Thursday 30th December, 1999 G No. 9954جريدة الجزيرة الخميس 22 ,رمضان 1420 العدد 9954


خطوات على جبال اليمن
*رواية تأليف: د, سلطان سعد القحطاني

= 1 =
كانت الركعة الاخيرة من صلاة العصر، عندما سمعت صوتا يناديني باسمي كاملا حتى الجد الرابع، ولم استطع إجابته، فأنا في صلاة، وفي الصلاة يحرم الكلام.
ولربما تكون المرة الاولى التي يناديني فيها شخص باسمي كاملا، حتى عائلتي منذ كنت صغيرا الى الآن، الا ذلك اليوم الذي استلمت فيه شهادة الدراسة الابتدائية, يا لغرابة الموقف، وغرابة الأقدار، وكأني إنسان آخر لا اعرفه، هي المرة الاولى التي انكرت نفسي، ومن انا، حتى اسمي تراءى لي اسم شخص آخر,, المهم، جلست اتأمل الجبل المقابل من ناحية الشرق، اسفله بني فاتح واعلاه اسود فاحم، سألت الاخ المرافق لنا، وكانت معرفتنا لا تتعدى الساعات، حتى اني لا اعرف من اسمه الا الأول، قلت له ما اعجب هذا الجبل، بني من الاسفل، واسود من الأعلى؟! قال وبسرعة، هذه جبال بركانية، انصهرت من فعل البراكين منذ العهد القديم، عندما غضب الله تعالى، على اهل هذه المنطقة، وقاطعته بالسؤال عن اسمه، فلم اجد عنده جواباً، ولكنه وعدني بأن ينظر في الخريطة بعد ان تهدأ العاصفة الرملية التي هبت علينا من جهة الجنوب، او نصل الى اقرب مدينة نرتاح فيها ليلتنا، وسمعته يتمتع بكلمات لم افهم منها شيئا، الا انها توحي بأنه يتضرع الى الله أن يغسل هذا الغبار بماء المطر، فالرياح موسمية تحمل معها السحب، وتسوقها إلى الشمال قادمة بها من المحيط الهندي، وفعلا ظهرت كتل سوداء من السحب على مد النظر، ونظر اليها ثم ابتسم، وكأنه يقول: الحمد لله فقد استجاب دعائي، ثم التفت الى السائق وصاح فيه قائلا: هيا,, هيا,, الليل,, الليل، والوادي غير آمن والخيال قادم، ورفع السائق رأسه الى السماء، جهة الجنوب وقال: اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، وعاد الى سيارته يتفقدها من جديد، وسمعت صوتاً يشبه صوت الطائرة من بعيد، ولكني كذبت نفسي مثلما كذبتها أول مرة، واتجهت الى السيارة بعد ان ادار السائق محركها الذي لا يبعث على الارتياح، وتحركت ببطء شديد، وهذه سياسة قيادية كي لا تنغرس اطاراتها في الرمال, وكان مكاني في الوسط بين السائق والدليل، وكل منهما يلتمس طريقا آمنا بالقرب من الجبل، وكأن الجبل هو الملاذ من خطر قادم, عاد صوت الطائرة مرة اخرى وقد غطت السحب السوداء الداكنة ضوء الشمس، وكنت اترقب تعقيبا من المرشد او السائق على هذا الصوت، ولكن اظن ان كلا منهما كان مشغولا بمعرفة الطريق، ومحاولات الاقتراب من الجبل، وقد لاحظت التوتر واضحا على تصرفاتهما، حيث هبت عاصفة شديدة فقد السائق فيها السيطرة على الطريق، وصار يتقرب من الجبل الذي لم نر منه الا قمته، والتفت اليّ المرشد وقال: اطمئن، إنها ستزول بعد قليل، قلت إذن نقف قليلا حتى تزول العاصفة، ثم نواصل سيرنا!! فالتفت اليّ السائق وقال ليس الخوف منها، الخوف من بيض الغراب!! ابتسمت وسكت ولم افهم شيئا، ولكني تذكرت شيئا لفت انتباهي، ذلك ان المرشد قبل الظهر كان يركب في صندوق السيارة، وكلما اتجهنا نحو الشمس اسدل بطانية سوداء على زجاج السيارة الأمامي، وترك السائق يخرج رأسه من الباب لرؤية الطريق ومساعدة المرشد، والسائق طويل الجسم يشبه الزرافة في مشيته، وصرت افكر جديا في بيض الغراب، وكلما أردت الاستفسار منعني الخجل، وعدم الفرصة، فكل منهما مشغول بنفسه وتلمس الطريق الصحيحة المؤدية الى الجبل، ولكن انطفاء المحرك فجأة قطع تفكيري، وسبب لنا ارتباكاً لا اعرف مصدره إلا أنني شاركتهما وجدانياً، اضافة الى ما فهمته من هذه التصرفات السريعة على انها دليل خوف من شيء ما، وقد يكون عدوا يتربص بنا، وعادة ما يكون الهجوم ليلا، وشعرت بأن المنطقة غير آمنة, كشف السائق غطاء المحرك القديم واخذ في المحاولات الجادة للبحث عن العطل، ولم يجد شيئاً، فأشرت عليه باختبار البطارية مصدر الطاقة الكهربائية، وفعلا وجدها ضعيفة، وكانت المشكلة في ادارة المحرك حيث لا تستطيع البطارية إدارته لضعفها, كان المرشد مشغولا عنا بالالتفات ذات اليمين وذات الشمال، وفي كل الاتجاهات حتى الى الاعلى، مما زاد من خوفي وقلقي، والشمس مسرعة في طريقها الى الغروب, تذكرت ما كان يفعله خالي بسيارته القديمة شديدة الشبه بهذه السيارة بل إنها من فصيلة واحدة فكلاهما من سلالة (فورد) الامريكية، واسرعت بفكرتي هذه الى السائق أكلمه ورأسي الى الاعلى، فأنا قصير، وهو شديد الطول غير العادي تبدو عليه علامات الغفلة وقلة النجابة والذكاء، وقلت له: اسمع يا محمد، فالتفت الي، وكأنه يستفسر أي محمد أعني، هو، ام الدليل فكلاهما محمد، قلت: عندي فكرة ندير بها محرك السيارة, وردّ بعصبية زادت من قلقي: هيا,, قل الفكرة وخلصني قلت: نرفع الجهة اليسرى الخلفية حتى تتعلق في الهواء، وندير العجلة فإذا استمرت في الدوران تضع محرك السرعات (الجير) في النمرة الرابعة، وهي تحرك المحرك,, فالتفت الى المرشد، وضحك قائلا:,,, هذا الرجل فيلسوف، وحكى له الخبر بسرعة، فوافق المرشد، وبدأنا العمل, دار المحرك بصوت فيه كثير من الجلجلة، والتقطع، وكأنه يلفظ آخر انفاسه، وأسرعنا بالركوب، والخوف يتفقد كل اوصالنا، والسائق يداري سيارته، خوفا من تكرار المأساة مرة اخرى, نظر المرشد عن يمينه وصرخ بصوت عال في السائق: (خذ يسارك يا جني) وفعلا فعل السائق بعصبية كادت السيارة العجوز تلامس الارض بجانبها الأيمن، وما ان اعتلت حتى صاح بنا المرشد مرة ثانية (نزلوا رؤوسكم) وفعلا نزل الاثنان رأسيهما، اما أنا فلم يكن لي مجال، فالمكان ضيق جدا، ولم اعرف اين أنا، ولا كيف حدث، كنت اشم رائحة البارود فقط، فكانت الكارثة,, كنت اسمع وأنا صغير في أحاديث المجالس ان الانسان لا يجد شيئا سهلا في حياته وكلما تعب كلما حصل مزيدا من المال فالغبار دليل النجاح وكان يضرب مثل سمعته لعدة مرات يقول: (من لا يغبر شاربا ما دسمه) اي من لم يتعب فلن يجد ما يريد، وكأن العز في الحياة مربوط بالغبار، ونيل العمل والبناء والتطور,, لم اعد اعرف محمد المرشد، ولا محمد السائق، ولا اجد لهما اثرا في الدنيا، ذهب الاثنان وبقي الثالث الذي كان لا يعرف شيئا مما كان الاثنان يتوقعانه, ومن ذلك اليوم او الساعة التي هوت القنبلة على جسم تلك السيارة العجوز تغير كل شيء، حتى اسمي الذي سمعت صوتا يناديني به قبل ساعات قليلة، وكأن ذلك الصوت يودع اسمي لاستبدل به اسما جديدا سيرافقني مدة ثمانية عشر عاما تنام فيه الذاكرة نومة اهل الكهف، وسيغير هذا الاسم كل شيء في حياتي لأكون إنسانا جديدا ليس فيه من الانسان الاول إلا الهيكل وملامح الوراثة، والتعلق بحب الحياة والناس، ولكن كيف حدث هذا التغير الذي لازمني مدى ثماني عشرة سنة؟ اسمي محمد شرف الدين ولكن من هو محمد شرف الدين؟ هل هو السائق؟ او المرشد؟ كلاهما محمد، ولكن ايهما شرف الدين؟ قد يكون لا هذا، ولا ذاك!! ربما يكون شخصا آخر عثر الصليب الاحمر الدولي على اوراقه الرسمية ووضعها في جيبي، ولكن لا اظن ذلك، فالمكان قفر خال من الناس، بالتأكيد هو واحد من الاثنين، حتى النقود التي استلمتها من المستشفى لا علم لي بها، ولا اعرفها، ولكن كيف اميزها، وأنا لا علم لي بالماضي، لا أعرف الا المستشفى، وكان مولدي الثاني، حتى عودة ذاكرتي بعد هجر ثماني عشرة سنة.
يتبع

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير




[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved