Thursday 30th December, 1999 G No. 9954جريدة الجزيرة الخميس 22 ,رمضان 1420 العدد 9954


الهروب من يقين الإجابات
في وداع القرن,, والأسئلة الصارمة
إبراهيم نصر الله

مع نهاية هذا القرن، وقدوم الألفية الثالثة انتشرت في الصحافة العربية الثقافية وسواها استفتاءات لا تعد ولا تحصى، كلها تنبع من سؤال واحد، تختلف كلماته احيانا وتلتقي، ولكنه يبحث عن اجابة واحدة دائما.
ومع أنني كتبت ذات يوم بأن السؤال اكثر انسانية وتواضعا من الجواب، إلا انني وجدت نفسي امام سؤال لايمت لتلك الاسئلة التي فكرت بها ذات يوم، الاسئلة الحائرة الباحثة عن يقين، الأسئلة الجميلة.
لاهثاً أركض
قاطعاً العمر بين سؤال وآخر
باحثاً عن اجابة استريح على عتباتها قليلاً
,,,,, لأواصل اسئلتي
يتلخص السؤال في: ما هي أهم عشرة كتب صادرة في هذا القرن، اهم عشر شخصيات، أهم,,,؟!! وهكذا، ولأول مرة أجد نفسي مرتبكا امام صرامة سؤال يطلب اجابة محددة إلى هذا القدر من الدقة المتعسفة, وخيل إلي انني سأقوم بعد تحديد خياراتي باقصاء كل ما هو خارجها، ثم سألت نفسي فزعا حين قلبت السؤال: هل كان بامكاني ان أعيش عمري الذي لم يبلغ بعد من الطول نصف قرن، هل كان بامكاني ان اعيش هذا العمر بهذه الكتب التي سأختار متخليا عن سواها، وهل كان بامكاني ان اعتبر هؤلاء العشرة هم خلاصة القرن الذين سأكتفي بهم، وتساءلت بفزع أكثر حول اولئك المجهولين الذين لم اسمع بهم، ولم يكونوا مهتمين بأن أسمع بهم أنا أو سواي، ولكنهم أحدثوا الكثير من المعجزات في حياتنا البشرية دون ان تحتل اسماؤهم مكانة في موسوعة جينس، او موسوعة التعسف التي علي أن أختار.
في كل اختيار محصور/ محاصر إلى هذا الحد تعسف كبير، إذ من هم المهمون، ولمن، لي، ام لغيري، قد يكون كتاب لم أقرأه بعد هو الأهم، ولكني لن أذكره لأن جهلي به يمنعني من ذلك، ولذا ارى أننا نختار الجاهز كي نغفر لانفسنا عدم معرفتنا، ولكيلا نبدو اقل احاطة بهذا القرن من الآخرين، ان اختيار عشر قامات او عشرين قامة لهذا القرن شيء ظالم, كيف لي ان اختار شاعراً واحداً من بين سكان هذا الكوكب على مدار مائة عام؟
ربما كان بامكاني ان اورد بعض الظواهر مضطراً مثلا، تلك الظاهرة التي تركت بصماتها في حياتنا كأن اقول: اختار الادب الفلسطيني الذي استطاع ان يكون جزءا أساسا من اعادة ترميم الهوية الفلسطينية في الضياع الكبير، وبلورتها بالتالي, ثم الرواية العربية، ذلك الفن الذي كان لابد منه، لأنه أنهى سطوة وأحادية رواية المؤرخ الرسمي إلى الابد, ثم السينما، لأن هذا القرن هو قرنها، ومن الصعب ان اتخيله دونها، ربما كان لي ان اختار ثورة المعلومات والاتصالات,,.
ولكن كيف لي مثلا ان اختار الكتب الأهم، وبعض الكتّاب مثلا لديه اكثر من عشر روايات او عشر مجموعات شعرية لا استطيع الاستغناء عنها مثل نجيب محفوظ أو هيرمن هيسه او بابلو نيرودا، أو براندللو أو يونسكو، وهناك مثلا، خمس مجموعات ليوسف ادريس ومثلها لغسان كنفاني وزكريا تامر والسيّاب ولوركا، وكتب ادوارد سعيد، وماركيز وفوينتس، ومسرح العبث، وعشرات كتب التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع,,, كيف لي أن اختار رغم تقديري لجرأة كل من اختار عشرة كتب لا غير، ما الذي افعله بكتب لم اعرفها في الماضي لانني لم أعشه، لكنها ترجمت ووصلت إلي الآن: مثل المسرح الاغريقي، وشكسبير، وغوته، والملاحم القديمة مثل جلجامش، والحكايات الكبرى مثل دونكيشوت، الجندي الطيب شفيك، ورحلات جوليفر وكتب ستيفنسون، وموبي ديك، وأشعار طرفة بن العبد والمتنبي وابي تمام.
كيف لي أن أختار مما قدمته السينما عشرة أفلام لا غير، ولصلاح أبو سيف في السينما العربية مالا يقل عن عشرة أفلام هائلة, ومن الاغنيات عشر اغان، ولفيروز وحدها مئات الاغاني التي احب؟
ببساطة وجدت نفسي لا أجرؤ على طرد عشرات آلاف من الكتب من ذاكرة الزمان، او حتى من مكتبتي بهذه السهولة.
لكن الذي وجدته في النهاية ان مشكلتنا الكبرى في القرن (الفارط) اي الماضي، حسب تعبير الاخوة التونسيين، ان مشكلتنا كانت قائمة في هذا الحصر المتعسف، لان ما كان يلزمنا فعلا هو استيعاب كل منجزات القرن كي ندخل القرن المقبل كما تدخل امم كثيرة في هذا العالم، كبشر ينتمون الى المستقبل، لا للماضي، خاصة أننا لم نزل نتعامل مع مستقبلنا بعدم اكتراث كما لو انه ماض بعيد لايمت إلينا بصلة.
لقد احسست فعلا ان الاجابة عن السؤال بمثابة وصية يتركها الكتّاب للاجيال المقبلة، وصية جاهزة تقول لهم: إذا قرأتم أو شاهدتم هذه الاعمال (الكبرى) فإنكم تكونون في غنى عن كل ما سبق وأن أنجز في القرن الفارط.
فأي تعسف أكبر من هذا؟!!
يُسألُ الكاتب العربي عن أقرب مؤلفاته إلى قلبه، فيرد (كلهم) ابنائي!!
فلماذا لا يكون جوابه حينما يُسألُ عن كتب الآخرين وإبداعاتهم: (كلهم) أنا؟!!!
نافذة :
ترك البحرُ في صدرنا
ما تَرَك
وصايا الأعاصير
شمسَ الحقول
ترك الطيرَ,,
حين اصطفينا الشَّبَك
فاصطفى بشراً غيرنا وخيول!!!
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير




[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved