Friday 7th April,2000 G No.10053الطبعة الاولى الجمعة 2 ,محرم 1421 العدد 10053



شيء من الحق
مسلسل أم كلثوم وكتابة التاريخ
د, خالد محمد باطرفي*

تابعت بشيء من الاهتمام وبعض من الاستغراب الاهتمام الإعلامي الفائق بمسلسل أم كلثوم الذي عرض في كثير من المحطات العربية خلال شهر رمضان ويعاد عرضه هذه الأيام في بعض المحطات الفضائية, وسر اهتمامي ان المسلسل يروي تاريخ حياة تداخلت كثيراً مع أحداث تاريخية هامة وعهود سياسية مؤثرة فات على جيلنا ادراكها, من تاريخ الاستعمار البريطاني، الى حكم الملك فاروق، الى عهود تلت لا تقل وقعاً ضارياً على صدر الأمة وواقع المنطقة ومصائر شعوبها, عهود فقدنا خلالها، مع الكرامة والنضج والوعي، فلسطين وبلاد عربية لا تزال تئن إلى يومنا هذا تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي بعد أن اسلمها لهم من يتباهى بعض المؤرخين العرب بوطنيتهم وقوميتهم وعظمة تاريخهم.
كان هذا سر الاهتمام، أما سر الاستغراب الذي شعرته تجاه ردة الفعل الإعلامية فهي أولاً في هذا التمجيد الذي لا يعكره نقد يذكر لمنتجي وممثلي العمل، لدرجة أن تتباهى بطلة المسلسل بأنها ضحت بجنينها، وكادت تضحي ببيتها، من أجل المسلسل، فلا يستنكر أو يستغرب مستمع، رغم أن العمل، مع كل ايجابياته يبقى ناقصاً من الناحية الفنية بالمقاييس الدولية، ومن الناحية التاريخية بمقاييس منهجية البحث العلمي.
وهذا يقودني إلى ملاحظتي الثانية، وهي ان تاريخنا يُكتب قبل أن يُكتب، فهوية المؤرخ، وميوله، وانتمائه تحكم الطرح نفسه وطريقة المعالجة، وتمتد لتشمل حتى الحقائق نفسها اخفاء أو تمييعاً أو شقلبة , فأنت تقرأ لناصري أو بعثي أو اخواني أو قومي أو رافضي نسبة لجبهة الرفض وجهة نظر في التاريخ، وليس التاريخ نفسه مهما كان الادعاء وتصنيف الناشر للكتاب, فهذا المؤرخ يكاد يكون مؤرخاً لمصر غير مصر زميله المؤرخ الآخر، ولمرحلة غير المرحلة ومنطقة غير المنطقة وقادة غير القادة, ورغم توافق التواريخ والأسماء، تنطق الرواية بحقائق غير الحقائق.
وحتى لو اتفقنا على أن من حق المؤرخين ان يفسروا الوقائع ويحللوها كما يريدون طالما أن التحليل ضماناً لحيادية البحث والباحث مبني على أسس علمية متعارف عليها، وليس مجرد عواطف وانتماء حزبي وشعوبي وعقائدي، إلا أن اختلاف الوقائع نفسها بالتشويه أو الانتقاء أو التزوير الكامل يعني ان نتيجة البحث ستنتهي متحيزة لوجهة نظر الكاتب، وكأنما كتب التاريخ ليؤيدها لا توثيقاً للتاريخ نفسه, وفي هذه لا يختلف مؤرخونا عن أي أصحاب خلاف في أي قضية، فالحقائق، أو ما يسمى حقائق، تورد كإثباتات وحجج لتدعيم موقف الأطراف المتنازعة ليس إلا, اما الفرق فهو أن هذه الأطراف لا تدعي انها تكتب التاريخ فيما يدعي مؤرخونا أو مزورونا العظام ذلك.
نعود إلى مسلسل أم كلثوم الذي يفترض انه بحث تاريخي لمرحلة مهمة من حياة الأمة عبر حياة شخصيات تاريخية تشابكت وتداخلت وتوافقت احداثها مع جوانب متعددة سياسية واجتماعية واعلامية وثقافية، شأن المسلسل في ذلك شأن مثيله من الأفلام والمسلسلات العالمية ال دوكودراما حول احداث وشخصيات تاريخية وفنية كتشرشل ومارلين مورنو وسناترا, لقد كان من المفترض والمأمول أن يكون الطرح علمياً، محايداً، وصريحاً، كما كان في المسلسلات والأفلام الأجنبية المشار إليها، خصوصاً على يد كاتب بخبرة ومكانة محفوظ عبدالرحمن, ولكن النتيجة كانت، كعادة مؤرخينا، رواية حب وتعظيم واجلال لشخصيات بدت وكأنما خلقت من جنس الملائكة، لا جنس البشر.
فكل الحوارات التي دارت بين تلك الصفوة المختارة كانت مثالية، حالمة، رائعة, فالمادة مثلاً، كانت آخر ما كان يفكر فيه هؤلاء الرائعون، وكذا الشهرة والمجد الشخصي، فيما توقفت حدود المنافسة عندهم على الابداع الفني والشعري والانساني العظيم, أما خصومهم ، فقد كانوا وكأنما شربوا من ماء إبليس، فهم عدوانيون ليس فقط في أسلوب عملهم وطريقة فهمهم للفن والتنافس الشريف، ولكن أيضاً في حياتهم الخاصة وأسلوب تعاملهم مع الآخرين لاحظ الفرق في العلاقة والتعامل بين أم كلثوم ومنيرة المهدية وبين خادميهما , وفي الوقت الذي لم أكن، بحكم السن على الأقل، لأعرف حقيقة الأمور، إلا أنني بحاستي الصحفية وخبرتي المتواضعة في الحياة والناس، أجزم بأن الناس لم ولن يكونوا بهذا التسطح وبهذا البعد الواحد: أبيض أو أسود، صالح أو طالح، محسن أو مسيء، فالنفس الإنسانية والطبائع البشرية أعقد كثيراً من هذا التبسيط المخل، والحقيقة أثرى من الصورة التي يقدمها لنا هذا التحيز المجامل، الظالم.
وكما تظهر كثير من الحقائق التاريخية، إن لم يكن المؤرخون، فإن ام كلثوم ومعها عائلتها وفريقها الفني كالقصبجي ورامي ومصطفى أمين، والسياسي كفاروق وعبدالناصر وهيكل لم يكونوا بهذا البياض الناصع كله، كما لم يكن خصومها في المعسكرات الأخرى كمعسكر المهدية وعبدالوهاب، والذين تم تجاهلهم كأسمهان وليلى مراد وفريد الأطرش، بهذه السوادية أو الرمادية أو اللا أهمية كلها.
وطبعاً ستخرج علينا الأقلام التي تدافع وتلوم بأن اذكروا محاسن موتاكم وكأن هذا ينطبق على من نحب من الموتى فحسب، وبأن الحساسيات السياسية والاجتماعية تفرض على الكاتب والمخرج تجاوز القضايا الحساسة حتى لا ترفع قضايا الورثة وتقوم قيامة المحبين، ولكن يبدو أن هذا أيضاً كيل بمكيالين، لأنه لم يشمل الجميع, وهناك من تعذر بأن عرض المسلسل في شهر رمضان فرض تجاوز بعض السقطات لأم كلثوم، وكأنما التاريخ يُفصّل على شهور السنة، أو كأن الرقص والمغنى والفوازير مثال عليها، تليق بالشهر الفضيل فيما لا يليق الاشارة لا تلميحاً ولا تصريحاً بسقطات نجوم الرقص والمغنى.
أما الأهم، الذي لم يذكر بالطبع، فهو أن من مثقفينا من لا يرى إلا الكمال فيمن يهوى، والنقص فيمن لا يطيق، وان هؤلاء يتصورون اننا، كشعوب، لن نفرق بين مجد الشخصية ومجد عملها, واننا نؤمن بأن النجاح، كالحب: مطلق، وان التعريف بجوانب الضعف، واستذكار كبوات الفرسان، والاعتراف بضعفهم الانساني افساد للحلم الجميل، ويقظة موجعة من أسطورة الساندريلا وفارس الجواد الأبيض وكأننا لم نتجاوز مرحلة الطفولة بعد الى نضج الوعي ووعي الناضجين, وليس لي كمراقب ومعلق إلا أن أقول ليرحم الله الأمة ان كانت كذلك، ويكافي المثقفين إن لم تكن.
* رئيس الشؤون المحلية، جريدة الوطن، أبها

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

مقـالات

الثقافية

الاقتصادية

متابعة

أفاق اسلامية

لقاءات

نوافذ تسويقية

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

أطفال

تحقيقات

وطن ومواطن

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved