Thursday 20th January, 2000 G No. 9975جريدة الجزيرة الخميس 14 ,شوال 1420 العدد 9975



ظل يتلاشى في ظلام الليل
*ترجمة: حصة إبراهيم العمار

حينما استقر فرانك ايزابيل في منطقة التلال الصفراء خريف 1869 كانت أقرب بلدة تبعد مسيرة اربعة أيام للراكب شمالا أما أقرب جار أبيض فكان على بعد سبعين ميلاً بوادي الرقصتين ورغم ان المنطقة كانت محظورة على الهنود الحمر الا ان سير المرء منفرداً في المنطقة كان يشكل خطراً على الحياة!.
على أن ذلك لم يكن بذي أهمية لإيزابيل الفتي ذي العزيمة الصلبة والإرادة الذاتية القوية إذ انه قد نشأ في ذلك الجزء الفقير من ولاية ميزوري والذي مزقته النزاعات الى حد يبلغ الطفل معه مبلغ الرجال حالما يصبح قادراً على حمل البندقية, ورغم انه كان متوسط الطول حليق الذقن دوماً الا ان خطا رماديا كان يرسم حدود استدارة فكيه، فأما الأرض فخصبة وفيرة المياه، يانعة الأعشاب وهذا في الواقع هو ما حدا به إلى القدوم أصلاً.
على أن اكتفاءه الذاتي هذا قد أعاقه عن التفكير في ذلك الجوع الآخر الذي قد يعصف برجل وحيد, ولما لم يكن هناك ثمة أمل في اقترانه بفتاة بيضاء فقد اضطر الى التوجه إلى المحمية واختيار حليلة له وكانت فتاة هندية دفع لوالدها مهراً قوامه حصان وسبع دجاجات وبدا جليا نجاح الصفقة فقد كانت نظيفة سريعة يقظة,, بعينين كبيرتين تطلان من وجه ناعم مستدير,, على أن ضآلة المهر المدفوع قد جرحت كبرياءها نوعاً وظلت تتألم بصمت حيناً من الدهر بيد أنها تذكرت ان من اختارها وهي الهندية الحمراء كان رجلاً أبيض فآسى ذلك جراح قلبها الكسير ورتق ثقوب اللوعة في صميم كبريائها الأدبي فإذا هي تندمج في حياتها الجديدة داخل كوخ فرانك الخشبي متحملة بصمت وطأة الليالي الثقيلة المملة.
ووجد فيها أكثر مما كان يتوقعه في فتاة هندية,,, فطنة وسرعة في استشراف كنه ما قد يراوده من أفكار,,, وومضات خاطفة من مفارقات تبعث على الابتسام ولمحات لود وليد قبل أن يطل عليهما مولودهما البكر كإشراقة فجر جديد!
وأمطرها بوابل من الهدايا على انه وبمرور الأيام بات يلمح ذلك الفرق في الطباع,,, واختلاف التقاليد التي نصت بالنسبة لها على أن الرجل رجل,,, له هيبته ووقاره وأن على المرأة ان تخدمه وتجله ما استطاعت على ان هناك ذاك الحد الفاصل بينهما والذي لا يجدر تجاوزه بأي حال من الأحوال لكنه وهو الغربي المترعرع في بيئة مختلفة أدرك بعين القلق ذاك الصدع المتعاظم بينهما.
صدمها بادئ ذي بدء باقتطاعه خشب التدفئة وأعقب ذلك بسلخ غنائم الصيد وتقطيعها ,,,, صنيع رأت أنه لا يليق به كرجل.
أخجلها ذلك تماماً كما آلمها اضطرارها إلى تناول الطعام على المائدة بعد إذ عاتبها مراراً كيما تعتاد ذلك.
ورضخت لذلك كله على أن وجهها الطفولي ذاك كان يخفي إرادة صلبة وعزيمة جبارة ما ألجمها غير فضيلة احترام الزوج إلا أن عادات آلاف من الأجيال الغابره كانت مغروسة في ذاتها وكيانها لما تزل!
وكان هو ينفث دخان لفافته بجانب المدفأة فيظل يرقب طفله وهو يحاول السير جاهداً فيتعثر في مشيته، على انه كان يرنو إليها وقد انفردت في إحدى الزوايا المظلمة وغابت في تفكير عميق لم يكن ليتسنى له سبر غوره أو معرفة كنهه,, وكانت أيام طفولته في ميزوري تراوده بين الفينة والأخرى فيود لو حدثها عنها فتشاركه آماله وآلامه وذكريات عذبة غابرة على أن جهله للغتها وعدم معرفتها للانجليزية وأدت ذلك كله فطال ليل الصمت بينهما.
وقامت بلدة جديدة في البراري التي تبعد عنهما ستين ميلاً بوادي الرقصتين فسد مربو الماشية ذاك الفراغ الرهيب في حياته وينظر عبر المتاريس فيرى حياة مدنية جديدة تدنو من منطقتهم.
لقد وصل أبناء جلدته إليه اخيراً, على ان معظمهم شرعوا في إرسال زوجاتهم من الهنود الحمر وأطفالهم المهجنين إلى محمية الهنود ثانية تعبيراً عن اشمئزازهم وخجلهم من بصمة العار التي لحقت بهم جراء زواجهم منهن,,, ولمح فرانك الرعب في عينيها مخافة ان يصيبها ما أصابهن إلا انه وصمهم بالحمقى وبأنه لن يقدم أبداً على الاقتداء بهم فلمح إفراخ الروع في مقلتيها وعودة السكينة إلى طيات روحها.
وذلك في الواقع هو ماحدا به إلى التوجه بها إلى وادي الرقصتين سره ان تبدو معه في تلك البلده لشعرها المجدول الكثيف وملابسها الأنيقة النظيفة دوماً,,,, يقع شعاع الشمس عليها فتنبثق منها ألوان عدة,,, على انها كانت قد غطت عما ألفه من تقاليد إذ بينما كانا يسيران في شارع البلدة ظلت تسير خلفه كما تفعل كل هندية حمراء أصيلة وقد نكست رأسها رمزاً للطاعة والولاء وكان يدرك الكيفية التي سيترجم بها أهل البلدة من بني جلدته تصرفها ذاك فاصطبغ صوته بنبرات الغضب وهو يقول لها في طريق عودتهما إلى المنزل:
تسير زوجة الرجل الأبيض بمحاذاة زوجها ,,, لاخلفه!
ولمح الخوف الداكن في مقلتيها ثانية فلم يتسن له تبديده أما هي فما عادت إلى البلدة ثانية.
وعندما كانت المناسبات تجمعه بأهل البلدة كان يرى الفرق جلياً بينه وبينها ويلمح بعين الشعور ذاك الخط الخفي الواهن الذي يفصله عنهم,,, لم يعد من البيض الخلص! كلا ما عاد كذلك قال في حسرة لنفسه وذات ليلة خريفية توجه إلى البلدة لمشاهدة الرقص الاسبوعي المقام هناك فأحس بمرارة وضعه تجتمع فتشكل كتلة ثقيلة تجثم على صدره! وأدرك وأعين الحسان الراقصات تطوف به فداحة خطئه الذي ارتكبه بزواجه منها والآثار الممضة بعيدة المدى التي تمخض ذلك عنها.
وعاد الى بيته ذلك المساء متأخرا يرنح الثمل خطوه وعندما استيقظ صبيحة اليوم التالي لاحظ اختفاء زوجته وطفله فلم يحرك ساكناً: قد تعود او لا تعود قال في نفسه ولن استطيع في كلتا الحالتين أن أقدم أو أؤخر شيئاً.
وعادت مساء اليوم الثالث متأخرة نوعاً فما نبست ببنت شفة وعندما حان وقت العشاء تناوله وحيداً على الطاوله بعد إذ افترشت ووليدها الأرض ذاك كان قرارها همس لنفسه ولم يكن قد باح لها بمكنون ذاته وما يعتمل في فؤاده من أسى على أنها بذكائها الفطري قد فطنت إلى ذلك,,, حدثه عن ذلك صمتها ! هو رجل أبيض وله أن يتناول على الطاولة طعامه أما هي وابنها فيختلفان عنه ولهما إذاً موضع مختلف.
على أن ذاته كانت تجيش بمشاعر تنضح بالطيبة واللطف وذاك ما كان يعنيه دوماً على تطويع أعتى الأحاسيس والانفعالات.
وكان يعود بذاكرته الى الخلف,,, حينما اقترن بزوجته.
وذاك المهر الزهيد الذي دفعه لها,,.
الى تلك الأيام الخوالي الجميلة,,, يومها كانت السطوة للهنود الحمر ولم تكن الهيمنة والغلبة لقومه كما هي الحال الآن قال لنفسه وأدرك فداحة ما أقدم عليه بزواجه من فتاة هندية,,, وأقر بذلك على أنه قرر أن يتحمل نتيجة تسرعه يومذاك وعاد يذكر نفسه ثانية بين طوفان الأفكار التي تستوي على جوديها ذاته ثم تعود لتموج وتضطرم تارةً أخرى عاد يذكر نفسه بأن آثار خطئه قد تعدته لتطال زوجته وابنه ذا السلالتين.
ولم يكن هناك ثمة أمل فيما يختص به وزوجته فانصب تفكيره على مصير ابنه,, وشرعت أنواء الخواطر تطوف به ثانية بطيئة مؤلمة وذات ليلة شتاء زاره صديقه بيم بينبو لاحتساء قدح من القهوة وظلا يتحدثان عن قطعان البقر والخشب لوهلة ثم لبس الضيف قبعته وقبل ان يصل إلى الباب لمح زوجته وابنه في إحدى زوايا المنزل فالتفت إلى فرانك وقال له ابنك ينمو بسرعة يا فرانك ثم غادر المكان,وسمع لأوراق الأشجار حفيفاً ثم ران ثانية صمت عميق.
وجلس فرانك ويداه ممدودتان على الطاولة ففكر فيما قاله بينبو قبيل ذهابه جملته الأخيرة تلك,, بخصوص ابنه كانت تحوي حكمة بالغة.
ونهض من مكانه فأحضر كرسياً آخر وضعه بجانب الطاولة ثم اتجه إلى ابنه الجاثم مع أمه بصمت في زاوية مظلمة فحمله ووضعه على الكرسي وبقي صامتا لوهلة وامتد على الحائط ظلان لرجل واقف وطفل محني على كرسي امام المنضدة وتكلم الأب فقال:
سيأكل على هذه الطاولة من الآن فصاعداً!
أما هي فعادت القهقري كيما تحتمي بالزاوية اكثر فأكثر كظل يتلاشى في ظلمات الليل الأجوف ثم سمع ووجهه مدار صوب الناحية الآخرة بكاءها الرهيب المكتوم بشرخ جدار الصمت.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

متابعة

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.