Friday 7th April,2000 G No.10053الطبعة الاولى الجمعة 2 ,محرم 1421 العدد 10053



شخصيات قلقة
شارلوت كورداي 1768/ 1793م

شارلوت كوردي اسم محفور في ذاكرة الثورة الفرنسية يرى البعض انها بطلة,, جان دارك اخرى,, ويرى آخرون انها خائنة لمبادئ الثورة وتستحق تماما ما لقيت من مصير مظلم.
يمتد نسبها الى بييركورني كاتب فرنسا العظيم وتنتمي مباشرة الى اسرة ارستقراطية محافظة والدها جاك فرنسوا دي كورداي كان حائزا على رتبة فارس باعتباره احد اشراف الريف الفرنسي، في هذا الريف فتحت شارلوت عينيها على رفوف الكتب واعمال كورني وبلوتارك وامجاد اليونان,, فتحت عينيها على الغابات المحيطة بمنزلهم الريفي واعتادت التجوال بين المروج الخضراء تسترسل مع احلامها الوردية خطوة خطوة.
حياة يسودها النظام والهدوء والسكون والحذر اذ تطغى في العاصمة باريس الصراعات والاحقاد بين الجمهوريين والملكيين ولا احد يعرف المخبوء في ضمير الايام,, الجرائد تقول وتقول والقتلى يتساقطون، وباريس تمسى ساحة للفوضى والدماء والاب جاك فرنسوا هذا الفارس الريفي يعاني كارثة مالية تضطره لأن يوزع ابناءه على بعض ذوي القربى تذهب شارلوت الى احد الاعمام الذي كان واسع المعرفة فتعيش في كنفه تقرأ وتتعلم معنى البطولة والوطنية تتابع الجرائد يوما بيوم,, بنهم شديد وحسرة أشد.
وتزداد الايام الكئيبة كآبة بوفاة الام، فيسعى الاب العزيز الذي ذل الى ان يلحق شارلوت واختها بمدرسة سان ترينتي ,, ولأنها مدرسة لأولاد الذوات، لم يكن يسمح بالالتحاق بها سوى لخمس فتيات شريفات ممن حنى عليهن الدهر ويوسط الاب عددا من ذوي النفوذ حتى تلتحق شارلوت بتلك المدرسة فتتفوق على اترابها وتنغمس في الاطلاع والتحصيل,, لكن دبيب الفوضى يسري من باريس القلب ويصل الى اطراف الريف، كأن يدا خفية تجبر الوطن على ارتداء ثوب الحداد!! لقد اعلنت الجمعية الوطنية عام 1790م اغلاق جميع معاهد العلم.
وهكذا فالفقر المباغت,, وموت الام المباغت,, والانقطاع المباغت عن التعليم,, كل هذا يعني الحزن والموت لشارلوت,, يعني مزيدا من الانشطار والضياع للاسرة، فها هو الأب ينضم الى حزب الملك وشارلوت تنضم الى غلاة الجمهوريين والمنزل تسوده غيمة من صمت وكآبة.
حتى الانتماء الى حزب الجمهوريين لم يمنع عاصفة الثورة من ان تعصف بفرنسا، فتنضم شارلوت الى الجيرونديين,, الى باربارو وبيتيون وجيروندين فرنيو,, وكانت تحرض أهل نورمانديا من اجل الزحف على باريس وتحطيم الجمعية الوطنية واليعقوبيين أنصار دانتون وروبيير ومارا وميرابو,, وكم مسحت من دموع وهي تتذكر القتلى والخراب الذي حاق بالوطن الى ان كان قرارها الاخير,, ان تقتل!! تقتل مارا الملقب بصديق الشعب لأنه في الحقيقة عدو الشعب وأُس المصائب.
كان جان بول مارا من أشهر الصحفيين آنذاك فهو صاحب ومدير جريدة صديق الشعب انه رجل شديد الاعتداد بنفسه لم ينضم الى الجمهوريين وينقلب عدوا على الملكية الا بعد ما لم يُقدر الملك لويس السادس عشر مواهبه حيث رفض ترقيته الى مصاف الاشراف كان مارا يشعر شعورا خفيا بأنه مهضوم الحق، ومع توالي الحوادث ترسّخ بداخله هذا الشعور فيما يسمى بجنون الاضطهاد فمارس كل سلطاته من خلال الجمعية الوطنية ليقضي على كل مظهر من مظاهر القوة دون ادنى تسامح سياسي لقد اراق دماء العشرات من الابرياء لأنهم في نظره اقوياء مستبدون، وتعالت حنجرته بنداء وحشي ضد اعداء الجمعية الوطنية ناهيك عن المقالات والخطابات.
وحين اصيب بمرض جلدي مستعصٍ احدث هذا في عقله مزيدا من الجنون والرغبة في سفك الدماء، وظل طيلة اربع سنوات يعاني المرض والخوف من شبح الانتقام والرغبة المحمومة في القتل لدرجة ان اتباعه انفسهم قد سئموا من سلطته وكادوا ان يسقطوه من ذاكرة التاريخ.
ولو كانت شارلوت كورداي تجيد قراءة اللعبة السياسية لما فكرت في قتل هذا الوحش، القابع في غرفته يعاني سكرات موت طويل!! لقد قضت اسابيع عدة تتهيأ للهبوط الى باريس وتعد خطتها العملية لقتل مارا,, ربما تنقذ بذلك باريس كلها من القتل والخراب,, وكعادة الثوار والرومانسيين الحالمين حملت حقيبتها الصغيرة وجواز سفرها وبعض خطابات التوصية ثم اوهمت اسرتها انها ستهاجر الى انجلترا لتعيش لدى بعض الاصدقاء.
فكرة واحدة تسيطر عليها دون تردد,, دون تأن,, ان تقتل مارا,, انها المأساة تنسج نفسها على خيط غامض يشدها الى المجهول,, تجاهدها كي تخفي توترها واضطرابها ودموعها الأليمة,, كانت الخطة قد رتبت على أن تتقدم الى الجمعية الوطنية بشكوى نيابة عن صديقة لها هاجرت الى سويسرا حيث تعاني آلام الفقر والمرض هناك,, وكان بحوزتها خطاب توصية من باربارو احد زعماء الجيرونديين الى دوبريه عضو الجمعية الوطنية وما هي إلا ساعات بعد لقائها بدوبريه حتى صودرت املاكه واتهم بالتعاطف مع الجيرونديين.
ايقاع متلاحق لاهث لأحداث دامية,, لا بأس,, حتما ستصل الى مارا وحتما ستقتله في قلب الجمعية الوطنية اشترت المدية وتجاوزت رهبة التردد ثم ارسلت مذكرة الى مارا تطلب لقاءه شخصيا,, وفي السابعة مساء ارتدت شارلوت ثيابا بيضاء فاخرة واخفت المدية في منديلها ثم ذهبت الى المنزل رقم 20 بشارع الكوردلييه.
وبعد دقائق عصيبة ازاء رفض الحارس لدخولها خرجت إليها خليلة مارا الذي وافق على دخولها، القاتل والمقتول معا وجها لوجه في لحظة أخيرة,, مارا في غرفته، حيث يجلس داخل حوض استحمام يكاد ان يقضي فيه ليله ونهاره، غاطسا في الماء عدا رأسه واكتافه، مرتديا عصابة قذرة تغطي شعره الكث وتظهر عينيه الضيقتين وفمه الواسع على نحو مخيف مرعب,, لم يكن باستطاعته ان يتحمل الحياة الثقيلة مع المرض سوى داخل حوض الاستحمام ينظر اليها واقفة ثابتة الجأش يسألها عن حال نورمانديا وعن الجيرونديين، وهو لا يدري انها تنتمي اليهم,, ولا يدري ان نصل المدية يتحرك الآن تحت المنديل ليغيب في القلب دون ان يُخطئه,, ومارا يكاد ان يقول لها: حتى أنتِ يا شارلوت!!
كسريان النار في الهشيم ينتشر الخبر في حنايا باريس,, تحتشد الجماهير طلبا للثأر من قاتلة مارا صديق الشعب,, ساعات طويلة من التحقيق والحبس الانفرادي والاغماء وصياح الجماهير وراء الجدران المرتجة, اعتقدت شارلوت انها من بطلات عصرها، لم يدفعها الى ذلك سوى حب الوطن، ولا ترغب الآن سوى في ان تموت بسلام وتشارك بروتس وغيره من ابطال التاريخ منزلتهم الرفيعة على مر العصور وحين سألها القضاة: ان ما اتيت من فعل لا بد من ان يكون قد اقترح عليك؟! فأجابت بأن الاعمال لا تنفذ تنفيذا حسنا إلا اذا أتت من قلب الإنسان مباشرة,وفي يوم الاعدام تحركت السيارة بشارلوت ساعتين كاملتين من السجن الى ميدان الثورة حيث تتماوج الجماهير وتترقب القصاص، كانت في كامل زينتها، قد انفقت ستة وثلاثين فرنكا من اجل المعطف الذي تلبسه في لحظة الاعدام، وطلبت من احد المصورين ان يلتقط لها بعض الصور، دون ان تنسى ان ترسل خطابا مؤثرا لأبيها وآخر لصديقها باربارو,, وأمام الجيليوتين أو المقصلة امتقع وجهها هنيهة، وفي لحظة وحشية غادرت الروح وانفصل الرأس عن الجسد، واذا بأحد الجلادين يحملها ويقذفها في وحشية نحو الجماهير الغاضبة، على حين كان أحد الباقين من الجيرونديين يقف وراء كوة السجن يتأمل الشمس الغاربة قائلا عن شارلوت كورداي: انها حطمتنا غير انها علمتنا الموت كيف يكون .

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات

الاولــى

محليــات

مقـالات

الثقافية

الاقتصادية

متابعة

أفاق اسلامية

لقاءات

نوافذ تسويقية

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

أطفال

تحقيقات

وطن ومواطن

شرفات

العالم اليوم

تراث الجزيرة

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved