Sunday 27th February,2000 G No.10013الطبعة الاولى الأحد 21 ,ذو القعدة 1420 العدد 10013



من عبقريات الرياض
الفيصلاني فوق سرير نومه
عبدالله نور

يرحم الله الامير فيصل بن فهد، غادر من هذه الدنيا مهاجرا الى سرير نومه الأخير وفي فمه ابتسامة خضراء مجروحة تقول بأنه ما مات لكن قلبه قد نام.
لم يكن يرحمه الله يعطي وإنما كان ينحر من قلبه ويسفح كل روحه على الناس، وما زال نحيب النحر يومض من بعيد ثم يقفز مثل نافورة ألوان فردوسية، ثم يهجع نائما على سرير من الرياض ويتوسد كل نجوم الرياض وفي فمه ابتسامة تأخذ احيانا من جنس الصفرة والتزريق، والخضرة والتوريد،و لها طيب كالمسك المسحول بماء الورد المحلول، واطيب شيء في طيبه يتضوع حين يتأرجح تحت سريره نغم من حبيبته الرياض.
يقول توأمه الروحي سمو الامير سلمان، بأن الرياض عاصمة للثقافة من ثمار يديه قدس الله روحه بيديه وراحتيه، وليس ينفع البكاء عليه إلا اذا هو مقرون بالكلام عن الرياض، وبالكتابة عن الرياض، وليس يلذ للمتكلم او الكاتب كلما انقضت احدوثة إلا بان يعيدها فلا لوم إذا عدنا والعود احمد.
كانت الرياض قبل الإسلام يضرب بها المثل في جودة حنطتها ونبيذها وجمال نسائها وهوائها، ولأنها كانت سوقا من اسواق العرب وفيها ما في الأسواق الدولية من عجائب وغرائب فقد تميزت باختراع ألوان من ألوان الموسيقى والالحان والاغاني فيما هو في منزلة النادر الذي هو عرضة لأن يستوهب او يسرق.
اما أهلها، او سكانها، فلهم ظرف خاص لا يضارعهم فيه احد، فإذا هم كانوا في مجلس وتحدث الجالس انصرف الجالسون اليه بكل جوارحهم، فلا يتفحفحون، ولا يمتخطون، ولا يتمطون، ولا يتثاءبون ولا يفرقعون اصابعهم ولا يفركون أنوفهم، او يحكّون اجسادهم، وليس في زيهم الاقعاء في الجلسة، او السرعة في المشية، او الالتفات في الطريق، ولا يماكسون في الشراء، او يقعد الواحد منهم فيما يقام عنه على اي حال من الاحوال.
ومن العجائب في طبائعهم كبرياء الصقر ووداعة الحمام، وتكاد المراجع تجعلهم اعرف خلق الله بطبائع الحمام وانواعها واشكالها وامزجتها، وهم يتفننون في بناء الابراج والآطام والآكام، ومن ينظر الى قصور الدرعية الآن وهي مبنية قبل ثلاثة قرون ليس على علم بأن اهل الرياض كانوا قبل الاسلام احذق خلق الله في بناء القصور الشاهقة كأمثالها قبل الإسلام، وقد كنت ذكرت هذا في مجلس الامير فيصل رحمه الله، وكان بعض الحضور مندهشا فإذا بالامير يدخل في الكلام ويستفيض في ذكر مراجع لديه لا اعرف منها إلا ما هو معروف، وأين ما اعرفه عما يعرفه هو؟ فشتان بين الذي في قلبي من الهوى، وشتان ما بين ما في قلبه هو، فقد فاض هواه حتى ملأ كل خافق وجناح واستطال حتى استحال الى فلك دري يلمع مثل كوكب دري.
ومن المؤكد ان وفرة ما فيها من الشعراء والفنانين يفوق ما في المدن العربية او بالاحرى اسواق العرب الدولية، ومن المؤكد ان كلمة الرياض قد وردت في اشعارهم اكثر من غيرهم، وهم يقصدون بالرياض ما هو محتضن لمدينة حجر التي هي الآن الرياض، وهذا مما هو معروف بمصطلح (إطلاق الكل على الجزء والأهم على المهم) فكأن العاصمة حَجرا دينار ملقى على بساط مزدان بكل ما في الصور من اشكال الرياض، وحتى وقت قريب، حتى قبل اربعين عاما كانت السواني الساقيات اذا دخل وقت العصر وارتفع صياحها يظل يتعالى طوال الليل الى يوم غد ولا يتوقف إلا في الضحى, وكل واحد منا طوال الليل اذا اراد ان يهجع لا ينام الا على اصوات السواني، ولا يستيقظ الا على اصواتها وليس لهذا وصف إلا لمن كان قد سمعها لأنها من غرائب من ما في ملكوت الله من نشيد وليس هو كالنشيد.
احيانا تسمع من السواني وعوعة او بعبعة واحيانا مثل الولولة او الوهوهة، واحيانا ضحكات كأنها زفرات، او كركرة او ثرثرة او غرغرة، واحيانا تتداخل اصوات كأنها وفود من كل جنس من اجناس الطير او البهم او الاشجار او الاحجار, وقد جاءت في حضرة الليل لتقرأ قُدام الله من مصحف الزمان وتسبح بكل لسان، واحيانا تصمت برهة دفعة واحدة ويعتري المرء شعور يدخل اليه من حيث لا يدري فيضحك من غير عجب، او يبكي من شدة الطرب، ولولا ما قد قيل فيما بين يدي من الكتب النادرة لما كان أحد يقدر ان يدخل هذا في باب المعقول الذي تصدقه العقول.
ولم يكن فيصل يرحمه الله يحب الرياض المدينة إلا لاشياء اخريات لا حصر لها، اولها حبه الشديد لسمو الامير سلمان حتى لكأنهما توأم او توأمان، او نجمان لا يفترقان، وحين غادر يرحمه الله في ذلك الوقت الذي نام فيه كان في واقع الامر قد غادرنا من ذلك الزمن الذي غادرت فيه والدته الأميرة المرحومة العنود، ولكن كان يتجلَّد، ويتجوَّد، ويتكتَّم على ما في صدره من الحنين الى اللحوق بها، والذي يعرف فيصلا معرفة غائرة الى ايام صباه الأولى فإنه يعرف فيه هذا الصبر والكتمان وطي الاضلاع على ما في القلب من الحب والجوى والحب العظيم لأمه العنود، ومن طبعه أنه لا يسأل جليسه عن سر يود الجليس كتمانه، ولا يشكو من الضنا لأن في الشكوى يأسا، واليأس نقص في المروءة، وإذا اعتراه امر جلل لم تضعف قواه او تنفصم عراه، وهذا في باب الهوى والصبر عليه من شيم الملوك.
اما دهاؤه، وفصاحته، وسمو خلقه وذوقه، وجمال خطه ووسمه ورسمه فهو من خصوصيات عبقرياته وما أكثرها، ولعله ليس فيصلا واحدا بل فياصلة، وانه الفيصلاني الوحيد الذي عرفته في كل أحواله، وفي فمه ابتسامة خضراء تأخذ من جنس كل الألوان، واعجب ما فيها رائحة تتضوع لا تدري من أين تأتيك إذا هو غائب عنك وفيها طيب أزكى من تفليج التفاح والاترج إذا وضعوه على صحن باركه في الفجر نسيم مر على ماء القرنفل المخمَّر بالعود المعنبر, دعوه فإنه مات لكن قلبه قد نام، وهاتوا ما في قصص الأيام عن الروض والرياض، وكل حديث قادم نافورة ألوان فردوسية.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved