Wednesday 16th February,2000 G No.10002الطبعة الاولى الاربعاء 10 ,ذو القعدة 1420 العدد 10002



محاضنُ الأجيال
د , عبدالرحمن صالح العشماوي

لم تكن عبارات الشتم والسبِّ واللَّعن التي انطلقت من فمه البريء إلا كزخَّات رصاصٍ أصابت قلبي في الصميم,, من أين لهذا الطفل البريء هذا القاموسُ العجيب من هذه العباراتِ المؤذية؟؟ ،كيف استطاعت براءتُه أن تكونَ مصدراً لهذا القاموس السيّئ؟ ومن الذي جعل هذه الزهرة المتفتِّحة تحمل هذا الغبارَ المحمَّل بالجراثيم والأوساخ؟؟ نعم إنه طفل بريء، البراءة تتجلَّى في ملامح وجهه الطفوليّ الجميل، عندما سألته عن عمره تبيَّن لي أنه في حوالي السابعة، التحق بالمدرسة هذا العام قلت له: لماذا تشتم صاحبَك بهذه الصورة؟ قال: ليس بصاحبي إنه (,,,,,) وتدفَّق من فمه ذلك القاموس السيّئ من جديد، عبارات محدَّدة أصبحت جزءاً من ثروته اللغوية في هذه السنِّ المبكِّرة,.
قلت له : ألا تعلم يا بني أنه لا يجوز للمسلم أن يكون لعّاناً ولا شتّاماً ولا سبَّاباً، وأنّ الطالب الممتاز لا يقول مثل هذه الالفاظ؟؟.
ابتسم وهو يقول : أجل كيف لو سمعت أبي وهو يخاصم أمي ؟!
ما أجمل هذه الابتسامة البريئة، وما أسوأ هذه الكلمات البذيئة، لم يكن الطفل عادياً إنَّ علامات النّجابة والذكاء تبدو على ملامح وجهه، وتبرز من خلال شجاعته ورباطة جأشه، وتظهر من خلال استعداده القويّ للحوار دون وجلٍ أو خجل.
عرفتُ منه المصدر لذلك القاموس العجيب من الشتائم,, إنها الأسرة، إنه الأب الذي يشتم الأم، والأم التي تشتم الأبناء، والأبناء الذين يشتم بعضهم بعضاً، ويطبقون ذلك كلّه على زملائهم وأصدقائهم وأبناء الجيران، وهنا وقفتُ وقفة المتأمِّل لحالة التربية في محاضنها المهمة التي تحمل مسؤولية إخراج الأجيال إلى الحياة، ولا أكتمكم أيها القراء الكرام أنني شعرت بضيق شديد وأنا أتخيَّل حالة تلك المحاضن التي تحتضن الأجيال، وتربيها وتعلّمها، وترسم لها طريق الحياة، لأنني رأيت أنَّ التوازن والانسجام بين تلك المحاضن يحتاج إلى إعادة نظر جادَّة إذا أردنا أن نخرِّج أجيالاً قويَّة صالحةً تحمل المسؤولية من بعدنا وتقوم بواجبها خير قيام.
الأسرة، والمدرسة، والمجتمع، ووسائل الإعلام المختلفة ، هذه هي المحاضن التي تحتضن الأجيال في زماننا هذا، فما حالتُها؟ وما الذي تقدِّمه لأبنائنا؟ وما درجة الانسجام والتوازن بينها لبناء شخصية إسلامية واعية مثقفة سويَّة؟ وما وظيفتها في إزالة اسباب الاضطراب التربوي، والازدواجية التي تقود إلى اضطراب نفسي، وخللٍ في التصوُّر وشخصيَّة مهزوزة؟؟.
لقد دفعتني تلك العبارات السيّئة التي انطلقت كزخَّات الرصاص من فم ذلك الطفل البريء إلى الوقوف طويلاً أمام هذه القضية التربوية المهمَّة، وطرحت هذا الموضوع في أكثر من مجلس، وعلى عددٍ من المربين والمفكرين، والآباء فوجدت أنَّ الأمر يشغل بالهم أيضاً، وأنهم يشعرون بما اشعر به من وجود ازدواجية ناتجة عن ضعف التواصل والتكامل بين محاضن الأجيال التي تنشأ فيها، وتتأثر بها، وتحمل خصائصها الفكرية والثقافية والخلقية الأسرة والمدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام .
لقد أحسستُ بعد هذه المناقشات بأن المشكلة موجودة، وأنّ أفراد المجتمع يحسُّون بها، ويتوقون إلى علاجها، ومن الذي لا يريد لأسرته وأبنائه ومجتمعه الاستقرار والانسجام؟!
من أين تبدأ المشكلة؟؟
ذلك الطفل البريء الذي أشرت إليه سابقاً حدَّد لنا المحضن الأوَّل الذي تبدأ منه هذه المشكلة التربوية إنه المنزل ألم يقل لي: أجل كيف لو سمعت أبي وهو يخاصم أمي ؟؟ سؤال بريء مهم، إنه توجيه فطريٌّ من ذلك الطفل لأصل المشكلة، وكأنه أراد أن يقول: لا تلمني على ما سمعتَ مني فليس لي فيه ذنب، إنما الذنب على من علَّمني ولقَّنني هذا القاموس الشتائميّ الذي دعاك إلى نصيحتي وتوجيهي.
وقد صدق الطفل، فهو لم يولد شتَّاماً أو لعّاناً، إنما وُلد بفطرته السليمة الصافية من كل شائبة، فكان المنزل بدون وعي من صاحبه هو الموجّه الأوَّل لهذا الطفل إلى ذلك السلوك.
وهذا يفتح أمامنا أبواباً أخرى للقضية تتعلَّق بحياة الأسرة وبطريقة التعامل بين الزوج وزوجته، وبينهما وبين ابنائهما، وأقاربهما وجيرانهما، لماذا يشتم الزوج زوجته ويلعنها بهذه الطريقة المخالفة لتعاليم الإسلام، ولولا أنني لا أريد أن أُسيء إلى أذواق القراء ولا يمكن للمحاضن الأخرى المدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام أن تؤدي دورها الايجابي في البناء، إذا اختل توازن الأسرة وحصل انقطاع في الصلة بينها وبين المحاضن الأخرى، ومما لا شكَّ فيه أن صلاح المحاضن الأخرى ضروري جداً لإكمال مسيرة البناء التي تبدؤها الأسرة الصالحة، إنها حلقات في سلسلةٍ واحدة هي سلسلة التربية الاسلامية الصحيحة التي تبني لنا جيلاً صحيحاً قوياً في حمل الأمانة.
وإذا كنا ننادي بضرورة صلاح المحضن الأول الأسرة ، فإن المناداة بصلاح المحاضن الأخرى المدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام يكون أشدَّ ضرورة لإكمال البناء التربوي لأجيالنا، أما إذا حصل خلل بين هذه المحاضن، واضطربت في أداء أدوارها فإنَّ النتيجة ستكون ازدواجيّة في شخصية الفرد والأسرة والمجتمع، وهذه الازدواجية هي السبب في تمزيق المجتمعات وإضعافها وقتل روح الإبداع فيها.
يقول د, أحمد أبابطين في كتابه المرأة المسلمة المعاصرة، إعدادها ومسؤوليتها في الدعوة في أثناء حديثه عن اهمية تواصل وتكامل هذه المحاضن: وعلى ذلك نقول بوجوب توافق هذه المحاضن في جملتها على الانطلاق من سياسة واحدة معتمدة في مناهجها على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وبهذا وحده تتمثل وحدة الأمة وقوتها، ومن المعلوم ان عدم توافق هذه المحاضن يؤدي إلى صراعات فكرية، واختلافات عقدية وبلبلةٍ ذهنية تصيب الأمة بالتمزُّق والشلل .
إن علماء التربية يجمعون على أن اختلال التوازن، وانقطاع الصِّلة بين محاضن الأجيال يؤدي إلى نشوء أجيالٍ مضطربة، مهزوزة المواقف، معرَّضة للتأثر السلبي بكل دعوةٍ إلى الانحراف النفسي، والفكري والخلقي، وان ذلك يكون سبباً في وجود النفاق الاجتماعي وعدم الوضوح بين أفراد الأسرة والمجتمع، وهذه مشكلة تربوية كبيرة تحتاج إلى علاج.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما مدى الانسجام بين المحاضن التربوية في أمتنا ومجتمعنا.
هل المدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام تعد مكمِّلة لجوانب التربية الصحيحة التي توفِّرها الأسرة الصالحة؟؟.
وإذا كان المسجد هو الموجِّه لهذه المحاضن بما له من دور روحي كبير، يتمثَّل في اللقاء المستمر بين افراد المجتمع في الصلوات المفروضة، وفي المواعظ والخطب والدروس الدينية التي توجّه الناس وتملأ نفوسهم بالايمان والاتصال بالله سبحانه وتعالى، إذا كان المسجد كذلك فهل تمثِّل المحاضن الأخرى امتداداً لهذا الموجِّه، وتطبيقاً عملياً لتوجيهاته الكريمة؟.
هل يجد الطفل ما يسمعه من ابيه عن الصدق والأمانة والخوف من الله مطبقاً في المجتمع، وفي المدرسة، وفي وسائل الإعلام المختلفة؟
هل تجد الفتاة ما تسمعه من ضرورة الحشمة والحياء والحجاب مطبقاً في المحاضن الأخرى؟
هل يرى الطفل ما ينادي به خطيب المسجد من التقوى والمودة والعطف والحنان مطبقاً في منزله؟؟.
اسئلة كثيرة تلقي بنفسها أمام أعيننا، تبحث عن الإجابات الصحيحة فبماذا سنجيب؟؟

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

الجنادرية 15

منوعـات

نوافذ تسويقية

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved