Monday 10th April,2000 G No.10056الطبعة الاولى الأثنين 5 ,محرم 1421 العدد 10056



السيرة الذّاتية: الحدّ والمفهوم
7 - أشكال أخرى:(3- 3)
أحمد علي آل مريّع*

أ المذكرات المضادة / لا مذكرات / الفوجا الذاتية: Anti Memoirer:
في أواخر عام 1967م أصدر المفكر الفرنسي المعاصر أندريه مالرو مجلداً ضخماً يقع في ستمائة صفحة بعنوان غريب ينشر لأول مرة في عالم السيرة الذاتية وهو: Anti Memoirer مع وعد بثلاثة مجلدات أخرى تنشر مع هذا الجزء في أربعة مجلدات كاملة بعد وفاته.
وقد ترجم الأستاذ فؤاد الحداد الكتاب بعنوان لا مذكرات وصدر في عام 1972م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب أي بعد خمس سنوات من صدوره بلغته الأم, وقد جاءت الترجمة العربية في مائتين واثنتين وثلاثين صفحة 232 من القطع العادي، وتأتي الاشارة إلى Anti Memoirer العنوان الذي اختاره مالرو علماً على كتابه تأتي الإشارة إليه في دراسات وترجمات العرب المحدثين على صيغ ثلاث:
الأولى: المذكرات المضادة.
الثانية: ضد المذكرات.
الثالثة: وهي الصيغة الأشهر: لا مذكرات.
ويشير الدكتور شرف إلى هذا الكتاب بوصفه نموذجاً جديداً في وصف السيرة الذاتية نقلاً عن فؤاد كامل صاحب كتاب اندريه مالرو شاعر الغربة والنضال , ويصفه شرف بانه أحدث نماذج السيرة الذاتية في الآداب العالمية ويخلع عليه مصطلح الفوجا الداتية لأنه أقرب إلى شكل الفوجا Fugue في الموسيقى الغربية, وكلمة فوجا مشتقة من الفعل اللاتيني Fugure بمعنى هروب، فهي مقطوعة موسيقية تبدو فيها الألحان المتشابهة وكأنها تهرب ويطارد بعضها بعضاً دوراً بعد دور, وهي نوع من التأليف الموسيقي احتشدت فيه الصعوبات الممكنة جميعاً تحت اسم الموضوع ونقيضه,, بيد أن هذه ألحان رغم تشابكها وتعقدها يتجاوب بعضها مع البعض الآخر بحيث تتعرف عليها الأذن على نحو ما سواء كانت الحركة متشابهة أومضادة, وينتهي إلى أن لا مذكرات عبارة عن بانوراما لحياة بدأت مع بداية القرن العشرين وامتزجت باحداثه الحافلة وتجاوبت مع ما يقرب من نصف قرن من تاريخ أوروبا وآسيا، واتصلت بالشخصيات التي صنعت هذا التاريخ بل وشاركت في صنعه أيضاً.
على أن الدكتور/ شرف لم يلبث ان تراجع عن موقفه من لا مذكرات ما لرو موافقاً الأستاذ فؤاد كامل فقال: والواقع كما يقول الأستاذ فؤاد كامل انه ينبغي علينا ألا ننساق وراء مبررات مالرو في اطلاق عنوان اللا مذكرات على كتابه, كما ينبغي علينا ألا يخدعنا عدم التزامه بالترتيب الزمني، فهذه مسألة قد سبقه إليها كثير من الكتّاب المعاصرين، فالكتاب رغم كل هذه المبررات نموذج من نماذج السيرة الذاتية، يصور الأحداث التي شاهدها كاتبها أو شارك فيها .
والدكتور/ شرف بهذا القول يكون كمن نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً بلا مبرر واضح, ووجه التراجع أو التناقض إذا شئت انه اذا كان الكلام الذي انتهى إليه آنفاً هو النتيجة، أو بعبارته نفسه الواقع فماذا نسمي كلامه السالف، واجتهاداته السابقة في تمييز: لا مذكرات واقتراحه مصطلح الفوجا الذاتية لها؟! وما الموقف أو ما الواقع الذي يريد أن يقرره الباحث الكريم ويصفه اجمالاً؟!
والأدهى من ذلك اقتراحه مصطلح الفوجا الذاتية وتحليله وتعليله وتفسيره لما أقدم عليه، وهو لم يُكلف نفسه الاطلاع على الكتاب أصلاً أوترجمة، هل يكفي قراءة ما كتب الآخرون عند تفحص الكتاب ذاته فضلاً عن الحكم عليه، وتبني قراءة نقدية فنية تُعقد خلالها ضفائر المصطلحات النقدية وتقرر التصورات المختلفة؟!
وضمن الاتجاه نفسه يتجه الحيدري الى تمييز الكتاب ونمذجته ولكنه يعود فيَنظمه في سياق المذكرات من جديد، ويشير إلى أن عدداً من كتاب السيرة الذاتية العرب يتفقون مع مالرو في بعض نهجه في اللا مذكرات وبخاصة في عدم الالتزام بالترتيب الزمني، دون أن يعرفوا هذا المصطلح الجديد الخاص بصاحبه, ويرى أن مالرو في اتخاذه هذا الاسم المستحدث اراد أن يتخلص من القيود التي يُطالب بها كاتب السيرة الذاتية، فكأنه حين ينفي عن كتابه كونه مذكرات يبيح لنفسه الكتابة دون أدنى قيد فني.
والحقيقة أن مالرو اسم أدبي كبير جمع بين الفكر والفلسفة، وبين الكتابة والابداع، وهو روائي ناقد، ولا أعتقد ان أمر النقاد سيشغل باله إلى هذا الحد، لأنه لن يقع على كل حال فريسة سائغة بين أيديهم، ولا أظن أن أمر بناء المذكرات وفق الشكل الروائي سوف يستعصي عليه، وهو روائي حذق الكتابة الروائية واتقنها, إنما أراد فيما أحسب باتخاذه هذا الاسم المستحدث ان يبتدع صورة جديدة تتفق وأغراضه من الكتابة، وتتجه إلى الاجابة عن تساؤل لا تطرحه كتب المذكرات عادة على حين لا يجيب عن تلك الأسئلة التي تطرحها!!
لقد أصبحت مذكرات مالرو شيئاً ليس مرتبطاً بالفرد في ذاته فحسب ولكنه مرتبط بالمصائر الكبيرة أيضاً,, إنها بصمات الرجال العظماء الذين يصنعون التاريخ كما يقول دانيال كايزرغروبر هذا التاريخ الذي لا يمكن أن يكون الشعب ممثله الحقيقي الوحيد, إن هذه الفكرة التي توجد في النصوص الأولى لمالرو وتختفي أمام البنية الضخمة للذين يكتبون التاريخ من أمثال ديغول، وماوتسي تونغ ولا يمكن لاية كتابة مهما كان الكاتب كبيراً ان تضاهيها، إذا لم يكن ذلك في الفعل النافي ضد المذكرات , إنها مذكرات سياسية من جهة ، ونبش للتاريخ الفردي وللسيرة الذاتية من جهة ثانية.
ولنفكر فقط في عناوين مفكرات مشيل ليريس M.Leiris لأن تطور العلوم الاجتماعية التحليل النفسي، علوم اللغة أصبح يشكك في النظرة نحو الأنا الذي انفجر ولم يعد قادراً على اعطاء موضوع متجانس يستطيع بناء كالبناء الداخلي لمفهوم المذكرات.
إن تجاوز التسلسل الزمني في لا مذكرات أمر لابد منه لأنه صورة عن الغاية التي ينشدها الكاتب فهو يريد أن يتلمس حقيقة الانسان الماثل بين جنبيه والتي لا تظهر كما يرى مالرو إلا من خلال الفعل وليس الأسرار, وليس كل الأفعال عنده تستحق الذكر والاشادة، فما لا يهم أحداً سواه لا ينبغي أن يهمه، أو بعبارته ماذا يهمني ما لا يهم غيري أنا ما يهم مالرو في أي انسان كان حتى بالنسبة لنفسه هو الحالة الانسانية,, وهذه الحالة تتمثل عند الانسان العظيم في طبيعة هذه العظمة، وفي الوسائل التي وصل بها إليها, يهمه في القديس مثلاً طابع قداسته، وبعض الملامح التي تعبر عن صلة خاصة بالعالم أكثر مما تعبر عن الطابع الفردي الشخصي، فإن مالرو يتحدث عن بعض القيم التي اثرت في حياته جميعاً ولا يستعرض احداثها كلها, ولا فرق بعد ذلك بين الواقع والحقيقة وبين الأحلام والآمال والأفكار، ما دام الكل ماثلاً في النفس ومؤثراً فيها بشكل أو بآخر: إن أعمق لحظات حياتي لا تسكن فيّ، ولكنها تساورني تارة وتفرُ أخرى, لا يهم، إن بعض أحلامنا لا تقل معنى أمام المجهول، عن ذكرياتنا, فأنا أستعيد هنا بعض المشاهد التي حولتها فيما مضى إلى روايات، كثيراً ما تكون مرتبطة بالذكرى روابط متشابكة، وربما تشابكت في المستقبل بطريقة أدعى إلى الحيرة والجوى,, .
ومن هنا كان كتابه: فعلاً مضاداً لما عليه المذكرات، لأنه لا يبحث في الأنا فقط ولا يبحث في الآخر فقط ولا يُلاحق الأحداث فقط، ولا يُبيح الأسرار فقط ولا يتحدث عن القيم الواقعة فقط، بل هو كل ذلك معاً مما يصعب ان نجد له اسماً، إلا أنه شيء ليس كالمذكرات, ومن هنا أرى أن الترجمة الصحيحة للكتاب هي المذكرات المضادة أو المذكرات المغايرة أو المذكرات المخالفة مراعاة لما يريده الكاتب من العنوان، وموافقة للدلالة المعجمية لكلمة Anti ، ثم هي بعد هذا وذاك ترجمة تتمشى مع اللغة العربية التي لا تقبل كثيراً تلك الصيغة الرائجة: اللا مذكرات .
ب السيرة الجزئية الجانبية:
يقصد بها الباحث تلك السير التي يكتبها صاحبها عن وجه من الوجوه في حياته، ويغطي بها مرحلة محدودة من مراحل سيرته، والباحث لا يرى هذا النوع الأدبي من الكتابة سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق، لأنها لا تنتظم حياته بعامة، ولذلك فهي سيرة جزئية قاصرة، ويجب في السيرة الذاتية ان تكون عامة وشاملة لحياة كاتبها ومسيرته في الدنيا, ونمثل للسيرة الجزئية في أدبنا العربي المعاصر بكتابي: شفيق الجبري: أنا والشعر 1959م وأنا والنثر 1960م , وواضح من عنوان الكتابين أنه لم يقيد فيهما أحداث حياته الخاصة، بل عُني بعلاقته بالشعر والنثر فقط، فهما كما يقول افضاء باسرار الفن لا بأسرار الحياة .
وقد تحدث الجبري في أنا والشعر عن أول عهده بنظم الشعر، وذكر بعض أشعاره الأولى، والشعراء الذين أعجب بهم وحفظ كثيراً من أشعارهم، وكان صريحاً في نقد شعره، جريئاً في محاكمة نفسه، وكان يشير إلى المعاني التي اخذها من غيره والألفاظ التي نقلها إلى قصائده عن الشعراء الآخرين.
وتحدث في الكتاب أيضاً عن مذهبه في النظم، ووحدة القصيدة وصيغتها، وخص الشعر الوطني بمبحث مستقل وكذلك الشعر الغنائي، وشعر المناسبات والمراثي.
وقد جاء أنا والنثر أكثر نضجاً وإحكاماً من سابقه، في مباحث مرتبة متناسقة، وبدأ بالحديث عن مدرسته الأولى وطرق التدريس فيها، وضروب العلوم التي درسها فيها، وأثرها في توجهه الأدبي, ثم فصّل أدوار كتابته، وجعلها ثلاثة أدوار، الأول: الاستعداد الفطري، والثاني: التجربة، والثالث: العمل, وكتب أيضاً عن الفنون النثرية التي شارك فيها كالتأليف والمقالات بأنواعها والرحلات، والترجمة، وتفسير النصوص، والتعريف بالكتب, وأسهب في الكلام عن ولعه باللغة وتتبع شواردها، وعقد فصلاً خاصاً بمذهبه في الكتابة بخاتمة الكتاب.
فالكتابان قدما تسجيلاً للتجربة الفنية في جانبين مختلفين، الأول: في جانب الشعر، والثاني: في جانب النثر، ولقد أحس الكاتب نفسه أن هنالك جوانب أخرى من سيرته لم يعرضها للناس، فطمحت همته إلى تأليف كتاب ثالث يسميه: أنا والناس ولكن المنية ادركته قبل أن يفعل رحمه الله -.
ومن السيرة الجزئية أو الجانبية كتاب قصة نفس 1967م وكتاب: قصة عقل 1983م للدكتور زكي نجيب محمود، فإن الأول قد خصصه لرواية نفسه من الباطن لا من الظاهر، بمعنى أن يكون محور الاهتمام بالخلجات الداخلية قبل أن يكون بالاحداث الخارجية, وقد أُضطر الكاتب إلى اللجوء الى الرمز، لأن جزءاً كبيراً من هذه الخلجات هي استجابة للظروف والعوامل المحيطة بها, ولكنه كلما أحس ان الرمز قد تكثف وتعقد حتى كاد يفقد رمزيته ودلالته، ألقى في سياق الحديث اسماً ما أو حادثة معينة بحقيقتها التاريخية، بغية أن يشد القارئ من عالم الوهم إلى دنيا الواقع، فكأنه ينبهه بذلك ليفيق من دنيا الأحلام فينظر إلى الواقع بعيني رأسه.
وقد لاحظ ان طبيعة المهمة التي أرادها لكتاب قصة نفس قد اضطرته إلى أن يسقط جانباً من حياته، وهو بغير شك ابرز جوانبها، وأكثرها ايجابية، وأوفرها نفعاً للناس وهو سيرة تكوُّن الأفكار لديه وما يجيء تبعاً لذلك من مواقف خاصة يتخذها الفرد من الكون والحياة والانسان وسائر الموجودات, ثم جاء كتابه سيرة عقل تماماً على الذي سبق من قصة نفسه ، وكل من قصة نفس وقصة عقل سيرة جانبية أو جزئية تخدم ما وضع عنواناً عليه كل منهما.
وبدون ضم الكتابين أو وصلهما ببعضهما لا يمكن أن تتشكل لنا السيرة الذاتية بمعناها الدقيقة, وحتى نعرف الدكتور / زكي نجيب محمود فكراً ونفساً فلابد من قراءتهما معاً، لذلك لم يخف صاحب الكتابين هذه الرغبة فقال في صدر كتابه قصة عقل : إنني لشديد الرغبة في أن يقف التوأمان معاً جنباً إلى جنب أمام القراء، ولهذا فقد صحّت عزيمتي بإذن الله أن أدفع ب قصة نفس إلى الحياة من جديد بعد شيء من المراجعة أتجنب به بعض ما لاحظته من أوجه النقص في تكوينها الأدبي .
ومثل ما تقدم: سيرة شعرية للدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي، فقد تحدث لنا فيه عن تجربته الشعرية بالدرجة الأولى، ولا تزال حياته بحاجة إلى صفحات طويلة لتجلو لنا تجربته الثرة في محيطها السياسي والاجتماعي والفكري بل وحتى الأدبي, ومن السيرة الجانبية أو الجزئية كتاب: في صالون العقاد كانت لنا أيام للكاتب الصحفي أنيس منصور، حيث سلط سرده على علاقته الشخصية ب العقاد ونقل لنا صوراً مما يدور ويحدث داخل صالونات العقاد ومجالسه الخاصة، التي يرتادها المثقفون والأدباء من مصر والوطن العربي.
وهناك ألوان أدبية أخرى تبحث في الذات وتكشف عن حياة كاتبها، وتتتبع احاسيسه وأعماله وما صادفه من احداث ومشاهد في مرحلة من مراحل حياته مثل: أدب الرحلات وأدب الرسائل و أدب النصائح والوصايا , وقد تحدث عنها بعض الباحثين في فترة مبكرة ضمن أدب السيرة الذاتية، ولكننا نهملها هنا، لأن الفكر النقدي والأدبي قد تجاوز مرحلة الخلط بينها وبين السيرة الذاتية، وأصبح القارئ العربي من الوعي الفني والنقدي بحيث نضع كلاً منها في مكانه المعلوم.
وبعد ان تمايزت الانواع السالفة امامنا واصبحنا نستعلمها لا بصفتها الفاظاً هلامية لا تدل على معنى محدد وواضح، ولا بصفتها مترادفات تتناوب في الدلالة على بعضها بعضاً، او في الدلالة على فن السيرة الذاتية نفسه، ولكن بصفتها انواعاً ادبية تشترك مع فن السيرة الذاتية في بعض خصائصها وتختلف عنها في اخرى، ويقوم اسم كل منها اصطلاحاً على ما وضع له, وان اياً منها لا يصلح ان نطلق عليه مصطلح السيرة الذاتية، لان السيرة الذاتية فيها: معنى الشمول، والامتداد الزماني، والاختصاص بالذات، وكشف معالمها الداخلية، اي :انها اعم واشمل من جميع تلك الانواع.
اما العلاقة بين تلك الانواع وبين السيرة الذاتية، فعلاقة معقدة الى حد كبير كشأن النشاط الانساني عامة، ولكن يمكن اختزال تلك العلاقة في القول: بأن السيرة الذاتية فن اكثر نضجاً ووعياً بالذات من سائر الانواع السابقة، وانها كلها بما فيها السيرة الذاتية اجزاء داخل فرع من فروع الادب يُعنى بالشخصيات الانسانية، ويهتم بالبحث عن الأنا او الذات ليفهمها او ليثري ساحتها، ويثري الانسان بمختلف التجارب والعواطف، او ينبه الناس الى قيمتها وما قدمته من تضحيات وما انجزته من اعمال، او ليراقب حركتها وتموجاتها في الحياة، او ليفعل ذلك كله معاً, وتكون السيرة الذاتية وفق هذا التصور نوعاً أدبياً لها مكانته، ينتمي الى جنس ادبي اشمال يعنى بتصوير الشخصيات الانسانية، وتقديمها في مواضع مختلفة ولاغراض متباينة تلتقي والاغراض العامة للادب الانساني عموماً.
قد تكون هذه الشخصية الانسانية: شخصية تاريخية يكتبها شخص آخر يحرص فيها على الموضوعية والامانة، ويطعِّمها بالخيال والفن فيما لا يفسدها ولا يضيع الحقيقة فيها او يحجبها، ولكن بما يخدمها ويزيد من تعاطفنا معها وشعورنا بها، فهذا هو ادب السيرة الغيرية الفنية, وقد يحرص على الحقيقة العلمية ولكنه يصوغها صياغة ادبية ناصعة البيان، فهذه السيرة غيرية موضوعية ادبية، موضوعية: باعتبار تقيدها بالحقيقة، وادبية: باعتبار الصياغة البيانية، وقد يبحث في ذاته او عن ذاته في هيئة مذكرات ، او ذكريات متناثرة، او مفكرات بآماله واحلامه وانطباعاته، او رحلات تسجل حركاته وتنقلاته في البلاد او مقالة يصف فيها جانباً من نفسه، او يرسمها في فصل، او يتحدث عن تجربة محدودة فكرية او ادبية دون سائر جوانب حياته وقد يدلي لنا باعترافاته بصورة فنية يعلو فيها نبض الصراع، وقد يسجل سيرته برمتها من طفولته حتى وقت الكتابة او زمن قريب منها، وهذه هي ادب السيرة الذاتية, وهذه الانواع جميعاً اعني الاعترافات، الذكريات، الرسم الذاتي، المذكرات، اليوميات، المفكرة، المذكرات المضادة، السيرة الجزئية، السيرة الذاتية,, الخ كلها تندرج ضمن ما يمكن ان نسميه ادب البحث عن الذات، ولكل منحى من تلك المناحي اسم واصطلاح بحسب طبيعته وخصائصه كما بيناه.
وقد يعمد الاديب الى التاريخ فيعتمد عليه في بداية القصة او نهايتها، او في خطوط منها، ثم يلونها بالخيال تلويناً يذهب بهيئتها وشكلها وطعمها، ولايكاد يُبقي منها سوى اسم شخصيتها التاريخية، اما العلاقات والاحداث والتطورات ونفسية البطل ففيها من فكر مؤلفها وخياله اكثر مما فيها من الحقيقة التاريخية والواقعية، وهذا هو ادب القصة او الرواية او المسرحية التاريخي، بحسب الشكل الأدبي الذي يختاره الاديب ويكتب فيه.
وقد يسلط الكاتب الضوء على شخصيته هو فينقلها الينا في عمل قصصي او روائي، ولكنه لا يحرص فيها على الصدق ولا يقيد قلمه بالوقائع ولكن يطلق العنان لقلمه كيف يشاء ليجول بين الواقع وبين الخيال وبين الآمال فيفيد من ملامح عامة في حياته او بيئته التي عاشها في كتابة هذا العمل، ثم ينشىء لنا عملاً متسقاً متكاملاً ظاهره من قبلنا انه قصة حياة، وباطنه فيما بينه وبين نفسه مملوء بالخيالات والافكار والاوهام التي لا اساس لها في الواقع, وهذا هو ما يصطلح عليه الباحثون بأدب الرواية الذاتية أو القصة الذاتية، بحسب طولها او قصرها, وهو يختلف عن السيرة الذاتية في نقاط من اهمها: نسبة الحقيقة الى الخيال ففي السيرة الذاتية يكون الخيال شيئاً مفروضاً فرضاً ربما رغماً عن الكاتب، وقد لا يدرك وجوده، او يدركه ولكنه على كل حال يتعامل معه او هكذا ينبغي بما لا يفسد بداية الحدث ولا نهايته، وانما يعدل نكهة العلاقات وارتباط الاسباب بالمسببات ولكنه لا يتجاوز ذلك لتغيير الواقع.
وقد يستلهم شخصياته من التاريخ ولكنه يوظفها في النص توظيفاً آخر لخدمة فكرة او للتسلل الى غاية، ويتخذ من اسم الشخصية او صفتها التاريخية مفتاحاً يدلف به الى ما يريد، فهذه الشخصية وان كانت ثابتة تاريخياً الا انها تستعمل في هذا المعرض استعمالاً رمزياً وخيالياً ايضاً.
وقد يقتنص الكاتب شخصيةً من الواقع فيعيد تشكيلها ورسمها ثم يبعثها في عمله من جديد مفيداً من سياقاتها في الحياة، ليقدم لنا ادباً روائياً او قصصياً او مسرحياً واقعياً ماتعاً.
وهاتان الصورتان من ادب الشخصيات الخيالي، لكن الاولى شخصيات رمزية، والثانية واقعية.
وتبقى الاجابة عن التساؤل المفترض الذي يبحث عنه القارىء منذ صافحت عيناه هذا المبحث دَيناً في عنق الدراسة لم تؤده الى الان، وقد جاء اوان سداده، فما السيرة الذاتية بتصور الباحث؟ والسيرة الذاتية في اعتقادي:
فعل لغوي نثري استعادي، يقوم به كاتب واقعي، ويركز فيه على وجوده وشخصيته وحياته الخاصة، بشكل مباشر او غير مباشر، متوخياً الحق والصدق، شاملاً جوانب شخصيته المختلفة، متتبعاً خطاً زمنياً ممتداً بين مرحلتين متباعدتين يقع بينهما اغلب حياته، وفي الغالب يكون طرفاه مرحلة الطفولة في البداية ووقتاً يسبق او يزامن مرحلة الكتابة في النهاية.
فكلمة فعل لغوي تخرج ما عداه من الفنون المقصود بها التاريخ للذات او تُسطر ذكراها واثارها، مثل:التصوير الفوتغرافي او التلفزيوني او اعمال النحت، وتفتح لنا العبارة آفاقاً واسعة بشأن اختيار الشكل والاسلوب الفني للسيرة الذاتية.
وكلمة نثري تخرج ما يسمى بالسيرة الشعرية الذاتية لان الشعر غير مهيأ لتقبل الحياة كاملة، وما يطلق عليه السيرة الشعرية لا ينطبق عليها شروط السيرة الذاتية، ولا يمكن ان يستوعبها الشعر الا ان يتخلى عن شرط الشعرية فيه.
وكلمة استعادي يخرج ما خلافه من صور ذاتية ترسم الذات وتبرز ملامح الشخصية، او التحليل والتفسير الجامدين، والمفكرات التي يكثر فيها الاحلام والآمال، وغير ذلك مما لا يبدو فيه تطور للشخصية ولا ثراؤها ولا تواتر الاحداث فيها, وتشير الكلمة الى طبيعة السيرة الذاتية التي لا تقبل كثيراً الاستشراف الزماني والتطلع المسرف الى المستقبل لانها استدعاء فني لحياة واحداث وقعت واعيد تمثيلها على مسرح الحياة من جديد، وليست انشاءً لحياة لم تعرف على ارض الواقع.
اما عبارة: يقوم به كاتب واقعي، ويركز فيه على وجوده وشخصيته، وحياته الخاصة، بشكل مباشر او غير مباشر : فتعني انه يجب ان يكون الكاتب/ الشخص هو البطل والسارد على وجه الحقيقة في ذهن القارىء، سواء كانت الاحالة إليه في السرد بشكل مباشر باستخدام ضمير انا او غير مباشر باستخدام ضمير هو او باستخدام اية طريقة فنية سردية اخرى تحيل الى الكاتب بشكل غير مباشر .
وكلمة واقعي احتراز يخرج السارد الوهمي الذي يتقمص شخصية الراوي والبطل ويحيل اليه السرد بشكل مباشر او غير مباشر في الاعمال الروائية والقصصية التخيلية.
وعبارة ويركز فيه على وجوده وشخصيته وحياته الخاصة هذه العبارة تخرج الاشكال الاخرى المشابهة ك: المذكرات، الذكريات وغيرهما مما يركز في سرده على تقديم العالم الخارجي، وينجذب الى احداث الحياة الروتينية وتصوير الشخصيات والوقائع والاحداث والخبرات, ولا يحفل تقديم العالم الداخلي للشخصية فينسى شخصية الكاتب ويهمل استكناه جوانبها واظهارها، والافراج عن خصوصياتها الانسانية, ولكن هذا لا يمنع ان يحفل الكاتب بشيء من تصوير البيئة ويلتفت الى العالم المحيط به من شخصيات ووقائع واحداث ومشاهد، فان لكل ذلك اثراً مباشراً او غير مباشر على الشخصية وعلى القارىء المتابع لها، فكل منا ابن بيئته وما ثَقِف من العلوم والمعارف، ويتعذر علينا ان نفهم انفسنا في غير سياقها التاريخي والاجتماعي، فكيف بنفوس اخرى غريبة عنا تُزف الينا عبر بوابة السيرة لاول مرة؟
وتفتح عبارة بشكل مباشر او غير مباشر آفاقاً واسعة امام اسلوب السرد ووجهة النظر في تقديم تلك الحياة.
وعبارة متوخياً الحق والصدق تأكيد على هذا الجانب بصفته ركناً مهماً لابد من استحضاره ضمن التعريف، لان أسمى ما في السيرة الذاتية انها تكتب ليعرف بها الانسان نفسه، ويزداد اليها قرباً ويعرضها على القراء بكل حياد وموضوعية، وهذه العبارة تخرج الرواية والقصة الذاتيتين لانهما تهملان الحقيقة وتهتمان بالفن والابداع الادبي، الذي يعتمد على الخيال اكثر من غيره، مما يجعلهما غير مؤتمنتين على رواية احداثها وقص معالم كفاحها.
وعبارة شاملاً جوانب الشخصية المختلفة تأكيد على ان من ابرز عناصر السيرة الذاتية انها تهدف الى ابراز الذات، وابرازها لا يكون بابراز جانب منها دون غيره مهما عظم شأنه، وتجاهل جوانب اخرى لا يرى اهميتها الكاتب او تغييبها اثناء الكتابة لسبب او لآخر, فقد يكون لهذه الجوانب العادية او التافهة احياناً اثرها الواضح على جوانب اخرى متميزة في تجربة الكاتب الذاتية، وقد تكون بمثابة القاعدة التي ادت به الى النجاح.
وبدون اشتمال السيرة الذاتية على الجوانب المختلفة للشخصية تفقد السيرة مقوماً من ابرز مقوماتها في اعتقاد الباحث, وكل مالم يتحقق فيه الشمول فما هو بسيرة ذاتية كاملة بل هو سيرة ذاتية ناقصة كما سبقت الاشارة اليه عند حديثنا عن السيرة الجزئية والجانبية.
وعبارة الامتداد الزمني ضرورية جداً لايجاد فضاء مناسب تتطور فيه الشخصية على مهل، فيسهل على القارىء مراقبتها ويحس بأثر الاحداث فيها، وبردود الافعال التي تنبعث عنها، وهي تتقلب امام ناظريه وتنمو بتؤدة، وهي تجالد في سبيل عيشها وقيمها، فيعرف سبب عنفها وحزنها، او تنازلها وتطامنها، او كفاحها ونزاهتها وجرأتها، ويربط الموقف والصفة بالسبب الضارب بجذوره في اعماق الطفولة واحداثها.
وما الانسان الا سلسلة من التطورات كل حلقة مرتبطة بما قبلها وما بعدها، ولابد من هذه المساحة الزمنية لتبدو فيه الشخصية وتظهر ظهوراً واضحاً يمكن القارىء من رؤيتها والاحساس بها.
والمساحة الزمنية تمنحنا بعداً مكانياً متجدداً، وللمكان اثره الواضح على الشخصية وسلوكها ومظهرها ولا يقل عن اي اثر من الاثار التي تتركها عوامل اخرى كالتربية والوراثة, والانسان على كل حال سلسلة من التطورات التي لا تنتهي الا بالممات تنداح حياته عبر لجج الثواني والدقائق والساعات والايام والشهور والسنوات، حلقة وراء حلقة، ووحدة وراء وحدة، وكل منها تأخذ برقبة اختها فهي دائماً مشدودة اليها، ومرتبطة بما قبلها وما بعدها، ولا يمكن ان تكون الحلقة الواحدة معبرة عن جميع الحلقات او قائمة مقامها الا اذا انزلنا الجزء مكان الكل، وفي هذا ما فيه من التجوز والتسمح.
ان السيرة الذاتية كما يقال عليها من اسمها شاهد ودليل، فان كلمة السيرة كما اشرنا من قبل فيها معنى المسير والتنقل وقطع المسافات وتتبع الخطى التي قطعتها الشخصية في بيداء الحياة، انه خط طويل ذو مراحل واستراحات وتموجات في السهول والوهاد والجبال والتلال، ولا يمكن معرفة حقيقة هذه المرحلة الا بالمرور على جميع المراحل مرحلة مرحلة متزدوين بخبرات الرحالة القديم الذي نقص اثره ونقرأ سيرته.
واشتراط الامتداد الزمني ينفي عنها اليوميات و الرسم الذاتي و المفكرات وغيرها مما لا يتوفر لها التطور الزمني ولا تغطي مرحلة متطاولة من حياة الكاتب.
وبعد، فهذا هو الضابط الذي يراه الباحث ويرجحه حدَّا للسيرة الذاتية، ولا غضاضة بعد ذلك في ان تفيد السيرة من جميع الاشكال والانواع الادبية، فتأخذ عن القصة والرواية اساليبها في السرد والتصوير وسوق الاحداث، وعن المقابة طريقتها في العرض والتحليل والتفسير، او هيكلها العام وطريقة بنائها ما دام الضابط العام متحققاً للسيرة الذاتية، فالفنون الادبية تتراسل دائماً وتتشابه ايضاًويفيد بعضها من بعض، وليس التراسل وقفاً على الفنون النثرية فحسب بل اننا نجد الشعر برغم ما يفصله عن النثر يفيد من القصة، فيأخذ منها: الحكي والقص والحوار والعقدة ثم الانفراج والحل وبناء الشخصيات ورسمها، ويأخذ من: المقالة الافكار والجدل والعرض الفلسفي والتفسير والتحليل والتعليل التي هي من خصائص النثر الذي يخاطب العقل, كما يأخذ النثر من الشعر: خطابه الوجداني فتأتي القطعة النثرية مليئة بعذابات الشعر وتنهدات الشعراء، وتسري خلالها العاطفة فينتفض القارىء حين يصافح بصره صفحتها كعصفور بلله قطر السماء، وكأنه يتجاوب وجدانياً مع قصيدة من بنات الشعر.
وقد يكون التسلسل المطرد في تتبع الاحداث وتفسيرها المنطقي على نسق من الوحدة المتصلة الحلقات البعيدة عن الفجوات اكثر انواع السيرة الذاتية حسناً، ولكن لا يحق لنا ان نصادر حرية الاديب، ولا ان نمنع ان يكون لكل كاتب منحاه في تسجيل حياته كما يشاء والناقد الادبي يستطيع الموازنة بين شتى الاتجاهات التعبيرية، ليفضل اتجاهاً على اتجاه ولكن هذا التفضيل لا يمنع ان يكون هذا المرجوح ضرباً من ضروب التعبير الادبي عن النفس، وان كان هناك ما يرجحه، فلكل مكانه المعلوم وقيمته الادبية.
ان التحديد هنا لا يتجنى على حرية اديب ولا يُلغي حسه ولا يغيب مسألة التفرد في العمل الادبي عن عينيه، فالعمل الادبي انعكاس طبيعي ونتيجة متوقعة لرغبات وحاجات وقدرات وبواعث ودوافع تختلف باختلاف الكتّاب، لان لكل انسان خصوصيته، وهذه الخصوصية لا يجب ان تذوب وسط الحدود والمواضعات، بل يجب ان تبقى عنصراً مميزاً للاعمال، وميداناً للتنافس الشريف الذي لا يحجر فيه على التجريب والتجديد والتفرد، الذي يغني الوجدان بألوان التجارب المتجددة, انظر الشكل المرفق الذي يبيّن العلاقة بين السيرة الذاتية وبين أدب البحث عن الذات وأدب البحث عن الآخر .
يجعل الباحثون السيرة بقسميها غيرية ذاتية جنساً أدبياً مستقلاً مثله مثل القصة والمسرحية والمقالة والخطبة.
ولا بأس بذلك شريطة ان نميز بين السيرة كمصطلح يدل على الجنس وبين السيرة التي تستعمل للدلالة على السيرة الغيرية، والباحث ينظر الى السيرة وينصفها وفق تصور اشمل باعتبارها لوناً أدبياً من الوان الادب، ينتمي الى جنس أدبياً اوسع يعنى بالشخصيات الانسانية وتصويرها وتحليلها وتفسير ما يصدر عنها من الافعال والاقوال في صراعها من اجل حياتها وحياة الآخرين وكفاحها من اجل مبادئها وقيمها وآمالها، ولكن السيرة الذاتية والغيرية ينفردان عن بقية ما يتفرع عن ادب الشخصيات الانسانية ك: القصص، الروايات التاريخية، وما يسمى بروايات السيرة الذاتية وأدب الشخصية الوهمية والرمزية والواقعية الخيالي بأنهما يقومان على الحقيقة التاريخية قديمة او حديثة او معاصرة، ويعتمدان ايضاً على الصدق, وما يداخلهما من خيال او وهم، فانما هو بمثابة النكهة او الرائحة التي تحسِّن وتطيّب ولا تفسد، او بمثابة الخيوط التي تسد الفجوات بين نسج الحقيقة الممتد الذي ينتظم العمل من اوله الى آخره.
*محاضر كلية المعلمين أبها
رجوعأعلى الصفحة

الاولــى

محليــات

مقـالات

المجتمـع

الفنيــة

الثقافية

الاقتصادية

القرية الالكترونية

متابعة

منوعـات

عزيزتـي الجزيرة

الريـاضيـة

الطبية

تحقيقات

مدارات شعبية

وطن ومواطن

العالم اليوم

الاخيــرة

الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved