Friday 21st January, 2000 G No. 9976جريدة الجزيرة الجمعة 15 ,شوال 1420 العدد 9976



شخصيات قلقة
جونتر جراس ونوبل نهاية القرن العشرين
بئر من الطاقة وصخر من الاستنكار

في أواخر ايام القرن المنقضي وقف جونتر جراس، بشاربه الكث ونظراته الحادة، ملكا متوجا على عرش الادب بعد ان حصل على آخر نوبل في القرن العشرين, ووصفته اللجنة بانه نقل الوجه المنسي للتاريخ من خلال حكايات مروية على ألسنة الحيوانات في قالب من السخرية اللاذعة, واحتاط سكرتير الاكاديمية حين نوه ان الجائزة تمنح لجراس دون الاخذ في الاعتبار آراءه المثيرة للجدل لانه كما تصفه الاكاديمية نفسها بئر من الطاقة وصخر من الاستنكار .
انه طفل مشاكس ومدلل، ولد في منتصف المسافة بين حربين عالميتين، وتحديدا عام 1927م ورأى وهو شاب يافع اهوال الحرب العالمية الثانية، وكيف اقتطعت مدينة دانسيك المدينة التي ولد بها لتضم قسرا إلى بولندا، كما رأى خلال هجرته إلى برلين قسوة النازية والجوالكابوسي الكئيب، فانضم إلى جماعة 47 التي انشئت عام 1947م وكان من بين اعضائها هايزش بول صاحب نوبل 72 وكذلك الكاتب الشهير مارتن فالسر, لقد كانوا جيل الغضب والرفض، أو الجيل الذي أذلته النازية وانهكته الحرب.
ولم يقو جراس على تحمل الحياة في برلين بعد ان صارت مدينة تسكنها اشباح القتلى واهات الثكلي، فآثر الهجرة الى باريس النور والحرية في منتصف الخمسينيات, وهناك راح يجتر احلامه المهيضة ويعيد تجميع صور الحرب الاليمة، ويسردها في فوضوية مفرطة، وبحساسية فائقة، من خلال عيني الطفل اوسكار الذي توقف عن النمو في الخامسة من عمره، وصار يمشي في الشوارع المحطمة وهو يدق على طبلته الصفيح لحنا جنائزيا خاصا به يوازي حالة الضياع وبؤس الناس، وكانه يودع اطلال برلين بعد ان دمرتها وحشية النازي ونيران الحرب.
ويعود جراس إلى الوطن عام 1960م وبدلا من ان يبقى بعيدا عن العاب السياسة إذا به ينضم الى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ويؤازر فيلي برانت عمدة برلين انذاك حيث تنمو بينهما صداقة وطيدة حتى بعد ان يصبح برانت وزيرا للخارجية ثم واحدا من اشهر مستشاري المانيا في القرن العشرين، ورغم ان جراس كتب لصديقه بعض الخطب، إلا انه عادى سياسته في التقارب بين الشرق والغرب والتي نال عنها برانت جائزة نوبل للسلام عام 1971م وتجلت تلك المعاداة في موقفه من توحيد المانيا عام 1989م حيث رأى أن الامر مجرد ضم وليس توحيدا، لأن البلدين انفصلا بطريقة يصعب معها اعادة التوحيد بينهما بهذا الشكل العشوائي.
عبر جراس عن رؤيته تلك في روايته الحقل الواسع وعبرت مجلة دير شبيجل الشهيرة عن رفضها لتلك الرؤية حين صدرت وعلى غلافها صورة للناقد مارسيل رايخ وقد مزق احدى روايات جراس الى نصفين, ورغم تلك الحملة لم يتوقف الطفل العنيد المشاكس عن اللعب بالنار ومواجهة الحكومة بأسرها، وحتى حزبه الاشتراكي لم يسلم من سهامه النافذة,, ليتحول جونتر جراس شيئا فشيئا إلى المعارض الاكبر للمؤسسة الحاكمة في المانيا، بقدرته العجيبة على تحويل الجميع إلى اعداء يصوب نحوهم طعنات قلمه الجريء والمتمرد.
لقد جرب جراس في ثورة تمرده تلك كافة اشكال الكتابة، فألف العديد من الدواوين الشعرية والعديد من المسرحيات مثل: الطباخون الاشرار التي تنتمي إلى مسرح العبث او اللامعقول، كما ألف العديد من الروايات الهامة مثل اعوام الكلاب وكذلك روايته الضخمة سمكة موسى التي يحاول من خلالها اعادة كتابة تاريخ البشر من خلال المطبخ وأنواع المأكولات وأدوات الطبخ، انها باختصار عرض لحضارة الغذاء الانساني بعد ان تحول الجوع الى اسطورة مفزعة تشي بالتطور الخاطئ للعالم، حيث ينتهي ذلك التطور بالحزن والاكتئاب والالم، لقد تحول الجوع إلى سلطة وتسلط,, ومن هنا يسأل المبدعين قائلا: هل باستطاعتهم ان يكبحوا جماح انفسهم ازاء امكاناتهم؟ بمقدورهم ان يتواضعوا ازاء ما تبقى من هذه الطبيعة المخربة؟ فلنسأل أخيرا,, الا نريد تحقيق المستطاع؟ الا نريد ان نطعم بعضنا حتى يتحول الجوع إلى تلك الخرافة الشهيرة (كان يا ما كان),.
جراس يؤمن بالكتابة وانها وسيلة للتعبير، وقادرة على البقاء والخلود والحياة تحت اسوأ الظروف، فالابداع قد يغزل خيوطه من مآسي الحروب، والفن يأخذ قيمته حين يكشف عن القناع المزيف للتاريخ، وحين يعري اكاذيب السياسة,, وأبدا لم يتزعزع هذا الايمان لديه الا في عام 1979م فبعد ان كان يقول: حيث عم الخراب لم تزدهر هناك غير الكلمات , رأى الادباء يؤمنون بانهم لامستقبل لهم، يكتبون فحسب عن اليومي والاستهلاكي، ليموت الادب بالضرورة بعد ان يفقد المستقبل والخلود، هذا ما افزع جراس ورأى فيه تهديدا باسدال الستار على العقل الانساني, فمال في احيان كثيرة الى الصمت، واحيانا يمارس هوايته في الرسم او في الوقت في المطبخ،، قائلا في نبوءة مفزعة: لم يعد هناك مغزى ما للكتابة الان، فالحاضر القائم قد سلب الادب حليفه الاصيل، قد سلبه المستقبل والامل في الدوام.
ما يحزن جراس ليس بقاء الحروب والقتل والتسلط بقدر ما يحزنه ان يفقد الادباء احساسهم برسالتهم ويقينهم الدائم بخلود الادب, وربما تأتي جائزة نوبل لتؤكد على ان جونتر جراس راهن على الحصان الرابح، واسترد اعتباره حتى في وطنه وبعد ان نشرت صورة روايته ممزقة على غلاف دير شبيجل، جاء عام 1999م لتوزع صورة كبيرة مرسومة لشاعر المانيا العظيم جيته وهو يتصفح احدى روايات حفيده الاشهر جونتر جراس الذي يرفض ان يتصالح مع السلطة الى الآن، ويقول في قصيدته نورماندي .
المخابئ على الشاطئ
لا تستطيع التخلص من خرسانتها
أحيانا يأتي جنرال بين الحياة والموت
ويمسح على فتحات اطلاق النار
او قد يقيم السياح
خمس دقائق اليمة
رياح ورمال وورق وبول
الهجوم دائم لا يتوقف


رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

الثقافية

الاقتصادية

متابعة

فروسية

أفاق اسلامية

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

أطفال

تحقيقات

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.