Tuesday 8th February, 2000 G No. 9994جريدة الجزيرة الثلاثاء 2 ,ذو القعدة 1420 العدد 9994



معالم المدينة المنورة بين العمارة والتاريخ
(تأليف المهندس المعماري: عبدالعزيز بن عبدالرحمن كعكي)
* بقلم الشيخ حمد الجاسر

(1)
أي مسلم لا يهفو قلبه، ويخطر بباله أطيب الذكريات حين يذكر اسم طيبة الطيبة تلك المدينة الطاهرة التي شرفها الله جل وعلا وأعلى ذكرها، ورفع قدرها، وأحلها في قلوب عباده المؤمنين منزلة سامية، ومكانة من الإجلال والتقدير في نفوسهم، لاختيارها دار هجرة أشرف الرسل وخاتمهم، ومُتَبَوَّأً له عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم يعيش بين ربوعها الطاهرة، يحف به من آله وأصحابه صفوة خلق الله ممن بذل النفس والنفيس في تقديره، ومناصرته في إبلاغ رسالة ربه، ونشر دعوته إلى جميع الناس، تلك الدعوة التي قامت على أقوى الأسس وأعدلها، وأوضحها منهجاً، وتحقيقاً لسعادة الإنسان في دنياه وأخراه، وتوضيحاً وإرشاداً بخير الوسائل وأحكمها، لفهم مقاصد تلك الرسالة، القائمة على مابلغه الله من وحيه وأنزله مفصَّلاً ومبيناً في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وبما صح وثبت من سنته ، قولاً أو فعلاً، حتى أبلغ صلى الله عليه وسلم تلك الرسالة على أكمل وجه، وأوضح نهج ، وترك من وفقهم الله لطاعتهعلى المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك فاختاره الله لجواره، وكما اختيار هذه البلدة الطيبة، دار هجرته، ومقر الصفوة من صحابته رضوان الله عليهم شرفها بأن تكون مقراً لجدثه الطاهر.
لابدع إذن أن تنال من اهتمام من أكرمهم الله بمزيد من فضله، واختصهم بما أوجد في قلوبهم من محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم وإدراك مقاصد شرعته، وما لهذه البلدة من منزلة في نشر تلك المقاصد في الخافقين ، أن يولوها من العناية ما هي جديرة به، فتبادروا في إيضاح جوانبها، من عمران مسجدها الكريم، وإبراز الثابت المأثور مما هو بحاجة إلى إبراز، مما يتعلق بماضيها وحاضرها.
فكان أن اتجه من اختارهم الله لصحبة نبيه الكريم، ممن عرفه حق المعرفة، وشاركه في جميع حركاته، وناصره في غزواته لإيضاح جميع ما يعرفون من أحواله لمن بعدهم ممن صرف همته لإجلاء تلك الأحوال الكريمة بأوضح صورة، وكان أن بدأ تدوين السيرة المطهرة في القرن الأول من القرون المفضلة بنص الحديث الشريف عنه عليه أفضل الصلاة والتسليم:خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ، وكان أول من عني بذلك أبان (1) ابن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه فقد روى الزبير بن بكار في كتابه أخبار الموفقيات (2) هذا النصحدثني عمي مصعب بن عبدالله عن الواقدي قال: حدثني ابن أبي سبرة عن عبدالرحمن بن يزيد قال: قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجاًّ سنة اثنتين وثمانين، وهو ولي عهد، فمرَّ بالمدينة، فدخل عليه الناس، فسلموا عليه، وركب إلى مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم التي صلى فيها، وحيث أصيب اصحابه بأحد، ومعه أبان بن عثمان، وعمرو بن عثمان وأبو بكر بن عبدالله بن أبي أحمد، فأتوا به قباء، ومسجد الفضيخ، ومَشرَبة أم إبراهيم، وأحد، وكل ذلك يسألهم، ويخبرونه عما كان، ثم أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه، فقال أبان: هي عندي ، قد أخذتها مصححة ممن أثق به, فأمر بنسخها وألقى فيها إلى عشرة من الكتاب، فكتبوها في رقٍّ، فلما صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين، وذكر الأنصار في بدر، فقال: ماكنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا, فقال أبان بن عثمان: أيها الأمير لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم من خذلانه، إن القول بالحق: هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا, قال: ما حاجتي إلى أن انسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين، لعله يخالفه، فأمر بذلك الكتاب فحرق، وقال: أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت، فإن يوافقه فما أيسر نسخه, فرجع سليمان بن عبدالملك فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان، فقال عبدالملك: وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تعرِّف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها, قال سليمان: فلذلك يا أمير المؤمنين أمرت بتخريق ما كنت نسخته حتى استطلع رأي أمير المؤمنين.
فصوَّب رأيه، وكان عبدالملك يثقل عليه ذلك، ثم إن سليمان جلس مع قبيصة بن ذؤيب، فأخبره خبر أبان بن عثمان، وما نسخ من تلك الكتب، وما خالف أمير المؤمنين فيها، فقال قبيصة: لولا ما كرهه أمير المؤمنين لكان من الحظ أن تعلَّمها وتعلِّمها ولدك وأعقابهم، إن حظ أميرالمؤمنين فيها لوافر، إن أهل بيت أمير المؤمنين لأكثر من شهد بدراً، فشهدها من بني عبدشمس ستة عشر رجلا من أنفسهم وحلفائهم ومواليهم، وحليف القوم منهم، ومولى القوم منهم، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعماله من بني أمية أربعة: عتاب بن أسيد على مكة، وأبان بن سعيد على البحرين، وخالد بن سعيد علي اليمن، وأبو سفيان بن حرب على نجران، عاملا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني رأيت أمير المؤمنين كره من ذلك شيئا فما كره فلا تخالفه, ثم قال قبيصة: لقد رأيتُني وأنا وهو يعني عبدالملك وعدة من أبناء المهاجرين، مالنا علم غير ذلك حتى أحكمناه، ثم نظرنا بعد في الحلال والحرام.
فقال سليمان: يا ابا اسحاق ألا تخبرني عن هذا البغض من أمير المؤمنين وأهل بيته لهذا الحي من الأنصار وحرمانهم إياهم لم كان؟ فقال: ياابن أخي أول من أحدث ذلك معاوية بن أبي سفيان، ثم أحدثه أبو عبدالملك، ثم أحدثه أبوك, فقال: علام ذلك؟ قال: فوالله ما أريد به إلا لأعلمه وأعرفه.
فقال: لأنهم قتلوا قوما من قومهم، وما كان من خذلانهم عثمان رضي الله عنه فحقدوه عليهم، وحنقوه وتوارثوه، وكنت أحب لأمير المؤمنين أن يكون على غير ذلك لهم، وأن أخرج من مالي، فكلمه, فقال سليمان: أفعل والله , فكلمه وقبيصة حاضر، فأخبره قبيصة بما كان من محاورتهم, فقال عبدالملك: والله ما أقدر على غير ذلك، فدعونا من ذكرهم، فأُسكت القوم , انتهى.
أحببت إيراد هذا الخبر على طوله، لإيضاح جانب من جوانب تدخل الولاة في تدوين التاريخ.
كان الاتجاه في أول أمره لتدوين السيرة النبوية، وهي شاملة لجميع أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وليست خاصة ببيان غزواته وسراياه، بل تتضمن تأسيس مسجده الشريف، وبناء دُوره، وذكر منازل أصحابه، وهي منتشرة في المدينة، وما فيها من المساجد التي اختطها المصطفى عليه الصلاة والسلام في كل محلة من محلات أولئك الأصحاب، مما هو موضح فيها عرف من كتب السيرة ك المغازي للواقدي 130/207 ه والسيرة النبوية لمحمد بن اسحاق المتوفى سنة 152 ه التي لخصها عبدالملك بن هشام المتوفى سنة 218 ه والطبقات الكبرى لمحمد بن سعد المتوفي سنة 230ه وغيرها من المؤلفات لعلماء القرن الثاني الهجري ثم من بعدهم من المؤرخين.
أما الكتب المخصصة لتاريخ المدينة، فهي وإن تصدى لتدوينها علماء متقدمون من أهل القرن الثاني ممن لم تصل إلينا شيء من مؤلفاتهم ومن أقدمهم: عبدالعزيز بن عمران الزهري المدني، ومحمد بن الحسن بن زبالة المخزومي المدني صاحبأخبار المدينة الذي نقل عنه السمهودي في 350 موضعا، وكان موجودا عنده، ولعله احترق مع كتبه في الحريق الذي وقع في المسجد النبوي في رمضان 886، فقد قال السمهودي: وكنت تركت كتبي بالخلوة التي كنت أقيم بها في مؤخرة المسجد، فكتب إلي باحتراقها (3) .
ومن أشهر مؤرخيها: عمر بن شبة النميري البصري 173/262ه وقد وصل إلى القراء قطعة من تاريخه هذا، نشرها وجيه أهل المدينة السيد حبيب محمود أحمد نشرة يعوزها التحقيق 4 ، ثم توالت المؤلفات بعد ذلك مما رجع السمهودي إليها، وقد نُشِر كثير منها واشمل من ألف في تاريخ المدينة بحق هو نور الدين علي بن عبدالله السمهودي 844/911ه فتصدى لجمع تاريخ هذه البلدة الطيبة وأفرغ جهده واتجه لذلك اتجاها برز أثره فيما بقي من مؤلفاته واحفلها وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى واختصره من كتاب مطول له في الموضوع، وله خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى اختصر فيه وفاء الوفا وله مؤلفات غيرها.
أما قول السخاوي عنه: إن تاريخه في المدينة مفتقر إلى تحرير ونظر, فمثل كثير من أقواله عن مشاهير العلماء, واستمر التأليف بعد السمهودي عن طيبة الطيبة.
وفي عصرنا ألف عدد من أدباء المدينة في هذا الموضوع ومنهم على سبيل المثال: الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري (5) .
والأستاذ علي حافظ (6) له كتاب فصول من تاريخ المدينة المنورة .
والأستاذ ابراهيم بن علي العياشي (7) له مؤلف في تاريخها بعنوان المدينة بين الحاضر والماضي .
وللأستاذ عبيد مدني موسوعة في تاريخ المدينة لا تزال مخطوطة (8) .
وبين يدي الآن كتاب قيم ذو منهج خاص، يتعلق بهذه المدينة الطاهرة هو كتاب معالم المدينة بين العمارة والتاريخ والمؤلف الكريم من أبناء طيبة، إلا أن تمكنه من الهندسة المعمارية أقوى من توسعه في علم التاريخ، هو المهندس المعماري عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن إبراهيم كعكي، رأى أن يبذل ما يستطيع بذله في سبيل جوانب مهمة مما يتعلق بهذه المدينة الكريمة من خلال ما تخصص فيه، مضيفا إلى ذلك ما يتصل به من الناحية التاريخية، فألف هذا الكتاب الحافل بالطريف المفيد من ذلك، وهو على ما جاء في مقدمة مراجعه صاحب الفضيلة الشيخ عبيد الله محمد أمين كردي (9) الذي قال (10) : قرأت صفحات الكتاب بأجزائه التسعة كلها كلمة كلمة,, وهذه الأجزاء يمكن أن تصوِّر في وصفها العام النسيج العمراني للمدينة المنورة، من حيث تكوينه، ومراحل تطوره، وتقدمه الحضاري، إلى جانب الهيكل العام للمظهور الطبيعي جغرافيا وطبوغرافيا .
وما اطلعت عليه منها هو الجزء الاول في مجلدين، والجزء الثاني في مجلد، من القطع الكبير، وسأتحدث عنهما بإيجاز، أما الأستاذ المؤلف فهو مهندس ذو تفنن في مهنته، مما أضفى على الكتاب حلة جميلة في مظهره بالطباعة الأنيقة، وبالصور المتقنة، وبالرسم الدقيق لكل ما يتعرض لذكره، بحيث ذكرني بعمله ما فعله الأستاذ محمد طاهر الكردي المتوفي 1400ه رحمه الله في كتابه التاريخ القويم، لبيت الله الكريم فالكتابان تبرز فيهما آثار المؤلفين الكريمين، من حيث الإجادة، وهما من ذوي العناية بفنهما.
وكتاب المهندس عبدالعزيز الذي بين يدي القارئ وصفه مراجعه الأستاذ عبيد الله فقال: قسم المؤلف كتابه إلى اجزاء تسعة:
الأول: خاص بالمعالم الطبيعية جبال وحرَّات واودية.
والثاني: دراسة مراحل التطور العمراني والتقدم الحضاري للمدينة.
والثالث: عن الآطام والحصون والقلاع والأبراج وأسوار المدينة وباباتها.
فيما اقتصر الرابع على الحديث على المساجد في جزء كامل.
والخامس عن الآبار والعيون.
والسادس عن المرافق والخدمات العامة والتعليم، فقد جعلها في الجزء السادس تحت عناوين: المكتبات والمدارس والأربطة والأسبلة والحمَّامات والسكة الحديد.
والجزء السابع: وصفه الشيخ عبيد الله بأنه طريف، خصصه للبيوت التقليدية القديمة وتقنية البناء.
والجزء الثامن: ملامح النسيج العمراني مسلِّطا الضوء فيه على احواش المدينة وحاراتها وأزقتها.
والجزء التاسع: في المواضع والبقاع.
وتحدث فضيلة الشيخ عبيد الله عن أسلوب المؤلف.
وطريقته في الكتابة وأنه لم يغفل الحوادث التاريخية المتعلقة بكل معلم وقال: يظهر لي أن الكاتب قام بعمل ميداني كبير، ولكنه إلى جانب ذالك ركز على عمله المكتبي في كثير من الوصف الجغرافي للمعالم الطبيعية التي تحدث عنها.
وختم مقدمته بأنه يرى أن الكتاب موسوعي البنية، تطويري التأليف، مرجع للأجيال، وهذا لا يعني أنه الكمال فالكمال لله وحده ولكنه سير في طريق الكمال.
والله الموفق.
للحديث تتمة
الحواشي:
1 انظر ترجمته مفصلة له في الموضوع في مجلةالعرب س 6 ص 140 وما بعدها.
2 ص 277 تحقيق الدكتور سامي مكي العاني.
3 وفاء الوفا ص 635
4 انظر عن هذه الطبعة مجلة العرب س19 ص 589 وس 20 ص 683,457,372 وس 21 ص 49 و 209
5 المتوفى يوم 22 جمادى الآخرة سنة 1403
6 توفي سنة 1408 1988م .
7 المتوفى سنة 1400 وانظر عنه مجلة العرب 8/320
8 توفي عام 1396 وانظر عن هذه الموسوعة معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية ص 955
9 توفي رحمه الله في 16/8/1420ه جريدة البلاد العدد 15838 تاريخ 22/8/1420ه .
10 ج 1 ص 20

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

الجنادرية 15

أيام في أرض دولة فلسطين المحررة

منوعـات

لقاء

القوى العاملة

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved