Thursday 30th December, 1999 G No. 9954جريدة الجزيرة الخميس 22 ,رمضان 1420 العدد 9954


أئمة الرأي في المجتمع المدني
المؤسسة المشائخية
الحلقة الأولى
محمد بن صنيتان

كثر الحديث عن المستجدات في الالف الميلادي الثالث واشرقت على الكرة الارضية نظريات ورؤى عالمية ذات مسميات عدة ولكنها اصبحت بمثابة احداث حتمت على كل البشرية محاولة التعامل معها والحديث عنها والترقب لعواقبها, ونتيجة حتمية لمثل اي حدث يتخوف منه او يتطلع للغنيمة منه فإن المجتمع يتجه بعقله ونظره صوب ائمة الرأي فيه.
وأئمة الرأي في المجتمع السعودي هم العلماء المشائخ والمتعلمون علوما عصرية المثقفون فالمؤسسة المشائخية هي صمام الامان بعد الله في ان تنزلق العقيدة في مخاطر تقضي او تشوش عليها, كما يشارك المثقفون في تحديد مسارات المجتمع نحو كل ما هو مفيد ونافع من امور الدنيا التي لا تكون ضد الدين, فحماية العقيدة من أهم اولويات العلماء/ المشائخ.
والعقيدة احوط وأشمل من الايديولوجيا الفكرة فهناك توافق وتباين بين الافكار والمعتقدات, فأصحاب الافكار ممكن ان يتحولوا عنها تحت ضروب شتى, أما العقائد فعادة ما تكون ثوابت دينية لا يتخلى عنها اصحابها مهما كلفهم ثباتهم مشاق الدنيا.
والأيديولوجيا كما تراها بعض الموسوعات الاجتماعية: هي ناتج عملية تكوين منسق فكري عام يفسر الطبيعة والمجتمع والفرد ويطبق عليها بصفة دائمة، وتتشكل ايديولوجية كل جماعة ببيئتها الجغرافية والاجتماعية ونواحي نشاطها.
والمجتمع المسلم عقيدته هي عقيدة الاسلام مفهوما وتصوراً وسلوكا أي (اعتقاد وعمل يؤيد الاعتقاد) اعتقاد وحدانية الربوبية وعدم الشركية, والاعتقاد هدف، ومجتمع بلا هدف لا حياة له لها معنى, ولا يستطيع ان يشق طريقه قدما نحو أهدافه المنشودة فتراه مترددا يسير ثم لايلبث ان يرتد على عقبيه في مسار آخر فأنى يصل إلى مكان مرسوم او محدد؟ وأخطر ما يرزأ به المجتمع هو مصيبته بعقيدته اي هزيمته من الداخل, ومن هنا تأتي اهمية دور المؤسسة المشائخية في المجتمع المسلم وهي حماية العقيدة إذ هي الدافع الاول لحماية العقيدة وتجعل من نفسها الحصن المنيع والسياج الواقي لصيانة الفرد والمجتمع من العقائد والافكار وكل ما يشوش على العقيدة الاسلامية الممارسة قولا وفعلا من قبل المجتمع,, وهذا لا يأتي من خلال رفض كل قادم ولكن بالتوعية والتطعيم الجيد وعدم التقيد بخلاف ثوابت الاسلام ولايمكن ان نقفل الابواب والنوافذ ولكن يمكن ان نصرعها ونتدثر بما يقينا الحر والبرد.
ونحن نعيش في عصر كثرت مسمياته فيدعي عصر (العولمة) ويسمى عصر (تفجر المعلومة) ويقال عصر (ثورة الاتصالات) حتى أصبحت عواصم العالم المتباعدة احياء داخل مدينة المعمورة فقد يعمل الانسان في نيويورك وينام في لندن او عاصمة اخرى مشابهة! هذه الحقيقة الزمنية والجغرافية هي محصلة لقفزة لم تشهدها الكرة الارضية من قبل! إذ شهدت بشرية الالفية الثالثة الميلادية قفزات تخطت كل الحواجز في نقل الافكار والمعتقدات التي تنمو وتتكاثر بسرعة فلكية مذهلة، اختصرت الزمان والمكان لدرجة الصفر، مما جعل العزلة امرا مستحيلا، وأصبح كل انسان حائراً تائها أمام حزمة من المشكلات وجملة من النتائج لم تعهدها الاجيال السابقة, ولم يعهدها الانسان المعاصر نفسه قبل ثلاثة عقود او عقدين اوحتى عقد من الزمن مضى.
اصبح الفرد منا أمام طوفان من الاخبار والمقولات والتحليلات المتقاربة المتعارفة المتناقضة المشوشة, تتناقض بتتناقض مرجعيتها ومصادرها ومنابع تدفقها من احزاب وتيارات فكرية وسياسية ومذهبية شتى وأديان وفلسفات أخرى متنافسة متصارعة متطاحنة كل منها تحاول بكل ما أوتيت من قوة بأن يكون لها الصدر بين العالمية وان تكون القطب الأوحد.
كل هذا جعل المسلم في حيرة إلا ان يرتد إلى دينه وعقيدته ويتبصرها حق تبصرها ويتجه صوب مرجعيته من العلماء.
ويكن تعريف العلماء (المشائخ) من خلال رأسمالهم المعرفي في مسائل الشريعة وفهم عقيدة التوحيد, ومن خلال النسق التبليغي الذي يمارس فيه الشيخ نشاطه من خطابة وفتوى وتبسيط مسائل الشرع للمتلقي وتعليم الناشئة العلم الشرعي, والذين يتخرجون على يد الشيخ يتسلمون منه أمانة توصيل العلم وتبليغه لشباب الأمة, فالشيخ ينفرد على بقية المفردات المتعلمة بامتلاكه سبلا كثيرة من التواصل مع الناس, فلا توجد فجوة تفصل الشيخ العالم عن الأفراد، فالمنبر متاح له خمس مرات في اليوم والمرأة تتصل بالشيخ في أخص خصوصياتها, والتاجر يلجأ للشيخ للاستفسار عن الحلال والحرام في فقه الاقتصاد والتجارة والمتصدق يرسل صدقته ليوزعها بمعرفته, والسياسي يبجله ويقدره بصفته أحد مكونات اهل الحل والعقد.
وفي المملكة العربية السعودية اسندت الوظائف الشرعية والقضائية والادارية وكافة الوظائف الدينية للعلماء من المشائخ لتكوينهم الديني ومعرفتهم المتخصصة بعلوم الشرع, وفيما قبل انتشار العلوم الحديثة يعتبر المشائخ النخبة في مجتمع المسلمين.
وكان تملك الشيخ الرأسمال المعرفي والاجتماعي من رمزية وثقافية يعطيه اهمية كبرى لتعزيز مكانته في المجتمع مهما كان اصله أو حسبه او نسبه فرصيده الفكري والمصرفي يضعه في مكانة تفوق الاصل والنسب, وقد تتعدى مزايا الشيوخ إلى تلاميذهم ومريديهم, كالذين يحصلون منهم على الاجازة العلمية التي تؤهلهم إلى تدريس العلوم التي تلقاها احدهم من شيخه (تلقى تعليمه على يد الشيخ فلان) ولايزال هذا التقليد العريق موصولا حتى في الجامعات الحديثة، بدليل ان قيمة الطالب العلمية تستمد صيتها من صيت الجامعة التي تخرج منها.
والعلماء المشائخ مؤهلون لتفسير كتاب الله وايضاح سنة رسوله والاجتهاد في الحلول للمشكلات الطارئة والمستجدة على حياة المسلم, وقد يكون فقه الواقع وفقه الضرورات هما سلاح المجتهد في هذا العصر حتى لا ينفلت الايمان من نفوس الناس انفلات الابل من عقلها.
ولذلك فإن المشائخ العلماء في اطار هذا التقدير والاجلال الاجتماعي والرمزي يمثلون المكون الاساسي لتنمية التنمية في اصطلاح علم الاجتماع السياسي.
ورغبة من الدولة في اعطاء المؤسسة المشائخية جرعة من المعاصرة لقبول الآخر منهم ولهم، لجأت الدولة إلى تشجيع نوع من التواصل المتمثل في التبادل في مظاهر كثيرة منها: تبادل الزيارات بين المؤسسات العدلية والقضائية بين الدول الاسلامية وغيرها وحضور الكثير منهم افتتاح المساجد والمراكز الاسلامية التي تقوم بعمارتها المملكة في الخارج لمساعدة الجاليات الاسلامية هناك كما يحتك الدعاة بغيرهم في المؤسسات المماثلة وغير المماثلة كزيارة الفاتيكان مثلا, كل ذلك بقصد من الدولة وكبار القائمين على المؤسسة في تحديثها وتحقيق الجانب المفيد من المعاصرة، لتمكينهم من مواجهة مستجدات الحياة التي بدأت تطل بوجه ما تعارف عليه بالعولمة.
لذا فإننا نجد من حاضر من كبار المشائخ في بلادنا عن المثقفين والمسار الحضاري ومن حاضر منهم عن القضايا الائتمانية المصرفية وهكذا,, وكلها تعتبر قضايا معاصرة ويؤمل من هذا التوجه تحقق بعدي (الاصالة والمعاصرة) والاعتماد على العقل والنقل معا طلبا في الخير الكثير الذي يتطلع إليه افراد المجتمع من هذه المؤسسة رغم انه سيأخذ الوقت الكافي.
ولما للعلماء من ادوار حيوية كما اسلفنا فإن شرائح المجتمع تواقة إلى أن تتصل هذه المؤسسة العلمية المشائخية بالبعد الاجتماعي وتوصيل فقه النفس للناس من تقوى واستقامة وتعامل إلى حسن المعاملة وقضاء حوائج افراد المسلمين، من قبل موظف الدوائر العدلية والدينية وكافة المعاملات ذات الشأن والهم الاجتماعي وحث العاملين في المؤسسات البيرقراطية لتسهيل امور الناس ومحاصرة الروتين وتعطيل مصالح وقضايا افراد المجتمع والمقيمين معهم والقاطنين على ديارهم,, وكشف كل ما يؤرق المجتمع من مشاكل الخدم والسائقين واقتراح الحلول الذاتية من داخل المجتمع وقد يكون البديل للسائقين والخدم إذا كان من المجتمع نفسه من الدين بالضرورة حتى ولو التبس الفهم على البعض,
ولو اعدت دراسات من واقع سجلات المحاكم وضبوطات تحقيق دوائر الشرط، وعرضت على الاجتهاد المفضي لتحقيق مصلحة المسلم لتبين للكثير من ائمة الرأي في المجتمع اهمية مواجهة التصدي للمشكلة وان البديل هو مقاصد الاسلام عينها.
مما يجعل المؤسسة المشائخية مدعوة لاستشعار دورها بالتعامل مع قضايا المجتمع الاقتصادية والتعليمية والتربوية والاجتماعية واظهار الفقه الاسلامي في صورة بنود محددة مما يسهل الرجوع إليها واتاحة معرفة ذلك لعموم رعايا الاسلام ليعرف كل فرد ما هو مأمور به أو منهي عنه، وما هو جزاء كل فعل محظور.
والفقه الاسلامي مدعو بالحاح إلى استيعاب المستجدات والقضايا العصرية ومواكبتها بالاجتهاد الشرعي من العلم المعرفي حتى لا يكون لاعداء الاسلام حجة او يحشر علماؤنا بزاوية ضيقة, وأتمنى من المعنيين بالامر ان يكون طرح الاسلام لمعالجة القضايا المعاصرة طرحا ذا خيارات وبدائل أفضل من الانظمة العالمية، او على الاقل لا ترفض كل مفيد للانسانية ما لم يتعارض مع نص شرعي قطعي الدلالة متواتر الثبوت ويمكن ان يكون الطرح على مستوى المناقشة العالمية، ليتبصر المسلم فائدة الاسلام حتى يتشبث باسلامه مهما لاقى من تحديات، وحتى يقتنع المثقفون والمفكرون من اهل الديانات الاخرى, وهنا يكون الدين الاسلامي وعلومه ومرجعيته على مستوى المنافسة العالمية كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
والاسلام هو ما تعلمناه من محمد صلى الله عليه وسلم وفهمناه من فعل صحابته الكرام والعهود المجددة بعدهم، وهو نظام دنيا ودين، ليستوعب ما يسعد حاضرنا بمرونته وفقهه للواقع وواقعيته وشموليته لمختلف التجارب البشرية, وهذا لا يتأتى إلا بتجديد منهج واضح واستراتيجية واضحة متفق عليها من رجالات مشهود لهم بقدرتهم على ابراز ذلك التراث ولا اعتقد ان الجانب التكنولوجي وايجابيات العلم الحديث تستعصي على الاسلام او تناقضه ولا حتى يرفضها الاسلام, فإذا انتصب ميزان الاسلام وأصبح واضحا لكل فرد مسلم وضبط حياته وفق هذا الميزان استطعنا ان ندخل المنافسة بدون خوف او وجل, يقول الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله: إن علوم الدين ليست كلاماً نظرياً في العقائد ولا سرداً لأشكال الطاعات واحكام الفروع الفقهية وإنما هو منهج متكامل للحياة المثلى التي ارتضاها الله للعباد, ورضيت لكم الإسلام دينا والله من وراء القصد.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير




[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved