Monday 3rd January, 2000 G No. 9958جريدة الجزيرة الأثنين 26 ,رمضان 1420 العدد 9958



الفضائيات العربية ومعركة التشفير
د, محمد شومان

تعاني الفضائيات العربية الحكومية والخاصة من مشكلات مالية عديدة، فالدخل لا يغطي المصروفات، والمصروفات تزداد عاما بعد عام نتيجة المنافسة المحمومة بين الفضائيات على زيادة عدد القنوات وزيادة ساعات البث، والمفارقة أن هذه الزيادة تؤكد فشل الرهان على الدخل من الاعلان لتغطية المصروفات،فعدد الفضائيات يزداد بوتيرة أسرع كثيرا من التطور في سوق الاعلام، فقبل 5 سنوات كان عدد الفضائيات لا يزيد عن 15 قناة، أما اليوم فهناك 51 قناة تتنافس على سوق اعلاني محدود لا يزيد عن 350 دولارا سنويا، من هنا فقد اتجه عدد مؤثر من الفضائيات للرهان على التشفير، حتى يمكن القول بأن معركة التشفير هي معركة الفضائيات في القرن القادم.
ومن الخطأ تصور ان معركة التشفير هي معركة تخص الفضائيات التجارية الخاصة فقط، والتي لا تحظى بدعم حكومي منتظم كما هو الحال بالنسبة الى الفضائيات الحكومية، فثمة مؤشرات تفيد بأن عمليات الخصخصة التي طالت اقتصاد بعض الدول العربية بدأت تقترب من قطاع الاعلام، في هذا السياق تطرح أفكار بشأن ترشيد الانفاق على الاعلام والبحث عن مصادر جديدة للتمويل منها التشفيرة، من ناحية أخرى اصبحت بعض القنوات الحكومية مشفرة، ولا تقدم خدماتها إلا للمشتركين.
هكذا غدا التشفير رهان المستقبل أمام الفضائيات التجارية والحكومية مع ملاحظة أن الأولى هي الأكثر اهتماما واحتياجا لكسب هذا الرهان، كما أنها سبقت الفضائيات الحكومية في التفكير والعمل على تطبيق نظم التشفير، وتجدر الاشارة هنا الى ان بعض القنوات الفضائية قد انطلقت منذ البداية على أساس فكرة التشفير والاشتراك، مقابل تقديم برامج ومضامين متميزة، ورغم عدم توافر بيانات عن عدد المشتركين في هذه القنوات أو غيرها، فإنها ما تزال تعمل وتراهن بجديّة على تطوير خدماتها، وتحقيق المعادلة الصعبة وهي: توسيع قاعدة المشتركين وبالتالي تخفيض أسعار الاشتراك وجذب مزيد من الاعلانات,لقد انطلقت القنوات التجارية المشفرة قبل عدة سنوات ولم تثر وقتها جدلا ونقاشا عاما على أساس أن معظم الفضائيات العربية الأخرى كانت مفتوحة، لكن مع زيادة عدد الفضائيات العربية التي أخذت بنظام التشفير طرحت القضية للنقاش، ثم تحولت الى قضية رأي عام عندما طال التشفير كرة القدم، وشعر مشجعو اللعبة العربية الأولى في السعودية ومصر بأن التشفير حرمهم من متعة مشاهدة مباريات يلعب فيها الفريق الوطني, وبدا لبعض النقاد ان الفضائيات تخوض معركة التشفير عبر ملاعب كرة القدم، خاصة وان هناك تنافسا محموما بين الفضائيات العربية على الحصول على حق نقل واذاعة مباريات كرة القدم في أهمِّ البطولات العربية والأجنبية.
خطاب أنصار التشفير
وبعيدا عن المعاني والرموز العاطفية لموضوع نقل مباريات الفرق الوطنية، فإن أنصار التشفير يقدمون خطابا متماسكا للدفاع عن موقفهم ينطلق من أن المشكلات المالية التي تواجه الفضائيات تخلق صعوبات جمّة تعرقل امكانات التطور الفني والتقني والقدرة على نقل الأحداث بما في ذلك مباريات كرة القدم، وبالتالي فان التشفير وحصول الفضائيات على دخل من الاشتراك أو حتى المشاهدة بأجر سيدعم من موارد الفضائيات ويساعد على تطوير خدماتها، من ناحية أخرى فإن التشفير سيدعم الانتاج الفني والثقافي العربي، فضلا عن الرياضة العربية حيث سيرتفع سعر البرامج والمضامين العربية، كما ستحصل الاتحادات والفرق الرياضية على عوائد أكبر مقابل اذاعة المباريات.
ويرى أنصار التشفير أن احتكار نقل مواد أو برامج معينة هو ظاهرة عالمية فرضتها تطورات صناعة التليفزيون وآليات عولمة الاعلام، كذلك فإن العولمة قد فرضت نهاية عصر المشاهدة المجانية، إذ إن كل السلع والخدمات لها سعر، وبنفس القدر فإن ما يقدمه التليفزيون هو خدمة ينبغي أن يكون لها سعر ينبغي أن يسدده المشاهد, ويبرهن أنصار التشفير على ذلك بأن كثيرا من الفضائيات الأجنبية أصبحت مشفرة، ومن النادر أن تجد خدمة تليفزيونية جيدة تقدم بالمجان في أي بلد، واذا كان المواطن العربي قد تعود على المشاهدة بالمجان، فإن عليه أن يغير من حساباته، فالظروف الاقتصادية قد لا تسمح بذلك.
ويبدو خطاب انصار التشفير قويا ومتماسكا، لكنه يعتمد على بعض المغالطات، كما يظل بعيدا عن الواقع الاجتماعي والثقافي لمعظم المواطنين العرب، وللدور التربوي والتنموي الذي ارتبط بالتليفزيون في معظم الدول العربية، أكثر من ذلك فإن خطاب التشفير قولا وعملا يقلص من اعداد مشاهديها، وبالتالي يقلص من الأدوار الايجابية التي تقوم بها الفضائيات في ربط أجزاء الوطن العربي.
أعتقد ان التشفير والمشاهدة بثمن يثيران اشكالية التناقض بين الحق والقدرة، أي حق المواطن العربي في الاتصال والذي أقرّته المواثيق الدولية والدساتير العربية، وأكدت عليه بغض النظر عن المستوى التعليمي أو الاجتماعي للمواطن، ومقابل هذا الحق تأتي مسألة القدرة,, وهي هنا القدرة المالية على الاشتراك في القنوات المشفرة أو الدفع مقابل مشاهدة بعض القنوات أو حتى بعض البرامج، فمن الثابت أن أغلب المواطنين العرب ليس لديهم القدرة على دفع الحد الأدنى المطلوب للاشتراك أو لمشاهدة برنامج أو مباراة كرة قدم, من هنا فإن اشكالية التناقض بين الحق والقدرة تجعل من مشاهدة الفضائيات ميزة اجتماعية لفئات أو شرائح محدودة داخل كل بلد عربي، أو نوع من الترف الاجتماعي غير المتاح لأغلبية المواطنين، مما يخلق فجوات معرفية واعلامية بين المشاهدين العرب تضاف الى مجموع الفجوات التعليمية والاجتماعية الموجودة أصلاً بين شرائح وفئات الجمهور داخل كل بلد عربي.
مأزق التشفير
ولا يقتصر الأمر على فكرة تعميق وخلق فجوات معرفية واعلامية أو لا عدالة اعلامية، بل يتجاوزه الى الإضرار بالفضائيات العربية ذاتها، فاذا سلمنا بعدم قدرة أغلب المشاهدين على الاشتراك في الفضائيات التي اصبحت مشفرة، فإن ذلك يعني عمليا تقليص اعداد مشاهديها، وبالتالي احتمال نقص حصة الاعلانات التي تمثل حتى الآن المصدر الرئيسي لدخل الفضائيات التجارية.
ان تقليص اعداد مشاهدي القنوات المفتوحة التي صارت مشفرة يبدو احتمالا قويا في ضوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في عديد من الاقطار العربية كمصر والسودان واليمن والجزائر وموريتانيا، وبالتالي فإن الانجاز الايجابي الذي كانت الفضائيات تفخر به وهو ربط أرجاء الوطن العربي، أصبح موضع شك، وفي حاجة الى مراجعة، فلعدة سنوات كانت الفضائيات التجارية والحكومية على حدٍّ سواء تدافع عن قصور ما تقدمه من برامج ومضامين على أساس أنها في البداية، وأنها نجحت في انجاز ما لم تحققه السياسة العربية ممثلا في ربط أجزاء الوطن العربي، والوقوف في وجه الفضائيات الأجنبية التي تحمل مضامين ورموزا ثقافية لا تتناسب مع الثقافة العربية والاسلامية, لكن الآن مع التشفير واحتمالات توسع الفضائيات في العمل به بات من الصعب الادعاء بأن الفضائيات العربية تقدم بدائل عربية ضد الفضائيات الأجنبية التي تصل الى البلاد العربية وتقدم مضامين لا تتناسب مع خصوصية الثقافة العربية.
حصاد ما سبق فإن الفضائيات قد تتضرر من عملية التشفير، وربما لا تستطيع حسم المعركة لصالحها، فعلاوة على عدم قدرة أغلب المواطنين على الاشتراك أو المشاهدة بأجر، فإن هناك بدائل أخرى متاحة أمام المشاهدين العرب تتمثل في الفضائيات الحكومية وبعض الفضائيات التجارية التي تحرص على استمرار البث المفتوح وتتنافس على تقديم مضامين وبرامج جيدة، لتوسيع قاعدة مشاهديها وجذب مزيد من الاعلانات، لذلك من غير المنتظر ان تختفي الفضائيات المفتوحة في المدى القريب أو المتوسط، ولاسيما أن بعضها ينطلق باسم حكومات أو يرتبط بحكومات عربية، وتعتقد هذه الحكومات بأن وسائل الاعلام بما في ذلك التليفزيون لها أدوار تعليمية وتربوية وترفيهية يجب ان تقدم للمواطن العربي بالمجان وذلك خدمة لأهداف التنمية، ورغم ضغوط العولمة والاتجاه نحو الخصخصة فان الاعتقاد السائد هو ان الاعلام يرتبط بالأمن القومي ويمثل أحد رموز وجود الدولة، ومن ثم فمن المستبعد ان تضحي الحكومات العربية بسلطة وتأثير الاعلام على عموم مواطنيها، بل وعلى الجماهير العربية، وستحرص الحكومات العربية بأن تظل قنواتها مفتوحة وبالمجان لجميع المشاهدين، ورغم الطابع الرسمي والدعائي أحيانا للفضائيات الحكومية إلا أنها ستمثل بديلا معقولا أمام مشاهدي الفضائيات جنبا الى جنب مع الفضائيات التجارية المفتوحة، والتي تحرص على تطوير ما تقدمه من برامج ومضامين لاثبات تميزها وتفوقها على الفضائيات الحكومية، وبالتالي توسيع قاعدة مشاهديها، وزيادة حصتها من الاعلان.
ويمكن القول أن بعض القنوات الحكومية والتجارية المفتوحة تقدم برامج ومضامين في نفس مستوى القنوات المشفرة,, بعبارة أخرى فان الفضائيات المشفرة لم تخرج فيما تقدمه عما هو سائد في الفضائيات المفتوحة، ونظرة سريعة الى خريطة ونوعية الحوارات وبرامج المسابقات والمنوعات ونشرات الأخبار في الفضائيات المفتوحة والمشفرة ترجح القول بعدم وجود فروق نوعية كبيرة تبرر ما ذهب إليه خطاب مؤيدي التشفير من ان الخدمات التلفزيونية الجيدة لا تقدم بالمجان.
واذا كان المشاهد العربي لديه أكثر من بديل في القنوات الأرضية والفضائية، واذا كانت القنوات المشفرة قد لا تقدم خدمات مميزة، فإن كثيرا من مشاهدي الفضائيات وربما في ذلك القادرون ماليا، ربما لا يقبلون على الاشتراك في الفضائيات المشفرة.
لكن تبقى مسألة مباريات كرة القدم التي انفردت بها بعض الفضائيات المشفرة، وهي بدون شك ميزة كبيرة، غير ان بعض الفضائيات العربية المفتوحة احتكرت بدورها بث بعض البطولات، كما أن القنوات الحكومية المحلية والفضائية قد تضطر لشراء المباريات التي يكون فريقها الوطني طرفا فيها لكي تذيعها بالمجان، أخيرا فإن هناك انماطا عديدة من المشاهدة الجماعية تسمح بها الظروف الاجتماعية في الوطن العربي ستقلص من تأثير احتكار الفضائيات المشفرة لبعض المباريات المهمة في كرة القدم.
لكن هل يعني ذلك ان الفضائيات العربية المشفرة ستخسر المعركة؟ الاجابة قد تكون محيّرة، فقد خسرت بالفعل المعركة، وكسبتها في آن واحد، بمعنى أنها كسبت مصدرا جديدا للدخل، وحددت جمهورها في قطاع قادر اجتماعيا على المشاهدة غير المجانية للتليفزيون، لكنها ربما خسرت بعض المعلنين، وبعض الرصيد الايجابي الخاص بدورها التعليمي والثقافي والترفيهي بين ابناء الضاد، وأخيرا فهي خسرت أغلبية مشاهدي الفضائيات، أي خسرت الجمهور العام، وربحت جمهورا خاصا من القادرين على الدفع، ومن المتوقع ان تنحصر معركة التشفير في دوائر هذا الجمهور بين عدة فضائيات مشفرة, بينما ستظل الفضائيات المفتوحة بغض النظر عن حساباتها السياسية أو الاقتصادية متاحة لكل المواطنين العرب، القادر وغير القادر، واعتقد بضرورة استمرار هذه القنوات المفتوحة، فالاعلام مثل التعليم يجب أن يكون كالماء والهواء وفق المقولة الشهيرة لطه حسين متاح لكل المواطنين بالمجان، في الوقت نفسه يجب ألا نحجر على حق الشركات التجارية الخاصة التي تعمل في مجالات الاعلام من العمل وفق آليات السوق، وان تقدم خدماتها الاعلامية بما في ذلك المضامين التليفزيونية بمقابل، لكن المهم الا نصدق خطابها، وخطاب انصار التشفير من أن زمن المشاهدة المجانية قد انتهى، فالقنوات التليفزيونية ومحطات الراديو الحكومية والمدعومة من الدولة ما تزال قائمة في كثير من الدول الأوروبية وتقوم بأدوار اعلامية بالغة الأهمية، وقد نجت من رياح الخصخصة وأصبحت إحدى وسائل مواجهة تحديات العولمة والأمركة، فما أحوجنا في الوطن العربي لاستمرار دور الدولة في الاعلام، شرط تطوير هذا الدور وتخليص وسائل الاعلام من الطابع الرسمي والأداء البيروقراطي، فضلا عن تحقيق الشفافية والافصاح فيما يتعلق بمصادر الدخل والانفاق.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.