Thursday 9th March,2000 G No.10024الطبعة الاولى الخميس 3 ,ذو الحجة 1420 العدد 10024



شدو
أهمية العلوم الإنسانية بين الوجود والعدم (1)
د, فارس الغزي

هل لك أن تتخيل مجتمعا كل خريجيه على سبيل المثال من المهندسين أو من الأطباء أو من علماء الذرة فقط,,؟! ألا تعتقد أنه مجتمع سوف يعج بالمباني الزاهية الجميلة بسبب المهندسين، أو بالمستشفيات بفعل سيطرة الأطباء، أو بالمفاعل النووية نتيجة لكثرة علماء الذرة؟! في المقابل، تصور مجتمعا لا يوجد به مثلا سوى الفلاسفة، أو علماء التاريخ، أو علماء النفس,,؟! ماهي النتيجة في رأيك؟! ألن تنتشر مقاهي البيضة والدجاجة! فيما لو أصبح الفلاسفة هم الغالبية؟!,, وماذا لو كانت الغلبة لعلماء التاريخ؟! أليس من الجائز انتشار المتاحف والمخطوطات، وبالتالي غمط حق المستقبل من خلال التركيز على الماضي؟!,, وما هي الحال فيما لو رجحت أعداد علماء النفس؟!,, ألا يمكن الجزم بان المصحات النفسية سوف تجتاح عمائر العزاب والمتزوجين على حد سواء! ، بل وسوف تفسر كل حركة منك! كعرض من أعراض الأمراض النفسية، وعندها سوف تصبح في الحقيقة مريضا؟! أو آخر طلب! : تخيل أن هناك مجتمعا ليس لأهله مهنة سوى حفر المقابر! ، ماذا تتوقع هنا؟!,, بالطبع سوف تظل وحدانية الموت كما هي، في نفس الوقت الذي سوف تنحصر أسباب الموت المتعددة في سبب واحد: ألا وهو الموت عثرا لكثرة المقابر!.
حسنا، ماهو الموضوع الذي أنا بصدده الآن؟!,, في الحقيقة أردت أن أقول ان ظاهرة التركيز على التخصصات العلمية، وبالتالي، تهميش فتقليص الاهتمام بالعلوم الانسانية ظاهرة تنموية غير صحية البتة، بل انها في الحقيقة، محاولة لن تؤتي أكلها مما يعني أننا سوف نخسر في الجبهتين العلمية والانسانية في آن واحد, أقول قولي هذا ايمانا بمبدأ كل ميسر لما خلق له ، اضافة الى كون الواقع التعليمي عالميا ومحليا حتى الآن يشهدان على أن كفة التخصصات الانسانية لا تزال هي الراجحة عدديا .
بل ان تاريخ البشرية قاطبة ينبئنا عن سيطرة العلوم الانسانية على الحقول الأكاديمية كميا وفي كل المجتمعات، فضلا عن الحقيقة التي لا يمكن انكارها والمتمثلة بأن انبثاق العلوم الانسانية هو ما نفض الغبار عن الابتكارات العلمية وأدى الى قيامها وتهذيبها ومن ثم اخضاعها للاستخدام الآدمي! .
ان رحلة الانسانية علميا ما كان لها أن تتم بطريقة تراكمية ليجني ثمارها انسان هذا العصر لولا ان العلوم الانسانية قد مهدت الطريق أمام الانسان بترويضه أولا، وبالتالي، اجباره على اعمال فكره والتخلي عن التفكير من خلال جسده , لقد فلسفت العلوم الانسانية له أسباب وجوده رويدا رويدا، وتراكمت في كيانه تراكما شحذ ذهنه وأتاح له اعمال عقله في تعليل وتأويل وجوده المعنوي والحسي, وهكذا استطاع الانسان الأوروبي بفضل ما انبثق في أواخر قرونه الوسطى من حركات نهضوية سلاحها العلوم الانسانية ان يجابه قيود أزمنته الفكرية المزمنة ويتحدى ميتافيزيقيتها، فقط ليواصل الكفاح ويخوض غمار ثورات فكرية واحدة تلو أخرى، ليتأنسن بفضل عصور التنوير ويستدمج شعار أنا أفكر، اذاً أنا موجود ، مما مكنه من فك المزيد من طلاسم وجوده، منتهيا به المطاف الى اعلان ثورته الصناعية العلمية في أواخر القرن السابع عشر أوائل القرن الثامن عشر الميلاديين, ان الغرب لم يلج مراحل التصنيع العلمية فجأة أو خلسة أو صدفة: لقد توصل اليها كما ذكرت آنفا بعد أن أصبح مهيأً ومروضاً ومؤنسناً بفعل العلوم الانسانية التي كشفت له عن نعمة العقل! ونقلته من مراحله الحسية الفلسفية الاستنباطية الى ما ينعم به الآن من ملكة استقراء مكنته من السيطرة على نفسه ومن ثم السيطرة على العالم.
لقد كان في الامكان على ضوء ما سبق قوله انقاذ العديد من علماء الغرب من المحاكمات التعسفية الظالمة والاغتيالات كمحاكمة جاليلو، مثلا، وقتل العديد من العلماء على يد رهبان عصورهم الوسطى الحالكة السواد فيما لو أعطيت العلوم الانسانية آنذاك فرصة العقلنة فالأنسنة ، بل انه من الممكن القول ان غياب أو تغييب العلوم الانسانية خلال ذينك الفترة قد أخر تقدم البشرية وتسبب بانحسار انجازاتها حتى وقتنا الحاضر, بمعنى آخر، لولا موقف كنيسة العصور الوسطى الكاثوليكية الدموي / الظالم ضد عقلانية علماء العلوم الانسانية آنذاك، لأصبح في مقدور الانسانية تجاوز الكثير من الملمات المستعصية حاليا، والتي من أقلها الأمراض النفسية والعضوية المزمنة، وغرائز استعباد الانسان للانسان، وما هنالك من حروب شعواء ومجاعات شائعة,, في المقالة القادمة سوف أتطرق لحيثيات هذا الموضوع اقتصارا على عالمنا العربي.
- خاص: الأخ مفلح الأشجعي عرعر ,, الأخت: خ الرياض: عدم ردي على رسائل القراء الكرام سببه ضيق الحيز, سوف أحاول تلافي ذلك مستقبلا,, شكرا جزيلا أخ مفلح وأتمنى ان أرى المزيد من مساهماتك الرائعة في رائعتنا: عزيزتي الجزيرة ,, أخت خ : اعتقد ان التعليم هو الحل الوحيد لمثل تلك الحالة: فقط قليلا من الأمل والاصرار, لا اجابة تساؤلك الثاني.

رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

فنون تشكيلية

مقـالات

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

تحقيقات

مدارات شعبية

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved