Thursday 30th December, 1999 G No. 9954جريدة الجزيرة الخميس 22 ,رمضان 1420 العدد 9954


السردية الكابوسية والمكان 2
على الهامش
حسين المناصرة

1
ومن ناحية العلاقة الحميمة بين الشارع والبيت والموت، يمكن ان نكتشف في بطل قصة عبدالحفيظ الشمري ضجر اليباس بطلا معتدا بشموخه الى درجة انه يعد الناس من حوله دود الارض القرمزي الناغل ، وهو الذي لا ينحني حتى لشرب الماء,, بل يرفعه فوق جبينه ليتهادى منحنيا الى شفاهه 1 .
ثم يموت هذا البطل، فتلعب به افكار السارد الساخرة لعبة مكانية كابوسية، فتصفه بصفات تجعل موته كارثة ذاتية لجسده، فهو اولا تيبس في ثلاجة المستشفى المركزي، ثم حمل الى المقبرة ليدفن في عتمة قصية نائية: دفن قرب طفل دهس بالامس,, تمدد كما يليق برجل هذه العناء,, داهمته النهاية بلا مفاجأة,, سمت اليه حيوانات صغيرة، اخرجت مواهبها,, بعضها يتوالد من داخل جسده المتشامخ بصلابة الموات,, وتأتي الاخرى من اوكار مجاورة,, تعمل قدراتها في نخل الجسد الهالك,, تضمخت ذرات التراب ببقايا دماء داكنة,, ديدان الارض، ولكرم جسده، تضخمت، اصيبت بالتخمة، كأنه يحافظ على صمته,, اذ لم يكن باردا حتى اليباس كما في الثلاجة المركزية,, وكأني به وبهياجه المؤذي وهو يصف من حوله بالديدان,, جف قارب جسده,, ولحى العظم شيئاً من اليباس الهش,, ديدان الارض القرمزية النهمة تدخل وتخرج في ثقوب الهيكل الشامخ ,,, ولحظة ان التم الناس قرب ترابه ليدخلوا جسدا في اخاديد الارض,, رأينا جميعا خروج الكائنات الصغيرة من ترابه محملة ببعض شموخه، وعناء ذاته الشقية، تلك التي جعلته يتعاظم بشموخ محموم، ليكثر مقتي، واذيتي، ووصفي بدود الارض القرمزي 2 .
وفي ظني انه لا توجد مأساوية تصف نهاية رجل، شمخ على كل من حوله، اكثر فظاعة من هذه المأساوية التي جعلت القاص يتخيل حالة فانتازيا ترينا ذرات ذلك الشموخ المتعجرف في الحياة تتحول في الموت الى فتات في افواه النمل بين ثنايا مكان لا ينقذ هذا الانسان من مصيره المحتوم في التلاشي جسدا، عودا الى التراب، وبالتالي لا معنى لكل شموخ او كبرياء ما دامت النهاية واحدة، حيث ذاكرة المكان تلتهم الانسان جيدا وتحيله الى اللاشيء.
واذا كان الانسان قد تحول من الشموخ الى الاضمحلال في افواه النمل في القصة السابقة، فان الناس بمجملهم بلا قيمة امام نوبات الاسفلت الصفة المركزية لشوارع المدينة، حيث يغدو الشارع الواسع السريع مختنقا بالسيارات/ العلب، والزجاج، والحوادث، والموت، والعبوس، والحرارة، في قصة نوبات الاسفلت للشمري من مجموعته وتهرأت حبالها .
للمكان رائحة الحديد الساخن والاسفلت، وانعكاسات بريق شظايا الزجاج لبقايا حادث انتهى، وكلمات رسقنا بها شرطي المرور، لم ندرك بعضها كوننا محصنين بالهدوء والزجاجات الصقيلة المحكمة غلقا ,, أيكون سريعا وهو المعطل، المختنق بنا، وبالحديد اللامع، والزجاج الصقيل، وبالحرارة، وتصاعد الابخرة تلك التي اراها بعيني,,؟! 2 .
فالشارع نفسه تحول الى مجموعة من الغرف/ السيارات المحكمة الاغلاق، تجعل من مسألة الحياة في المدينة جزءا من الكابوس الذي يعلم الانسان طريقة ان يموت ببطء، او كيف يتخلى عن انسانيته لصالح ان يعيش واقعا آليا لا يختلف فيه عن الآلية التي يستخدمها، بل ان جنون الانسان وصراخه في مواجهة الآلية غير مجديين على الاطلاق: ادنى شيء ان الوذ بالصمت ولا امتعض,, واعلى شيء يمكن ان افعله هو ان اميت مشاعري,, واصرخ بجنون,, لكنني لم افعل، اذ لم احتد، او يعلو صوتي، بل انني اتمالك نفسي، واستميلها للهدوء، ارتب الامور لتأخذ شكل الممكن 3 .
والشكل الممكن هذا، هو لحظة التوازن الاجبارية التي يضع فيها الانسان نفسه ليتمكن من العيش بصورة متوائمة مع المكان الكابوسي الذي تخلقه المدينة المعاصرة، وتجعل من حياة الانسان تجاه هذا العالم الكابوسي حياة ممتلئة بالموت والمقبرة، الفكرة التي لا تكاد تخلو منها قصة من قصص عبدالحفيظ الشمري في مجموعتيه وتهرأت حبالها و دفائن الاوهن تنمو .
3
ومن الامثلة ان قصة الموت عاليا من مجموعة دفائن الاوهن تنمو للشمري، تصر اصرارا عجيبا على ان يخرج بطل القصة من بيته، او حتى من السجن عقابا على عدم سداد ديونه المالية، ليمارس حالة الانتحار في الشارع العام، حيث المحاولة الاولى الفاشلة للانتحار كانت من اعلى عمود النور، ثم تلاها المحاولة القاضية من اعلى برج المدينة.
وعبثية الموت في هذه القصة، كانت هروبا من عدم القدرة على سداد ديون الآخرين المالية التي فرضتها مسئوليات المدينة الحديثة، فكانت عبثية ساخرة لعلاقة الانسان بالمدينة، الى حد سخرية الناس من رجل يحاول الانتحار من فوق عمود النور، وكان هذا الانتحار مهزلة، حيث خاطب احد المارة هذا الرجل المنتحر بسخرية: يالحقارتك؟! اترمي بنفسك من هذا الارتفاع الوضيع,, لم لا تلق بنفسك من ارتفاع برج عال؟! يالغبائك امن عمود نور تمارس الموت,,؟! 4 وكأن الموت من فوق برج عال يعطي اهمية افضل للمنتحر,ومع ذلك كان الموت من برج عال هو الاكثر تعمية، والابعد عن مشاركة الناس في حالة الموت، فيما لو حدث الموت عن طريق تسلق عمود النور على مرأى من المارة بين مؤيد ومعارض ومستهتر ساخر وغير مبال,ولان البطل قرر الانتحار، وقرر مع الانتحار ان يكون لموته قيمة، لذلك خرج من البيت/ السجن الى الشارع ليمارس الموت بطريقة لافتة للنظر، فان موته منتحرا كان بامكانه ان يكون مهما لو نفذ عن طريق شنق ذاته على عمود النور بين الناس، لكن المدنية الجديدة اقنعته ان هذه الميتة عبثية ساذجة، لذلك دُفع للموت من اعلى مكان مرتفع، فكان موته عن طريق هذا المكان تهميشا له امام علو المكان، وهنا كان شبه نكرة في موته: دفائنه الضامرة بانت في صباح تال، ساعة ان كانت الشمس تستدير بكامل صحتها وضيائها,, شوهدت في اعلى شاهق برج المدينة على هيئة رجل يتدلى، لم يروا وجهه,, ولبعد المسافة عن عيون المارة لم يتقافز احد بالصياح,, ارحم نفسك لا تمت بهذه الطريقة 5 .
والامر سيطول لو تتبعنا كابوسية المكان من خلال العلاقة بالموت في قصص عبدالحفيظ الشمري المسكونة بهذه التيمة المركزية في كتابته السردية، دلالة على وجود ذاكرة تختزن علاقة الانسان بالمكان الموت، مما يجعل من بنية القص بنية مولدة لتحجيم الانسان في دائرة معرفة الذات التي مهما تصور الانسان عظمتها، فانها تكاد تكون صفرا مهمشا في لحظة الموت وايقاعاتها المتعددة في التلاشي، وهذا ما يخبرنا به الموظف الميت في قصة دفائن الاوهن تنمو : لفني النسيان، وانتهت قصتي,, ولم يبق الا قولي تائها يتردد,, اذ كنت قبل موتي ارى الوهن يزداد، حتى اصبح عريضا هائلا,, استفحل وازداد رسوخا، واسس عالمه,, جاء السقوط المدوي,, وتشظي كل شيء 6 .
ولا نبالغ اذا قلنا بأن مجمل قصص عبدالحفيظ الشمري وخاصة في مجموعته دفائن الاوهن تنمو تكاد تنطلق من فكرة النص السابق، وهي فكرة تشظي كل شيء مهم في الحياة لحظة الموت/ السقوط المدوي! ويكون الشارع والمقبرة مكانين مناسبين لتفعيل هذه الفكرة، وصياغتها صياغة كابوسية.
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير




[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved