Monday 3rd January, 2000 G No. 9958جريدة الجزيرة الأثنين 26 ,رمضان 1420 العدد 9958



قول الحق أهم شروط المؤرخ
سعود بن دخيّل الشمري


هل صح قول الحاكي فنقبله
أم كل ذاك أباطيل وأسمار؟
أما العقول فآلت أنه كذب
والعقل غرس له بالصدق أثمار
عفا الله عن بعض الكتاب، ما أقدرهم على أن يثيروا عاصفة من غير ريح ويبعثوا حرباً من غير جند,, حلاً لبعضهم ذات يوم أن يكون بيزنطياً يجادل في منطق الطير,,وقد جادل فيه جدال من أعطى أزمة النفوس وأعنة الهوى، حديثه مفعم بالدعاوى الباطلة,, ليت الباهلي تذرع بحكمة المأمون لابنه: تعلم حسن الصمت كما تتعلم حسن الكلام ,, ولم يقع في مزلق حرج بما رمى به الناس فقد ذمهم بغير ما اكتسبوا:

أنمضي في سبيل الأولينا
فنمدح تارة ونذم حينا
ظاهرة نفسية تلفت النظر هي أن الناس على اختلاف درجاتهم في البداوة والحضارة والرقي والانحطاط مولعون بالنقد أكثر من ولعهم بالتقريظ ومولعون بالبحث عن العيوب واظهارها والمبالغة في تصويرها أكثر من ولعهم بالبحث عن المحاسن واظهارها وتصويرها,, وصنف من الكتاب كممثل على مسرح يمثل دور الباحث عن العيوب المتجسس على السقطات يستبشر كلما عثر على خفايا الزلات.
وقول الحق يا باهلي من أهم شروط المؤرخ والكاتب، والتاريخ يسجل الخير والشر.
ففي مقالة الباهلي التي أناقشها الآن خلط بين أشياء لم تفهم، ومصدر الخلط إنما أتاه كما أتى غيره ممن تلقاهم بكل سبيل من معرفة ناقصة مبتسرة ببعض الجهل فقد أخذت الأساطير تشق سبيلها إلينا حتى رأينا الباهلي يكتب في عموده بالجزيرة يوم الخميس الأول من رمضان 1420ه.
فيد قرية مسالمة، أهل فيد يحبون الصيد والفروسية اصطاد أحد أهالي فيد طيراً صغيراً يشبه صغار الصقور ظنه الأهالي صقراً، أحسن أهالي فيد تربية الطير وتنشئته أطعموه من اللحم الغالي، كبير الطير وغطى بالريش جناحيه,, وجاء دوره لجلب الغنائم لأهل فيد!!
لو أننا بحثنا عما خلف هذه الفقرات من معنى كما عنون الكاتب مقاله لم نجد غير شهوة الكتابة، وحب الظهور، ولما كنت أخشى أن تظل مراميه مختفية في ضباب الأسطورة وخلف رموزها لذلك حاولت أن أؤدي ما أراه بكل ما استطعت من الوضوح، بل هو أمر توجب الأمانة ويوجب الاخلاص ان أتجه جهدي إلى تقريبه من القراء وايضاح المعاني، حان طور الكلام والمساءلة من أي مصدر استقيت هذه الأحجية؟

ونص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
مثل هذا الكلام على مافيه من هنات أو تحامل اعتاده كثير من شباب هذا العصر العجيب وحسابهم على الله لعدم عرفانهم بجميل عربي الجزيرة الذي يكرم الغريب كما يكرم القريب، على أنه لا حاجة بنا إلى مناقشة عبارة الباهلي ، والباهلي ليس من عادتهم ولا في طباعهم السباب والشتائم لقومهم:
مهلاً، أخا باهلة، لا تسىء بقسوة الظن إلى القرابة فبأي شيء من هذا تتمارى جدلاً وأنت لو كشفت في نفسك عن مصادر الفكر ومنابع الشعور ومواقع الإلهام لرأيت الروح العربية الكريمة تسري في قلوب أهل فيد أدباً، وتجري على ألسنتهم لغة، وتفيض على عواطفهم كرامة.
لا نريد أن نحاج بما في ثنايا الماضي وذمة التاريخ فإن هذا الحجاج يُقطع فيه النفس ولا ينقطع فيه الجدل، وكفى بالواقع المشهود دليلاً واضحاً.
نبطت جماعة غضبى أو هازلة عابثة فوضعت ما شاء لها الوضع في الشعر والتاريخ والأدب وألفت كتب المثالب والطعن فكان من جراء ذلك كله ما كان من تشويه حقائق التاريخ وحقائق العلم وتوجيه الرواية والأدب وجهة خاصة هي إلى الهدم أقرب منها الى أي بناء، هؤلاء هم الشعوبيون ديدنهم الانصباب على تشويه تاريخ العرب وتزويره إلى حد يجد معه المتأخرون صعوبة جمة في تبين معالم تاريخنا.
أما فيد من حواضر جبل سلمى المشهور وهي احدى مدن منطقة حائل، تقوم على أكثر من أربعة عشر قرناً من التاريخ العربي الإسلامي، وسكانها اليوم الأسلم من قبيلة شمر الطائية، محط رحال قوافل الجزيرة والحجاج قديماً وحديثاً على درب زبيدة، عناهم الشاعر الطائي بقوله:

وإذا تأمل شخص ضيف مقبل
متسربل سربال ليل أغبر
أو ما إلى الكوماء: هذا طارق
نحرتني الأعداء ان لم تنحري
ضرب المثل في كرم حاتم وجود طيء قبيلته التي ينتمي إليها اليوم أهل فيد,, لم أطل هنا وإنما جئت بملامح سنجد تجسيدها الواضح في تراثنا العريق.
* جود طي:
يضرب به المثل، لكون حاتم وأوس بن حارثة ابنا لأم منهم وهما آية في الجود والكرم قال أبو تمام

لكل من بني حواء عذر
ولا عذر لطائي لئيم
ويروي ان أوساً وحاتماً وفدا على عمرو بن هند فدعا أوساً وقال له: أنت أفضل أم حاتم فقال: أبيت اللعن لو ملكني حاتم وولده ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة، ثم دعا حاتماً فقال: أنت أفضل أم أوس؟ فقال: أبيت اللعن إنما ذكرت بأوس ولأحد ولده أفضل مني فقال عمرو: والله ما أدري أيكما أفضل وما منكما إلا سيد كريم,, ومن محاسن أوس أن النعمان بن المنذر دعا بحلة نفيسة وعنده وفودالعرب من كل حي وفيهم أوس فقال لهم: احضروا غداً فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم فحضر القوم إلا أوساً فقيل له: لم تتخلف؟ فقال: ان كان المراد غيري فأجمل الأشياء بي ألا أكون حاضراً وان كنت المراد فسأطلب فلما جلس النعمان ولم ير أوساً قال اذهبوا إلى أوس فقولوا له: أحضر آمناً مما خفت فحضر فألبس الحلة فحسده قوم من أهله فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة فقال: كيف أهجو من لا أرى في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا من عنده! ثم قال:

كيف الهجاء وما تنفك صالحة
من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
فقال لهم بشر بن أبي خازم: أنا أهجوه لكم، وفعل، فأخذ الإبل فأغار أوس عليها واكتسحها وطلبه فجعل لا يستجير حياً من أحياء العرب إلا قالوا له: قد اجرناك من الجن والإنس إلا من أوس فكان في هجائه إياه ذكر أمه، فلم يلبث إلا يسيراً حتى أتى به أسيراً فدخل أوس إلى أمه واستشارها في أمره فقالت: أرى أن ترد عليه ماله، وتعفو عنه وتحبوه، وأفعل أنا مثل ذلك، فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه فأخبره بما قالت فقال: لا جرم والله لا مدحت أحداً غيرك حتى أموت,, ففيه يقول:

إلى أوس بن حارثة بن لأم
ليقضي حاجتي فيمن قضاها
وما وطىء الثرى مثل ابن سعدى
ولا لبس النعال ولا احتذاها
ورحم الله شيخ الأدباء والمحققين محمود شاكر فقد توجس مثل هذا في حياته فقال ناصحاً أميناً: إن هذا العبث الذي يجري اليوم في الصحافة، وفي الكتب، وفي غيرهما مما يقال وما يكتب شيء لا يحتمل وإنها لأيام عصيبة تمر بالعالم العربي والعالم الإسلامي أيام تقف فيها جميع القوى لتنزل بنا ضربة قاصمة وأقوى أسلحتها اليوم هي أسلحة الكلمة في الثقافة والدعاية بجميع ألوانها، وهي تتخذ أعواناً ينبثون في كل ناحية ويعملون في كل ميدان وينفثون سمومهم بكل سبيل، فإذا غفلنا وأطرقنا وتركنا لكل حرية العبث بتاريخنا وبآدابنا وبأخلاقنا وبماضينا وبحاضرنا يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء فقد جعلنا لعدونا علينا سلطاناً يصعب الافلات من قبضته اذا أطبقت علينا، وواجب كل أمرئ أن يتتبع هذه الأقوال والكلمات وان يربط بينها وان يدل عليها من يستطيع ان يعبر عنها أو من بيده زمام من الأزمة هو عليه مؤتمن فإن الأمر اذا انتشر بهذا التهاون لم نأمن غداً يأتي نحتاج فيه إلى جمع الكلمة فلا نجد سوى الفرقة، والحياة اليوم ليست لهواً بل هي حياة مضطربة شديدة الغوائل مخوفة الدقائق والساعات فمن أخذ بجدها فقد نجا ونجا الناس ومن فرط في شيء من صغير أمرها أو كبيره فقد هلك وأهلك الناس.
* فيد:
وصف الرحالة ابن جبير هذا الموضع بأنه: حصن كبير، مبرّج، مشرّف في بسيط من الأرض يمتد حوله ربض يطيف به سور عتيق البنيان وهو معمور بسكان من الأعراب ينتعشون من الحاج في التجارات والمبايعات وغير ذلك من المرافق وهناك يترك الحاج بعض زادهم اعداداً للارمال من الزاد عند انصرافهم ولهم بها معارف يتركون ازودتهم عندهم وهذا نصف الطريق من بغداد الى مكة على المدينة شرفها الله أو أقل يسيراً ومنها الى الكوفة أثنا عشر يوماً في طريق سهلة طيبة والمياه فيها بحمد الله موجودة في مصانع كثيرة.
ويصف ابن جبير في رحلته أن أمير الحاج دخل هذا الموضع المذكور على تعبئة وأهبة ارهاباً للمجتمعين به من الأعراب لئلا يداخلهم الطمع في الحاج فهم يلحظونهم مستشرفين إلى مكانهم لكنهم لا يجدون إليهم سبيلاً والحمد لله والماء بهذا الموضع كثير من آبار تمدها عيون الأرض ووجد الحاج فيها مصنعاً قد اجتمع فيه الماء من المطر فانتزف للحين وامتلأت أيدي الحاج القرمين من أغنام العرب بالمبايعة المذكورة فلم يبق مضرب ولا خيمة ولا ظلالة إلا وإلى جانبها كبش أو كبشان بحسب القدرة والعرض فعم جميع المحلة غنم العرب وكان ذلك اليوم عيدا من الأعياد وكذلك عمتهم جمالهم لمن أراد الابتياع منهم من الجمالين وسواهم للاستظهار على الطريق واما السمن والعسل واللبن فلم يبق إلا من تحمل أو استعمل منها بقدر حاجته .
وفي بعض كتاب الأمثال انه يوجد فيها كعك يضرب به المثل، ونظمه شيخ الأدباء مالك بن المرحل في نظمه للفصيح:

وتلك فيد قرية والمثل
في كعك فيد سائر لا يجهل
وأنشد ابن الأعرابي:

سقى الله حياً بين صارة والحمى
حمى فيد صوب المدجنات المواطر
ومما يذكر عن تحقيق كعك فيد المذكور ما يأتي:
قال الجرجاني في كناياته: والعامة تقول في الكتابة عن النخيل: هو دهن الجص وجواذبة الحصى، وهو من كعك فيد كناية عن الشديد الصعب الذي لا يطمع فيه لأن كعك فيد إنما هو زاد الحاج فيودعونه بها للرجوع فيزداد جفافاً, أ, ه.
وقال ياقوت في معجمه: وفيد بلدة في نصف طريق مكة من الكوفة عامرة إلى الآن يودع الحاج فيها أزوادهم، وما يثقل من أمتعتهم عند أهلها فإذا رجعوا أخذوا أزوادهم ووهبوا لمن أودعوها شيئاً من ذلك وهم مغوثة للحاج في مثل ذلك الموضع المنقطع ومعيشة أهلها من ادخار العلوفة طوال العام إلى أن يقوم الحاج فيبيعونه عليهم.
وقال السكوني: كان فيد فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية فلما قدم زيد الخيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه فيد كذلك روى هشام بن الكلبي عن أبي مخنف في حديث فيه طول قال: وأول من حفر فيه حفراً في الإسلام أبو الديلم مولى يزيد بن عمر بن هبيرة فاحتفر العين التي هي اليوم قائمة وأساحها وغرس عليها فكانت بيده حتى قام بنو العباس فقبضوها من يده وشعر زهير وهو جاهلي يدل على أنه كان فيها شرب ذلك قوله:

ثم استمروا وقالوا ان مشربكم
ماء بشرقي سلمى فيد او ركك
قال الأصعمي سألت نجيبات فيد عن ركك فقيل: ماء ها هنا يسمى ركا فعلمت أن زهيراً احتاج فضعف، وفيد بشرقي سلمى كما ذكر، وسلمى أحد جبلي طيء ولذلك اقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فيد لأنها بأرضه.
وفي جمهرة اللغة لابن دريد مناع: هضبة في جبل طيء, قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد الخيل اذ جاءه ليسلم: أنا خير لك من مناع ومن الحجر الأسود الذي تعبدونه من دون الله يعني صنماً من حجر أسود يعبدونه يسمى الفلس.
انتهى,, وعفا الله عمن رأى خطأه فسارع الى تداركه ولم يحكم بالظن الذي لا يجوز وهذا شأن المنصفين من أتباع السنة الكريمة وانصار الحق وهم الهداة القادة وقليل ما هم، وأظن في هذا مقنعاً لمن أراد أن يقتنع.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

رمضانيات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.