Monday 31th January, 2000 G No. 9986جريدة الجزيرة الأثنين 24 ,شوال 1420 العدد 9986



الرئة الثالثة
لا ,, لن يموتَ التاريخ !
عبدالرحمن بن محمد السدحان

وتهلّ جنادريةُ هذا العام من جديد بدراً يتلألأ عِطراً وعطاءً! وقد كانت قبل سنين خلت واحةَ صمتٍ وسط جزيرة العرب قبل ان يقتحم سكونَها عقلُ الإنسان السعودي وخيالُه، لينهيَ خلوتها مع الزمن,, ويحيلَ وحشتها فرحاً,, وصمتها صخباً، وجدبَها عطاءً!
***
أمسى للإبداع في بلادنا الغالية موعدٌ يتجدّد كلّ عام على أرض الجنادرية وخارجها، وبتنا نترقب سحابةَ هذا الحدث الثقافي كل حول,, كي تمطرَ عقولَنا شعراً ونثراً وتراثاً وفناً! ويزدادُ حدثُ هذا العام تألقاً بتزامنه مع بدء ولاية الرياض عاصمة للثقافة العربية عام 2000م!
***
ولقد تراءت لي في هذه المناسبة الكبرى ذكرى (وفاة) نظرية (نهاية التاريخ) على أرض الجنادرية قبل ثلاث سنين، حين حلّت (ضيفةً) على ندوتها السنوية,, لتتحوّلَ بعد ذلك إلى رفاتٍ من الفكر المرفوض! تلكُم هي جدليّة المفكّر الأمريكي جنسية، الياباني أصلاً، فرانسيس فوكوياما، التي حاول من خلالها أن ينسبَ للغرب تفوُّقاً في التعامل مع معادلة الشقاء الإنساني، زاعماً أن الغربَ بذلك قد وضع حداً لسيرة التاريخ ومساره! وأزعمُ هنا أن جدليّة فوكوياما عن (نهاية التاريخ)، هي ضربٌ من (شوفينية الفكر) التي يشقى بها بعضُ فلاسفة الغرب المعاصر، ويفتنون بها أفئِدَتنا نحن عُقلاءَ الشرق، ثم يدعُوننا نسهرُ جراها ونختصم!
***
وهم يفعلون ذلك لدواعٍ متعددة، ويبرِّرونِ بَدعهم الفكرية بالرغبة في البحث عن سُبل إنقاذ الانسان الحديث من شقائه بنفسه مع نفسه، ومع الآخر، بحثاً عن الزاد أو الأرض أو السلطة أو كل أولئك معاً!
وهذه نزعةٌ تتلثّمُ في ظاهرها بالطُّهر,, وتتزينُ في ظواهرها بالنبل في طلب المقاصد، لكنها في حقيقة الأمر تعتمدُ على أحادية التقرير والتقدير بأن الأيدلوجيةَ السياسيةَ الغربيةَ تملك وحدَها لا سواها ناصيةَ المبادرة لرفع الأذى المادي والمعنوي عن كاهل الانسان المعاصر، وتحريره من رقّ التخلّف والجهل وبوار الذات, وهي تتعمّدُ التجاهلَ لأطروحة ديننا الإسلامي الحنيف الذي بشّر قبل أربعة عشر قرناً بسعادة الإنسان في الدارين، ودعا إلى تحريره من ربقة الظُّلم والتسيُّدِ المادي والمعنوي، وهو أولُ وثيقة (حقوق إنسان) أُخرِجت للناس قبل أن يُتقنَ الغربُ أبجدياتِ لغاتِه,, فيها تحصينٌ للمرء من كلّ أذى يمسُّه: دماً ومالاً وعرضاً!
***
ونظريةُ (نهاية التاريخ) ما هي إلا مقولةُ أخرى ضمن النَّسَق العبثي الذي يبكي على أطلال شَقاء الإنسان,, ويَعِدُه بطوبائية (الليبرالية الديمقراطية)، زاعماً أن فيها بلسمَ محَنِه مع نفسه أو مع الآخر,, ونهايةً لتداعيات شقائه الناجم عن ذلك,, فيحلّ السلم والسلام، وتسود الحرية والرفاه، ويتوقف بذلك نبضُ التاريخ، في ظل (اليوتوبيا) السياسية التي بشر بها فوكوياما!
***
والأعجب من هذا كله أن التاريخ الذي يطمع فوكويوما ان يئِدَه في ثرى (الفردوس) السياسي المزعوم يذكّرنا بمن سبقوه بحثاً عن معادلةٍ تهادن الانسان مع نفسه ومع الآخر,, أفلَم يبشّرنا منظّرو الفكر الشيوعي قبل أكثر من سبعين عاماً بأن نظريتهم البائدة تملك الحلّ لصراع الطبقات تحت مظلة (الحرية من الجوع) ولا شيء سواه! لكنها فشلت بعد تجربة مريرة جرحت كرامةَ وحرية ومعنويات ملايين من البشر في الشرق والغرب، فما شهِدُوا عدلاً، ولا شبعوا زاداً، ولا أنهوا خِلافاً! كان لابدّ أن تسقط هذه النظرية، فكراً وتنظيماً، لأنها ناقضت فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها، وخالفت ما تعارفَ وتآلف عليه الناس، من أخلاق وقيم وعادات,, تتنزّه بها إنسانيتُهم، وتسمُو بها معادلاتُ سلوكهم!
***
لقد نسي فوكوياما ومؤيِّدُوه أن الإنسان الغربي المعاصر بات نفسُه يشقى بليبراليته شقاء يكاد يفقده توازنه الماديَّ والاجتماعي والمعنوي، وهو يعاني ويلَ التناقض بين ما يبشِّر به وبين مُخرجات فعله, نسيَ المنظِّرُ السياسي فوكوياما ان النظام العالمي الجديد، مُمثلاً في غَلَبةِ أهل الدولار، عاجزٌ حتى الآن عن توفير مظلة الأمن والغذاء والعدل في عُقر داره، فكيف يتوقّعُ أهلُ العالم الثالث منه ما لم يتأَتَّ له؟!
***
وكلُّ (جنادرية),, ووطننا بألف خير!

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

الطبية

تحقيقات

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]
ContactMIS@al-jazirah.com with questions or comments to c/o Abdullatif Saad Al-Ateeq.
Copyright, 1997-1999 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved.