إن من غرر الأيام وأهمها في تاريخ النضال والنزال بين المؤمنين الصادقين والكافرين الجاحدين يومين عظيمين كريمين نصر الله فيهما المؤمنين على الجاحدين هما يوم عاشوراء ويوم الهجرة النبوية، اما يوم عاشوراء الذي نصر الله فيه نبيه موسى ومن معه من المؤمنين على الطاغية فرعون فالحديث عنه في وقت لاحق ان شاء الله، اما اليوم الثاني من ايام الله ايام النصر المبين فيوم الهجرة النبوية يوم التحدي الكبير للخصوم الحاقدين حيث خرج الرسول صلى الله عليه وسلم تحرسه عناية الله ويضع التراب على رؤوس من بات يترصده للفتك به والنيل منه، وفيه منتهى المدد والتأييد والاسناد من الله عز وجل لنبيه الكريم، وفي حادث الهجرة برهان صادق ومحسوس ادرك به اعداؤه صدق نبوته وشرف رسالته، كما ان فيها تفويتاً للفرصة ومحقاً وسحقاً للماكرين والجاحدين (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك، او يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) إنها منة من الله على خلقه بل نقلة هائلة بين الماضي والحاضر، إنه يوحي بالحال التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام قبل تغير الاحوال وتبدل المواقف، والصحابة وهم يسمعون القرآن ويعرفون الحالين وعاشوا المرحلتين، لقد كانوا يمكرون ومكرهم لئيم خسيس ليحبسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى الموت، او يقتلوه ليتخلصوا منه، او يخرجوه من بلده وموطنه طريدا, لقد بحثوا ذلك كله ثم اختاروا قتله على ان يتولى ذلك الاثم والاجرام شباب اقوياء ومن مختلف القبائل ليتوزع دمه ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب جميعا فيرضوا بالقليل وهو الدية، والصورة التي يوضحها القرآن صورة دقيقة عميقة الاثر، وليس لغير القرآن القدرة على شيء من هذا التصوير البديع، والقرآن يسخر منهم ومن فعلهم وعقولهم الهابطة الساقطة انه تصوير بديع يحرك القلوب ويهز اعماق الشعور ولكن لمن ذاق واعتبر وتدبر, قال تعالى في آية اخرى تصف المشهد غير الكريم الذي آل اليه امر الكافرين إلا تنصروه فقد نصره الله إذ اخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم خرج صلى الله عليه وسلم وحيدا صابرا محتسبا إلا من صاحبه الوفي الأبي أبي بكر رضي الله عنه لا سند ولا مدد ولا جيش ولا عدة إلا من الله وحده، واعداؤه كثير والمتربصون به أكثر، والقوم على إثرهما يبحثون، والصديق مشفق على صاحبه ويقول لو ان احدهم نظر الى قدميه لأبصرنا، وقد انزل الله سكينته على رسوله وأيده يهدئ من روعه ويطمئن قلبه فيخاطب الصديق قائلاً ما ظنك باثنين الله ثالثهما، إنه منهج تربوي متميز يعطي الدليل الأكيد على أصالة وتميز التربوية الاسلامية وتفوقها وانها تعنى اولا وقبل كل شيء بتقوية العقيدة وغرس الثقة بالله ووعده الذي لا يتخلف حيث نلاحظ هنا ان القوة المادية وهي في نظر الناس عصب الحياة وعدة المقاتل وسبب النصر نلحظ هنا ان القوة المادية في جانب أعدائه والرسول وصاحبه مجردان منها، وكانت النتيجة بعد ذلك على خلاف ما اعتاده الناس حسب مقاييسهم الارضية، كان النصر المؤزر والفتح المبين بقوة جنود لم يعهدها ولم يرها الناس (فجعل كلمة الذين كفروا السفلى) وهي دوما سافلة هابطة وان خيل للبعض احيانا انها قوية نافشة وكلمة الله دوما في مكانها السامق العالي الكريم، فكلمة الله عالية طبيعة وأصلا.
ان يوم الهجرة يوم مجيد من ايام النصر بعد الصبر فوت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيه على الكافرين الكثير ليظهر الله دينه ويعلي كلمته في العالمين، ويشرع لعباده الهجرة وهي بهذا الاعتبار قائمة الى قيام الساعة هذه بعض مزايا ودروس وعبر الهجرة وآثارها التربوية، انها نعمة عظيمة تستحق الشكر والذكر، ومن اهم آثارها التربوية الاخذ بتعاليم ونهج ومنهج سيد المرسلين صاحب الهجرة، والبعد عن المزالق والمهابط التي حذر منها، والرسول صلى الله عليه وسلم في هجرته هذه يعطي دروسا تربوية، دورسا عملية بل نموذجية تصبغ وتطبع حياة المسلمين بطابع الكرامة والشهامة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ان البقاء مع الضيم والاقامة في دار الهوان إذلال للنفس وكسر للعزة الاسلامية التي ارادها الله للمؤمنين الصادقين ولله در القائل:
فنفسك أكرمها وإن ضاق مسكن عليك لها فاطلب لنفسك مسكنا وإياك والسكنى بمنزل ذلة يُعدُّ مسيئا فيه من كان محسنا |
وحادث الهجرة يثير في نفس المسلم شئوناً وشجوناً وتذكرة بمجد اثيل اصيل يثير في نفس المسلم ذكريات عذبات تهديه لأقوم سبيل وذلك بالتمسك بالكتاب والسنة والعمل بهما والاعتصام بحبل الله المتين قولا وعملا ففي الهجرة قول وعمل وتطبيق ومنهج رشيد يتبعون القول العمل (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون),وواجب المسلمين اليوم وهم احوج ما يكونون الى دروس الهجرة والى عبرها وآثارها التربوية، فليست السيرة خبراً مضى وانقضى او قصة للتسلية وقضاء الوقت او تقال في مناسبات وكفى ولا هي طريق الى الابتداع والاختراع ولا وسيلة الى المخالفة، إن آثار الهجرة التربوية ادق وأعمق وأوثق من هذه البدع الملفقة وإذا كانت الهجرة أحد الآثار التربوية الهامة لهذه الامة التي أراد الله لها ان تكون كريمة وعزيزة لو سلكت السبيل الاقوم والارشد ولكن البعض من هذه الامة ترك اللب واللباب واكتفوا بالمظاهر والسهل من الامور فكان حظ البعض منهم في بعض ديار الاسلام، بدعاً واساليب مخترعة لا تقدم ولا تؤخر، مع ان الحب الصادق يقتضي المتابعة وتقفي الاثر قولا وعملا وإقداما (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) وان الهجرة بذاتها وصفاتها لهي احد المواقف العظيمة والشجاعة لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم، والتربوي المسلم يأخذ من الهجرة النبوية الدروس والعبر والمثل ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 حادث الهجرة درس عملي واقعي بليغ رائع في الإعداد والتربية المثلى للصغار والكبار ومختلف الأعمار.
2 الحب الصادق للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الاقتداء بسنته والسير على نهجه.
3 التمسك الصحيح بالاسلام يورث العزمات الصادقة والتعلق بالحقائق النافعة.
4 الهجرة أحد المواقف العظيمة التي جنى المسلمون خيرها وثمرتها عاجلا وآجلا.
5 السعادة كل السعادة في الدين ومعطياته والشقاء كل الشقاء بخلافه.
6 المسلم الصادق يضحي بنفسه وماله من اجل عقيدته ونصرة ملته.
7 التربية الصحيحة للناس صغارا وكبارا هي الوسيلة الناجحة للحصول على المكاسب وأعلى المراتب دينا ودنيا.
8 أي خلل في الأمة في عقيدتها وسلوكها ومعطياتها انما هو قصور تربوي.
9 على التربوي المسلم ان يراجع خططه ومناهجه وبرامجه على الدوام.
10 على التربوي المسلم ان ينظر كيف بذل الرسول وكيف صبر وكيف تحمل وركز كثيرا من اجل تربية صحيحة توصل الى الهدف المراد.
11 الهجرة نقلة كبيرة وفتح عظيم حوّل حال وحياة الصحابة من حال الى حال فهي في مجملها عز ومنهج وفرج ومخرج ورفعة ومنعة.
12 الهجرة ليست صفة سلبية بل هي إيجابية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى فهي ليست بحثا عن السلامة والملاحة ولا هروبا من واقع مؤلم، انها مشقة وأذى إنها مفارقة للأهل والاوطان والجيران والخلان، وقد قرنت بالقتل في كتاب الله الكريم (ولو انا كتبنا عليهم ان اقتلوا انفسكم او اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) وقتل النفس والخروج من الديار مثلان للتكاليف الشاقة التي لو كتبت عليهم ما فعلها الا القليل منهم.
13 في حادث الهجرة درس بليغ رائع ليعرف القائد ورجاله والمدرس وطلابه معرفة وثيقة وعميقة دقيقة ويعرف خصائص كل واحد منهم وفي السيرة النبوية من هذا كثير.
14 الدين منهج حياة واقعية بتشكلاتها وتنظيماتها واوضاعها وقيمها واخلاقها وآدابها، وهذا يقتضي ان يكون للتربية سلطان يحقق النهج وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ وإلا كان تربية عقيمة.
15 وظيفة التربوي المسلم إقامة منهج معين للحياة والممات، والا فما اهون التعليم إذا كان كما نشاهد احيانا يقف المدرس متحدثا في موضوع ما وبطريقة غير تربوية لا يعنيه إلا ان يمضي وقته ويقول كلمته غير المعدة، والتي احيانا يستهتر بها المستهترون ويهزأ بها الهازئون ويبتذلها المبتذلون.
16 القول التربوي الجيد، يودع مباشرة في الأنفس ويستقر مباشرة في القلوب (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) والتربوي الكفء أولى الناس بهذا المنهج السديد.
17 التربية الجيدة رخيصة حين تكون زعما وكلاما ولكنها غالية الثمن حين تكون عملا وإقداما وبذلا وجدا واجتهادا ونتائج خيرة تحقق الخير والنماء للجميع.
18 هناك فرق بيّن واضح في التربية بين عبقرية التخطيط وعبثية التلفيق وقد اوضحت الهجرة بجلاء ووضوح أصالة ومتانة التربية الإسلامية وتفوقها كما اوضحت بجلاء ايضا إخفاق المناهج والبرامج البشرية أيا كان مصدرها وصفتها في تحقيق تربية مثلى مفيدة.
كما وضح تماما اثر هذا الاخفاق في نفوس البشر وتعاملهم وواقع حياتهم وطموحاتهم، كما تبين للتربوي المدرك تميز التربية الإسلامية على التربية الوضعية (واللقيطة أحيانا) والمرقعة احيانا اخرى كما تشاهد كثيرا في بعض ديار الاسلام، كما بينت التربية الاسلامية ذات السمو والسموق والتفوق والتألق ما في التربية الوضعية من نواحي القصور في المنهج والاسلوب والتطبيق، والاثر بعد ذلك.
19 ان قوة رجل التربية وشجاعته من صفات الانبياء وهي حلية جليلة يتحلى بها الفضلاء والنبلاء، والمعلم القوي الشجاع تسري شجاعته في عروق طلابه، فهذا أبوبكر هو التلميذ النجيب في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم يقول لما منعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه تتمثل فيه شجاعة المؤمن وعزة المسلم في الحق يقول للمشركين حين هاجر (من أراد ان تثكله أمه فليتبعني خلف هذا الوادي) وفي الحديث الصحيح كان رسول الله صلى الله عليه وسلم احسن الناس واجود الناس أو كما قال, رواه مسلم ان التربية المميزة والجادة مستوى معين ينبغي الوصول اليه وبكل السبل الممكنة والمدرس الكفء حريص عليها كل الحرص، وان التربية الجادة تقتضي من المسئولين عن التربية والتعليم ان يبذلوا جهدا مميزا في رسم الخطط والمناهج واكتشاف ارقى واعمق الوسائل وتصحيح المسار على الدوام، وهو جهد عظيم كما يقول التربويون أكبر من جهد باحث او كاتب، ان الخبرة والتجربة والمؤهل الدقيق والجيد كلها امور مهمة في هذا السبيل.
ان التربية الجيدة والجادة ليست موجودة لدى كل احد وإن كان منسوبا بحكم الوظيفة الى التربية والتعليم، وان التربية الجيدة تحتاج الى جهد معين واسلوب معين في استقطاب المؤهلين واصحاب الخبرة الكافية والموفقة في هذا السبيل، ان القيادة التربوية بالذات، مشرف تربوي، مدير مدرسة، مدير تعليم,, الخ تحتاج الى سن معين وتأهيل معين، وهذا خلاف ما يشاهد احيانا في بعض البلاد، اننا بحمد الله نملك عقولا تربوية فذة وقدرات تعليمية معينة فهل يا ترى يستفاد منهم خاصة بعد سن التقاعد وفي مواقع تليق بهم وبفكرهم وعمقهم التربوي وبعدهم المعرفي، ام ان من تقاعد فهو نجم أفل ونظل نجرب ونغير في الوجوه، وتعطى القيادة التربوية وفي مختلف المواقع وفي بلاد عدة من بلاد الله الواسعة، للصغار سنا والاقل تأهيلا وتجربة ثم تكون النتيجة كما يشاهد في بعض الديار والامصار,
ان في التربية النبوية والهجرة المحمدية ما يكفي ويشفي ويجيب على كل هذه التساؤلات.