Saturday 26th February,2000 G No.10012الطبعة الاولى السبت 20 ,ذو القعدة 1420 العدد 10012



لام، همزة، دال
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

لحظة الوداع:
يقول نديم النجوم الفنية الأستاذ رمزي صوفيا عن عبدالحليم إسماعيل شبانة العندليب الأسمر : لم يفكر في شيء وهو على سرير الموت إلا بالنهوض لإهداء محبيه لحناً جديداً يُدخل البهجة إلى قلوبهم ولو أدى ذلك إلى نهايته اه.
قال أبو عبدالرحمن: بئس زاد المعاد أمنيةُ لحنٍ في لحظة الوداع الكبرى، وإنما الفسحة قبل أن يغرغر، ويكون بصره حديداً، فوالله قسماً براً إن أمنيته غير ذلك كما قال ربنا سبحانه وتعالى في سورة ق، وكما قال عن يوم القيامة: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد (سورة آل عمران/ 30).
ولعل ابن الفارض على علاّته أهم ذكراً، وأثقل وزناً من العندليب الأسمر، وها هو يقول في لحظة الوداع:

نَشَرتُ في موكِبِ العُشّاقِ أعلامي
وكانَ قَبلي بُلي في الحُبّ أعلامي
وسِرتُ فيهِ ولم أبرَح بِدَولَتِهِ
حتى وَجَدتُ مُلوكَ العِشقِ خُدّامي
ولم أزَل مُنذُ أخذِ العَهدِ في قِدَمي
لكَعبَةِ الحُسنِ تجريدي وإحرامي
وقد رَماني هَواكُم في الغَرامِ إلى
مَقامِ حُبٍّ شريفٍ شامِخٍ سامي
جَهِلتُ أهليَ فيهِ أهلَ نِسبَته
وهُم أعَزُّ أخلاّئي وألزامي
قَضيتُ فيهِ إلى حِينِ انقِضا أجَلي
شَهري ودَهري وساعاتي وأعوامي
ظَنَّ العَذولُ بأنّ العَذلَ يوقِفُني
نامَ العَذُولُ وشوقي زائِدٌ نامي
إن عامَ إنسانُ عَيني في مَدامِعِهِ
فقد أُمِدَّ بإحسانٍ وإنعامِ
يا سائِقاً عيِسَ أحبابي عَسَى مَهَلاً
وسِر رُوَيداً فقَلبي بينَ أنعامِ
سَلَكتُ كُلَّ مقامٍ في مَحَبّتِكُم
وما تَرَكتُ مَقاماً قَطُّ قُدّامي
وكُنتُ أحسَبُ أنّي قد وصَلتُ إلى
أعلى وأغلى مَقامٍ بين أقوامي
حتى بَدا لي مَقامٌ لم يكُن أرَبي
ولم يَمُرَّ بأفكاري وأوهامي
إن كان مَنزِلَتي في الحبّ عِندَكُمُ
ما قد رأيتُ فقد ضَيّعتُ أيّامي
أُمنِيّةٌ ظَفِرَت روحي بها زَمَناً
واليومَ أحسَبُها أضغاثَ أحلامِ
وإن يَكُن فَرطُ وجدي في مَحَبّتكُم
إثماً فقد كَثُرَت في الحبّ آثامي
ولو عَلِمتُ بأنّ الحُبّ آخِرُهُ
هذا الحِمامُ لَما خالَفتُ لُوّامي
أودَعتُ قلبي إلى مَن ليس يحفَظُهُ
أبصرتُ خَلفي وما طالَعتُ قُدّامي
لقد رَماني بسَهمٍ مِن لَواحِظِهِ
أصمى فؤادي فواَ شَوقي إلى الرّامي
آهاً على نَظرَةٍ مِنهُ أُسَرُّ بها
فإنّ أقصَى مَرامي رؤيةُ الرّامي
إِن أسعَدَ اللهُ روحي في مَحَبّتِهِ
وجِسمَها بينَ أرواحٍ وأجسامِ
وشاهدت واجتَلَت وجهَ الحبيبِ فما
أسنى وأسعَدَ أرزاقي وأقسامي
ها قد أظَلّ زمانُ الوَصلِ يا أمَلي
فامنُن وثَبّت بِه قَلبي وأقدامي
وقد قَدِمتُ وما قَدّمتُ لي عَمَلاً
إلاّ غَرامي وأشواقي وإقدامي
دارُ السّلامِ إليها قد وَصَلتُ إذَن
مِن سُبلِ أبوابِ إيماني وإسلامي
يا رَبّنا: أرِني أنظُر إليكَ بها
عِندَ القُدومِ وعامِلني بإكرامِ (1)
قال أبو عبدالرحمن: دعاوى الحب الإلهي تبخرت عند المعاينة كما في البيت الثالث عشر والرابع عشر، وقد ذكر المترجمون والكاتبون في العقيدة أنه قالهما عند موته,, وقيل: إن القصيدة لسبطه ابن بنته، وإن لابن الفارض الأبيات الستة الأخيرة,, ولا أظن ذلك يصح، وإنما يليق الموضوع والحدث بابن الفارض نفسه، ولعلّ الحفيد عارض قصيدة جده، فاقتبس منها البيتين المذكورين آنفاً.
***
الإشكالية مصطلح فضولي:
من المفردات الحديثة التي كثر استعمالها بين المعاصرين كلمة إشكالية ، وأظنها مقتضى ترجمة لمفردة أجنبية، فاجتمع المصدر دالاً على الاسمية المجردة، وياء النسب، وتاء للمبالغة,, ولن أناقش ذلك نحواً ولغة، وإنما حسبي تحديد مدلولها، فهي تعني عندهم طبيعة موضوع ما، أو حالةً له تعدَّد السلوكُ والرأي حولها، ولم تظفر بيقين أو إجماع,, يقول الأستاذ مفيد الزبيدي وهو أكاديمي مؤرخ يعمل في جامعة بغداد : يعد الإشكال PROBLEMATIQUE ذا طبيعة فلسفية لشيء ما، أو حالة ما، فالإشكال تقرير ما لا يمكن تقريره بشكل حاسم، وتنفيذ ما لا يمكن عدّه قراراً عقلانياً,, فالإشكالية تحمل في ذاتها تعدُّدَ الحلول لمسألة واحدة، وتنوُّعَ الاتجاهات نحو قضية معينة، وهي كل ما يشير إلى حقيقة ما هو نسبي، ولا يمكن عدّها فاصلة وحاسمة، بل تشكِّل جانباً من جوانب القضية,, فالإشكال حقائق متداخلة لا يمكن البرهنة عليها بيسر؛ فهي بداهة علمية، وحقيقة مستجلية,, ومن أجل الإحاطة بالإشكال لا بد من التأكيد على شمولية المصطلح، وتنوع دلالاته، واتساع آفاقه، وعمق مغزاه، فبُعده التاريخي يتبلور من تراكم التجارب الاجتماعية والثقافية لمجتمع ما، وثراء علاقاته الاجتماعية والتحولات التي مرّ بها، ثم إن تاريخه ليس ثابتاً، ولا يسير في اتجاه مستقيم، بل ينحرف ويتغير مساره تبعاً لحركة القوى الاجتماعية الفاعلة فيه (2) .
قال أبو عبدالرحمن: حقول العلوم البشرية لا تحصى اليوم كثرةً، والقارئ الجاد قليل النوم كثير الإعياء، لأن المتابعة ترهقه في هذا الخضم المعرفي، وهو لا يستطيع السير ببطء، لأن غُمَّة الجهل تجلب له الكآبة؛ ولا يستطيع إلا أن يكون ابن عصره بالمعنى العلمي المعتبر,, ولكن ليس من شرط هذه الهمّة العالية زيادة التمزق باستحداث مصطلحات غير ضرورية، فتبعد المسافة بيننا وبين العلوم، ونحتاج إلى شرح وتقسيم وأمثلة وتعليل وتدليل لمصطلح غير ضروري, مع أن في بيان لغتنا غُنية عنه بأبسط إشارة؛ فيغني عن مصطلح الإشكالية: المشكل، والمشكلة، وكثرة الإشكال.
وما يسمونه إشكالية، أو بتسمية لغتنا مشكلاً,, إلخ: تتنوع وضعيته من ناحية نسبة العُقَد والغموض والمغالطة والغفلة التي تقع فيه؛ فيحتاج إلى جهد فكري وعلمي، وحلٍّ أو حلول؛ فالاستعراض لذلك لا يقتضي فلسفة مصطلح جديد، بل نحن نعرف بداهة من لغتنا معنى الشين والكاف واللام,, والعرض لمشكلة بعينها خبرة مستقلة بوقائع وعناصر القضية,, لا يتوقف استيعابها على اصطلاح جديد واسراف في شرحه.
وإن كان لابد من التحذلق فلا مانع من تسمية طرح المشكلة بالخطاب الإشكالي، وإنما يهمّني في هذه العجالة أن التناول العلمي الفلسفي الفكري لأي مسألة يبدأ بلغة المنطقيين بتصورات، ويطمح في النهاية إلى تصديقات أحكام ,, والأحكام تكون بمفردة، وبجملة، وبسطر أو سطرين,, والعظمة في التصورات: تصور المعاني، والوقائع، والعلاقات، والعناصر، والشروط، والأسباب، والغايات، حتى يكون الشمول والوضوح؛ ومن ثم يكون الاختلاف في التصديقات في أضيق نطاق,, وكم من الصفحات والأسفار أُنفقت لحكم مختصر العبارة مثل: حق، أو ضار، أو نافع بشرط كذا,, أو باستثناء كذا؟!.
وقضية الأستاذ مفيد حول إشكال الخطاب التاريخي العربي المعاصر، وقد لخصه بقوله: إن خصائص الخطاب التاريخي تتمثل في كونه متشعباً في التحليل والتفسير والرؤى وهو تاريخ مستقل ومتداخل، وتراكمات ماضوية من قصص وخرافات وأساطير وحكايات فيها الموضوعي والذاتي، والحيادي والمتحيز، والموحَّد والمجزَّأ، والثابت والمتحرك؛ فهو ذو صفات متعددة من حيث مضامينه وتشابه رواياته وأحداثه؛ لذلك فالتاريخ لا يمتاز بالانغلاق كما يعتقد البعض ، بل بالانفتاح والتفاعل والمثاقفة، بحيث يبدو أحياناً متشابهاً في بعض أحداثه، ومنسجماً في وقائعه وتجلياته (3).
قال أبو عبدالرحمن: هذه طبيعة كل المعارف قبل البرهنة عليها، وهذا يرد على الشرائع المنسوبة لربنا سبحانه وتعالى من ناحية الدلالة والثبوت، فإذا صح هذان الشرطان فليس هناك إلا الصدق والحكمة والعدل والإحسان والكمال والصلاح.
والخطاب التاريخي المشكل بهذا الطرح لكل التاريخ عبث، وإنما الخطاب المشكل علمياً يكون لجزئية من التاريخ بحيث يفي خطاب الإشكال بتحليلٍ يُظهر التراكم والتحيز,, إلخ.
***
ديكارت ودعوى التناقض:
يحسُّ بعض الدارسين تناقضاً في موقف ديكارت الشَّكِّي الاستقلالي، والتقليد الاتباعي؛ فعن الموقف الثاني صرح في كتابه مقال في المنهج بأن أول مبادئه اتباع قوانين بلاده وعاداتها، وأن يستمر على هدي الدين الذي أنشأه الله عليه منذ نعومة أظفاره، وأن يتبع الآراء المعتدلة بدون تطرف,, ثم يُصرِّح بالموقف الأول وهو منهج الشك.
ويرى الأستاذ هاشم صالح وهو كاتب سوري مقيم بفرنسا أنه على موقف الشك والثورة الاجتماعية والدينية والسياسية، ولكنه صرح بالموقف الاتباعي خوفاً من الكنيسة,, مع هذا الخوف فلم تُخدع الكنيسة بما صرح به من موقف اتباعي، بل وضعت كتبه في قائمة الكتب المحرمة عام 1662م شعوراً بخطورته,, وبعد موت ديكارت بعشرين عاماً أي منذ عام 1667م منع لويس الرابع عشر تدريس فلسفته في الجامعات الفرنسية (4).
قال أبو عبدالرحمن: ديكارت في فلسفته مؤمن بالله إيمان الربوبية، ومؤمن بكمال الله على الإجمال,, أما الإيمان بأسماء الله وصفاته تفصيلاً فلا يكون إلا بالتلقِّي، وهو على ملّة النصارى، ولم يبلغه إلا ما كان محرفاً,, والفلسفة بعده على كثرة مذاهبها ومصطلحاتها جاءت لتقويض كل الأصول الإيمانية، وكل مبادئ العقل الفطرية التي أقام عليها صرح فلسفته,, أما سبينوزا اليهودي المدّعي عقلانية ديكارت فقد حرَّف فلسفة ديكارت عن وجهها وإن ادّعى العقلانية مبشراً بالإلحاد، ومبشراً بقانون الحق الطبيعي حق الشهوات والشبهات الذي أُقيم عليه بناء القوانين الوضعية.
ولا تناقض في قولَي ديكارت؛ لأنه إنما أراد الدين الذي نشأ عليه، وما تولد عنه من قوانين وعادات,, وشكه ليس عقيدة جبرية، ولكنه اصطناع سلوكي، ليبرهن به على أن قيام اليقينيات ابتداءً بالكوجيتو لا يضره الشك الهادف غير المتَّخِذِ الحسبانية عقيدةً.
ولما أسيء فهم منهج الشك عنده عن قصد، أو عن غباء وقفت الكنيسة موقفها من فلسفته.
* حواشي:
(1) ديوان ابن الفارض ص156 157/ دار القلم ببيروت/ تحقيق الدكتور عمر فاروق الطباع.
قال أبو عبدالرحمن: يعني ابن الفارض بأخذ العهد في قدمه أحاديث استخراج ذرية آدم عليه السلام من ظهره كهيئة الذر، وربط ذلك بقوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم,, ,, الآية من سورة الأعراف، وقد استنبط من ذلك بعض العلماء خلق الأرواح قبل الأجساد، وقال في ذلك ابن سينا قصيدته العينية المشهورة,, ومنتهى تفلسف ابن الفارض أن حبه الإلهي إنما هو شوق إلى ذلك المشهد عند أخذ العهد,, وهذا التهويم الصوفي مدى عمر ابن الأرض أصبح عند الاحتضار كما قال: حتى بدا لي مقامٌ لم يكن أربي,, إلخ,, إلخ.
(2) مجلة البحرين / العدد 21 يوليو 1999م ص32.
(3) المصدر السابق ص32.
(4) انظر جريدة الشرق الأوسط العدد 6437 في 13/7/1996م ص 26 مقالة التغيير بين ديكارت وسبينوزا.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

لقاء

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved