنة, ولكن السودان نهضت بالدور الأكبر في نشر الدين الاسلامي والثقافة العربية والاسلامية الى وسط افريقيا وجنوبيها، وظلت مئات السنين بوابة العرب ومعبرهم الى وسط القارة السوداء، التي كانت مجهولة بالنسبة للأوروبيين حتى القرن السادس عشر الميلادي، وكان العرب يغبطون سكان السودان، لأنهم اصحاب ابل ونجائب وبقر وغنم وخيل عتاق وبراذين، ويرمون بالنبل عن القسي العربية، واشتهرت أرضهم بنتاجها من الحنطة والشعير والذرة والنخيل والمُقل والأراك، وفيها كما يقول ياقوت الحموي ينبت الذهب.
هذه مقدمة فرضت نفسها علي وأنا أجري بعض المحاولات لفهم ما جرى للشعب السوداني الشقيق الذي (توالت) عليه الثورات والانقلابات منذ العام 1856م ولم تتوقف، ومع كل انقلاب وآخر ترتفع رؤوس السودانيين ليس طلباً لشيء الا لحياة كريمة في بلاد أبية مشكلها الأساس هو الاقتصاد، وتوفير رغيف الخبز لثلاثين مليون نسمة، لقد شبعوا شعارات وتنظيرات و(تواليات) وانقسامات وانقلابات، ولكنهم لم يشبعوا من الخبز الذي يأتي عادة على رأس الشعارات التي يرفعها الساسة والزعماء، كيف لا والسودان هو سلة خبز العرب، ولكن هذه السلة ظلت فارغة من الخبز لأكثر من اربعين سنة، وما زالت.
إنه اذا كنا منصفين في حق الزعامات السودانية فإنه يمكن القول بأن سنوات حكم الرئيس اسماعيل الأزهري هي سنوات طفرة سياسية شهدها السودان، بعد ذلك لا أجد ما أقوله، فأهل السودان أدرى بشعابهم,, ولكن السودان في السنوات العشر الأخيرة ابتعد كثيراً عن لحمته العربية، وابتعد كثيراً حتى عن السودان نفسه! وكنا طيلة السنوات العشر التي انسلخت، ونحن نتابع ما يجري في هذا البلد العزيز على نفوسنا، نسمع جعجعة ولا نرى طحناً، ومع احترامنا للدكتور حسن الترابي الذي تصدر الواجهة السودانية منذ ثورة الانقاذ عام 1989م فإن طروحاته التي نادى بها منذ اليوم الأول، لا تنسجم مع بلد عربي مسلم، نعرفه حق المعرفة، وله تاريخ عربي اسلامي حافل منذ مئات السنين، لقد ظهر الترابي وكأنه ينشىء اسلاماً جديداً في السودان، ومن أجل هذا المشروع (الترابي) اتخذ السودان مواقف عدائية من كافة الجيران من العرب ومن غير العرب، وحتى الابعدين منهم، ودخل الشعب السوداني في عزلة تامة، وشعرنا في وقت من الأوقات أن السودان في حالة حرب دائمة، حرب مع ارتريا، واخرى مع إثيوبيا، وثالثة مع كينيا وأوغندا وزائير، ورابعة مع مصر، اما الحرب الأشرس فهي مع السودان نفسه، مع المناوئين والمعارضين جنوبيين وشماليين، ومن كان منهم في الداخل او في الخارج، لا فرق, ومما يحير في هذا الأمر وهو الذي لم اجد له تفسيراً حتى اليوم العلاقة التي تجمع وتربط بين الأصولية الجديدة للشيخ الترابي، وبين البعثية غير الدينية التي يتزعمها نظام صدام حسين في العراق، فالأصولية الجديدة التي يتزعمها الشيخ الترابي في السودان تبشر بالشريعة والعدل والمساواة والحريات وبعثية صدام حسين تقوم على تحييد الدين، وعلى القتل والتدمير والعدوان، ويأتي العدوان العراقي على الكويت مجسداً لروح الوفاق بين أصولية الترابي وبعثية صدام حسين,,! هذا أمر غير مفهوم بالطبع,, إلا ان يكون هو النفاق الوصولي الذي كشف زيف الكثرة من المزايدين بالاسلام، والمنادين بشعارات فارغة، تتخذ من هذا الدين ستاراً ووسيلة للوصول الى أطماع ومآرب بعيدة، وهذا الوضع ليس قاصراً على الشيخ حسن الترابي والسودان وحده، ولكنه أمر شاع وظهر في بلاد عربية كثيرة، حتى في بلدان الخليج التي عانت من العدوان، ارتفعت فيها اصوات نشاز كشفت عن عورتها.
وطيلة السنوات (العجاف) العشر المنصرمة، كنت أشعر بأن هذا البلد يسير برأسين لا رأس واحد، وهذه الوضعية القيادية كانت مستحيلة، لأنها سوف تؤدي بالسفينة الى الغرق، وهذا المعنى عبر عنه الرئيس عمر البشير بعد الحركة التصحيحية التي قادها في الرابع من رمضان فقال: (سفينة بريسين تغرق), أسال الله في هذا الشهر الكريم ان يجنب هذا الشعب النبيل الغرق، وان يوفق قيادته للابحار به الى بر الأمان.
* وتجربة القيادة برأسين ليست جديدة في عالمنا العربي، وكان السودان أولى بالاستفادة من التجارب السابقة، والذي كان آخرها التجربة اليمنية التي انتهت عام 1994م وسط بحار من الدماء,, كان الرئيس علي عبد الله صالح ونائبه الرئيس علي سالم البيض يسيران جنباً الى جنب، حتى اثناء الزيارات الخارجية، ويصعب على من لا يعرف، معرفة من هو رئيس الدولة، ومن هو نائب رئيس الدولة,,! وفي العام 1990 شاهدنا الاثنين الرئيس والنائب في مطار جدة وهما يتسابقان الى بوابة سلم الطائرة المغادرة ثم يقفان معاً ويرفعان يديهما لتحية المودعين، وكان احد المتابعين للتلفزيون يسأل الجالسين ونحن نسمع: من هو رئيس اليمن,, الايسر ام الأيمن؟ وكانت الاجابة أصعب، لصعوبة تحديد الجهة اليمنى من الجهة اليسرى التي يقصدها السائل,,؟!.
لقد جاءت خطوة الرئيس عمر البشير وكأنها تبشر بعودة السودان الى ما كنا نعرف عنه، ذلك البلد العربي المسلم الذي لا يخرج من ثوبه، والذي ينأى جانباً عن كل المواقف الحادة والمتطرفة والشاذة والذي يعمل على ان تكون ارضه هي بحق العمق الجغرافي والتاريخي والثقافي والاقتصادي لكل العرب, ومن وجهة نظر خاصة فإني اعتقد ان سودان المستقبل الذي ننتظره، لكي يتعافى ويتشافى، فإنه يحتاج الى أربع عمليات جراحية جادة وصادقة، وهذه العمليات لا تتم الا بأيدي ابناء السودان انفسهم شماليين وجنوبيين مسلمين ومسيحيين:
أولاً: العمل على حل ازدواجية القيادة، وألا يقاد السودان الا برأس واحد، يوفر لجميع السودانيين الامن والاستقرار، ويهيىء الظروف الملائمة للمصالحة والوئام، ومن ثم العمل على حل كافة المشاكل التي تعرقل التطور والبناء.
ثانياً: ان يتصالح السودان مع نفسه,, لقد كثر المعارضون والمناوئون والفرق والتيارات والأحزاب، ولكل منهم مطلب ومشرب، وهذا ليس في مصلحة شعب السودان، لا بد أن يحل الوفاق محل الافتراق وان يلتقي كافة ابناء السودان على كلمة سواء، ولعل في تجربة الوفاق اللبنانية واتفاق الطائف درساً يستفاد منه اليوم في المسألة السودانية.
ثالثاً: أن يتصالح السودان مع اشقائه العرب، وأن يعود الى لحمته العربية, فكما أن السودان عمق لمصر، فمصر هي الأخرى سند قوي للسودان، والمملكة العربية السعودية، ودول الخليج، تشكل البعد التاريخي والديني والنفسي الذي لا يستغني عنه السودان،والتصالح مع الأشقاء يتبعه بالضرورة تصالح مع دول الجوار الأفريقية، فالمشكل المعلقة تظل عرضة للانفجار في اي وقت، وهذا فيه اشغال وتهديد لبلد يبحث عن الأمن والاستقرار والانطلاق في مجالاته التنموية.
رابعاً: أن يسعى السودان بعد ذلك الى التركيز على المشكل الاقتصادي الذي هو سبب كل بلية في هذا البلد، يكفي الشعب السوداني السنوات الطوال التي قضاها في التنظيرات السياسية وفي الانشغال ب(ساس يسوس) حتى نخر السوس بلد الأنهار، وأرض الثروات الطبيعية التي لا تتوفر لبلد عربي مثله.
*,, إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم,,.
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير




[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved