Thursday 27th January, 2000 G No. 9982جريدة الجزيرة الخميس 20 ,شوال 1420 العدد 9982



خطوات على جبال اليمن
د, سلطان سعد القحطاني

لا أظن أن الزمن يهم شخصا مثلي، فأنا لا استثمر الزمن مادمت في هذا المكان.
ولكن إحساسا بالرغبة في الذهاب إلى ذلك الصوت، ومرافقة المارة الذاهيبن إلى هناك ألحت علي فقمت من مكاني، وذهبت إلى الحمام للوضوء، ثم الذهاب للصلاة.
عند باب المسجد بعد الصلاة وجدت أحمد أحد العاملين في المستشفى، ورافقته إلى الداخل حيث طلب مني مرافقته للتجول قليلا داخل الفناء، وشرح لي كثيرا عن هذا البناء، وكلما هممت أن أسأله عن المدة التي قضيتها في المستشفى، ترددت خجلا، وما كان أحمد يعطي الفرصة للسؤال، فهو كثير الكلام وبسرعة هائلة، حتى أنني أحيانا لا أستطيع أن أفهم شيئا مما يقول, كان يصل حديثا بحديث وقصة بقصة أخرى حتى وصلنا باب غرفتي، وودعني بكلمة غريبة وكل شيء عندي غريب قال: تصبح على خيرياعزي فالتفت خلفي فلم أجد أحدا، ونظرت إلى داخل الغرفة، فلم أجد إلا شخصا نائما، ودخلت الغرفة واستلقيت على ظهري أدير الأفكار المتضاربة في ذهني، من يكون العزى هذا؟ لربما يكون احد يداعبني بهذه الكلمة، وجعلت حسن الظن شعاري، وتناولت الملف الأصفر لأقرأ ما فيه، وقبل أن أفتحه سمعت صوت الممرضة تصرخ في الغرف المجاورة بصوة عال مزعج، وسرعان ما وصلت إلى باب غرفتي وأطفأت النور,,, أخذتني أمواج التفكير، ولكن في ماذا أفكر؟ لا أدري، كلما أعرف أن خلفي مجهولا وأمامي مجهول وكل يوم يزداد إحساسي بالمجهول، لكن الليلة شعرت باقتراب المجهول، قطعت حبل أفكاري المضطربة صفارة إنذار قوية لم أسمعها من قبل، وشدة الحركة والاضطراب الذي ساد المستشفى، وحضور الأطباء والممرضين في هذا الوقت على غير العادة، أربع أسرة كانت خالية وسرعان ما صفت بجوار بعضها ووضع عليها ستة أشخاص ثم حجبت عنا بحجاب، وتجمع الأطباء حول المرضى، وانتشرت رائحة الأدوية مما ضايقني فخرجت إلى الممر، وكانت مناظر لم ألفها من قبل، وكانت مجموعات من الجثث تغطى بأقمشة بيضاء، والغرف مملوءة بالمرضى الجرحى والأطباء في حالة استنفار قصوى,,, مر بي أحدهم وخلفه تلك الممرضة السمينة، نظرت إلي كعادتها بنظرات الغضب وصرخت قائلة: انصرف إلى مكانكيكفينا الذي فينا وعدت إلى مكاني في الغرفة، وقد صف العمال سريري بجانب المريض الآخر في ركن بعيد عن الجرحى، ونظرت إلى زميلي نظرة استفسار وحيرة، فبادلني النظر والغرابة تبدو على محياه، والدهشة تمتلك كل عضلة من عضلات وجهه النحيل، تجر فسألته، ماالخبر فرد علي بصوت يشوبه الحزن!لاحول ولا قوة إلا بالله حاولت الخروج لصلاة الفجر فمنعني المسؤول، وطلبت منه جواباً وكان جوابه غامضاً، حيث قال : هذه نتيجة الحروب، لا تأتي بخير، ما ذنب قرية أحرقت وتقل أهلها؟.
فعدت إلى مكاني، وقد تضاعفت دهشتي، وأنا أردد، ماذنب قرية قتل أهلها ولكن كيف قتلوا؟ ولماذا قتلوا؟ وأين هي الحرب؟! جاءت ممرضة كنا نتجرأ على سؤالها، وخلفها عامل المطعم يحمل صحناً فيه الإفطار، فسألتها وكان جوابها:
أنت أدرى فما تزال تحت العلاج، من مثل هذه الحالة زاد الغموض، فلا أذكر أنني في قرية قتل أهلها ولم أدخل حرباً ولا أذكر من الماضي شيئاً، ولا أذكر أنني محمد او العزى أخيراً، أسكن هذا المستشفى وكفى, تناولت الإفطار على غير شهية، وقد وردت إلى المستشفى مجموعة أخرى من الجرحة لا يوجد لهم مكان، منهم من أدخل غرفة العمليات، ومنهم من تجرى له عملية في الممرات ومنهم من يرقد على الأرض!!!
ازدادت الدهشة وكثرت الحركة، وكل مشغول بنفسه، مما انعكس سلباً على نفسيات المشتغلين في المستشفى بشكل عام، وكنت من الذين تأثرت نفسياتهم سلباً بمنظر القتلى والجرحى، وماكان لي بهذه المناظر عهد، فأنا قريب عهد بالحياة وملابساتها، وما كرهت هذا المكان كرهي له اليوم، فقد أحسست بالضيق وتمنيت لو خرجت من هذه الغرفة إلى أي مكان آخر لا أرى فيه هذه الحالات التي تبعث على الاشمئزاز, وبينما أنا غارق في هذه الأحلام، أقلب بصري ذات اليمين، وذات الشمال دخل الغرفة رجل كنت رأيته من قبل في المستشفى يعمل في غير حقل التمريض، كان يحمل بين يديه قطعة قماش أبيض، ظننت أنه سيلف فيه أحد الموتى، فشكل هذا القماش صار مألوفاً بالنسبة لي منذ فجر هذا اليوم، ولكن القماش كان ينطوي على شيء في داخله، يقبض عليه الرجل بكلتا يديه، ويرفعه بمحاذاة صدره، ويبدو انه شديد الحرص عليه، مما يذكره بشدة مسؤولية الأمانة.
وقف بالقرب من سريري، وطلب مني النزول، ورفع ثيابي ثم لفه حول خصري بشدة، ثم همس في أذني قائلا:هذه نقودك يامحمد وجميع أوراقك ثم انصرف بسرعة وأنا في مكاني لا أدري ماذا يعني ولم يترك لي الفرصة لمناقشته.
وقبل أن أعود إلى سريري جاءت الممرضة وطلبت مني ترك السرير، وخلفها ممرض يدفع سريرا خرج صاحبه لتوه من غرفة العمليات وخلفها طبيب طلب مني مغادرة المستشفى نهائياكانت المفاجأة أكبر من توقعاتي هذا المستشفى هو بيتي ومولدي، كنت كرهت البقاء فيه بعد أن رأيت هذه المناظر البشعة، ولكن المجهول ينتظرني، وخوفي منه شديد، وما كان أمامي أي خيار آخر غير الامتثال لطلب هذا الطبيب تأكيدا لما تسلمت من أمانة هي الآن تحت ثيابي البالية الممزقة, وخرجت، ولكن إلى أين؟! الماضي مجهول والمستقبل مجهول، وسلمت أمري إلى الله,.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

متابعة

منوعـات

لقاء

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.