استكمالا لما قد بدأته في الحلقة السابقة عن أصل اللغة أهي إلهام أم تواضع,, يقول أبو الفتح عثمان ابن جنى في الخصائص هذا موضع محوج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن اصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي ولا توقيف, إلا أن أبا علي رحمه الله يقصد أبا علي الفارس، الحسن بن أحمد ابن عبدالغفار وهو شيخه وكان يستشهد بأقواله وآرائه كثيراً قال لي يوما هي من عند الله واحتج بقوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) ويستند إلى انها توقيفية في قوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها) وذلك يستدعي كون البواقي توقيفية وإلى قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) وقال إمام الحرمين عبدالملك بن عبدالله بن يوسف الجويني في البرهان اختلف أرباب الأصول في مأخذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيف من الله تعالى وصار صائرون إلى انها تثبت اصطلاحا وتواطؤا وذهب الاستاذ أبو اسحق في طائفة من الأصحاب الى ان القدر الذي يفهم منه قصد التواطؤ لابد أن يفرض فيه التوقيف, والمختار عندنا ان العقل يجوز ذلك كله فأما تجويز التوقيف فلا حاجة الى تكلف دليل فيه ومعناه ان يثبت الله تعالى في الصدور علوما بديهية بصيغ مخصوصة بمعاني فتتبين العقلاء الصيغ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها ان يلقوا وضع الصيغ على حكم الارادة والاختيار، واما الدليل على تجويز وقوعها اصطلاحا فهو انه لا يبعد ان يحرك الله تعالى نفوس العقلاء لذلك، ويعلم بعضهم مراد بعض ثم ينشئون على اختيارهم صيغا وتقترن بما يريدون أحوال لهم واشارات إلى مسميات وهذا غير مستنكر انتهى.
ولم يكن هدفي من التعريج على هذا الباب وأنا أتحدث عن الشعر والشاعر إلا مناقضة ومخالفة من يدعي القول ان الشعر محاكاة وتقليد يأخذه الخلف من السلف, فأردت أن اثبت وأؤيد أن الشعر تماما كاللغة توقيف وإلهام وابتكار وابداع، وأنه ملكة وموهبة في الطبع والفطرة يختص بها الخالق بعض عباده، وانه ليس كل انسان يمكنه ان يقلد الشعراء ويحذو حذوهم ليصبح شاعراً, يتحدث الامام عبدالقاهر الجرجاني عن الرونق والطلاوة والحسن والحلاوة في الشعر والشاعر فيقول في دلائل الاعجاز في علم البيان ومن الشعر,, ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعه ويأتيك منه ما يملأ العين غرابة حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل من الفضل وموضعه من الحذق وتشهد له بفضل المنة وطول الباع وحتى تعلم إن لم تعلم القائل أنه من قبل شاعر فحل وانه خرج من تحت يد صناع وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر والكلام الفاخر والنمط العالي الشريف والذي لا تجده إلا في شعر الفحول البزل ثم المطبوعين الذين يلهمون القول إلهاما وقد فسر الامام محمد عبده كلمة المطبوعين فقال: (هم الذين طبعهم الله على فطرة خاصة بهذا النحو من المزية) وفي الصناعتين يقول ابو هلال العسكري رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه ويستطرد ولا خير في المعاني إذا استكرهت قهراً والألفاظ إذا اجترت قسرا، ولهذا قيل: أجود الكلام السهل الممتنع وأول آلات البلاغة جودة القريحة وطلاقة اللسان وذلك من فعل الله تعالى لا يقدر العبد على اكتسابه لنفسه واجتلابه لها .
ويتحدث القاضي الجرجاني في الوساطة عن الشعر فيقول: ان الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له ويستطرد والعلة فيها ان المطبوع الذكي لا يمكنه تناول ألفاظ العرب إلا رواية ولا طريق للرواية إلا السمع وملاك الرواية الحفظ وكانت العرب تروي وتحفظ غير انها كانت بالطبع أشد ثقة وإليه اكثر استئناسا وتجد فيها الشاعر أشعر من الشاعر والخطيب أبلغ من الخطيب، فهل ذلك إلا من جهة الطبع والذكاء وحدة القريحة والفطنة ويستطرد فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع وترى رقة الشعر اكثر ما تأتيك من قبل العاشق المتيم والغزل المتهالك فإن اتفقت لك الدماثة والصبابة وانضاف الطبع إلى الغزل فقد جمعت لك الرقة من اطرافها وفي مفارقة الطبع قلة الحلاوة وذهاب الرونق وإخلاق الديباجه وهكذا فالشاعر لابد ان يولد شاعرا بطبعه وفطرته ثم تتفتق هذه الملكة وتظهر من خلال الانفعال بالأحداث والعواطف الانسانية وظروف الحياة التي تفجر الطاقات والملكات في ذات الانسان فيعبر عن انفعاله شعرا أو بأي أداة أخرى من أدوات التعبير وفنونه كالموسيقى والرواية والخطابة والرسم والنحت وغير ذلك من أدوات التعبير عن الذات.
وكما أوردت ايضا في اكثر من مناسبة,, أن الشعر شيء يختلف تماما عما رسمه لنا اسلافنا من انه كل كلام موزون مقفى له معنى لان هناك من النظم البارد الشيء الكثير مما تنطبق عليه هذه القاعدة,, وإذا قلت مثلا معابثا او ممازحا:
تراه إذا تربع للطعام صموت لا يشارك في الكلام |
فهذا بيت من بحر الوافر موزون مقفى وله معنى وان كان المعنى تافها إلا انه من حيث هو تنطبق عليه القاعدة التي خلّفها لنا اسلافنا كتعريف للشعر,, فهل يمكن ان ندخل شيئا كهذا الهذر في دائرة الشعر، هذه الكلمة الكبيرة الرائعة التي توحي بكل ما هو جميل ورائع وبديع,, لا أتصور أبداً أن العقل يوافقنا على ان نطبق كلمة شعر على هذه التوافه لكن لو قلت لكم:
يا سيدي أين الطريق تشعبت سبل الضلال وغرني الخلطاء نفسي تتوق اليك في بأسائها فالى رحابك يلجأ البؤساء أدنو فتبعدني الذنوب وليس لي إلا رضاك وسيلة ورجاء يا سيدي أنت الملاذ ليائس ضاقت على سعة به الا رجاء |
أو قلت لكم:
شلال ضوء,, غيمة من نرجس هطلت على عينيَّ من عينيك فوقفت مشدوها وقلبي خافق ويداي ترتعشان بين يديك وتحيرت عيني فكلك فتنة من فرعك الداجي إلى قدميك |
لاشك ان شعراً كهذا سوف يلامس احساسكم ويحرك اشجانكم ومشاعركم,, لهذا فلا أعتقد انه ينبغي ان نقول ان الشعر هو كل كلام موزون مقفى له معنى ففي ذلك ظلم للشعر بل علينا ان نضيف على هذه العبارة معنى ساميا وانفعالا عاطفيا رفيعا راقيا ,, اما هذا الهذر فيمكن ان نسميه كما كان يسمى في بعض البلدان العربية (زجلاً) فذلك أوقع وأولى به خاصة,, وأننا أصبحنا نسمع هذه الايام ونقرأ ولا نعرف كيف نقرأ من هذر عامي لا يمكن ان يكتب لافتقاره إلى أبسط أسس الكتابة من لغة صحيحة بمفرداتها ونحوها وصرفها ويطلقون عليه مسمى الشعر ومع أني قلت في اكثر من مناسبة أني لست ضد العامي فهو فن تقليدي شعبي يطرب محبيه ولكني ضد كتابته وأوضحت ان هذا الشيء أيا كان يسمع ولا يقرأ يلقى ولا يكتب ومع ذلك فهو مفروض عليك في جميع الصحف رضيت ام أبيت والسبب ان كلمة شاعر كلمة ساحرة لها رنين ووقع في النفوس والكل يريد ان يكون شاعراً وقد كان لهم ما أرادوا ولكن على حساب اللغة والوطن.
ما علينا ولنعد الآن إلى الشعر,, لقد ذكرت في الحلقة السابقة ان شعراً بلا حس ولا عاطفة ولا انفعال ليس شعراً بل نظما بارداً لا يمكن بأي حال ان يدخل في ملكوت الشعر,, لان من اول أساسيات الشعر ان يحرك إحساس المتلقي ويثير انفعاله وعواطفه ويهزه من اعماقه,, والشعر ان لم يكن وليد حس ورد فعل لحدث مثير وانفعال اكثر إثارة فهو ليس شعرا ولم أجد من بين كل النقاد الذين خلّفتهم لنا قوميتنا العربية من ادرك هذا,, وتحدث عنه من خلال تجربته غير,, حازم القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) الذي مر على ذلك مرور الكرام فقال: يجب على من أراد جودة التصرف في المعاني وحسن المذهب في اجتلابها والحذق بتأليف بعضها الى بعض ان يعرف ان للشعراء اغراضاً أوَّل,, هي (الباعثة على قول الشعر) وهي امور تحدث عنها تأثيرات وانفعالات للنفوس, لكون تلك الامور مما يناسبها ويبسطها او ينافرها ويقبضها او لاجتماع البسط والقبض والمناسبة والمنافرة في الامر من وجهين ويقول ايضا فمعاني الشعر على هذا التقسيم ترجع إلى وصف احوال الامور (المحركة) إلى القول وإلى وصف احوال المتحركين لها او إلى وصف احوال المحركات والمحركين معا,, وأحسن القول وأكمله ما اجتمع فيه وصف الحالين وهو ايضا اول من تحدث عن دور المتلقي ومدى رد فعل الشعر عليه في المنهج2 معلم ج , ولحاظم القرطاجني ومن المنهاج نفسه صفحة 10 وذلك هو الذي ران على قلوب شعراء المشرق المتأخرين وأعمى بصائرهم عن حقيقة الشعر منذ مائتي سنة,, فخرجوا بذلك عن مهيع الشعر ودخلوا في محض التكلم هذا على كثرة المبدعين المتقدمين في الرعيل الاول من قدمائهم والحلبة السابقة زمانا وإحسانا منهم والسؤال الذي يفرض نفسه عند الحديث عن الشعر والشاعر هو: هل النفس الشاعرة وقف على الشعراء فقط؟ وللاجابة ينبغي تعريف الشاعرية او الذات الشاعرة والشعر بوجه عام,, ففي لسان العرب قال الزهري: الشعر,, القريض المحدود بعلامات لا يتجاوزها والجمع أشعار وقائله شاعر لانه يشعر مالا يشعر غيره أي يعلم، وسمي شاعراً لفطنته إذاً ما هي الشمائل والصفات والسجايا التي تتألف منها الذات الشاعرة؟ إنها الحس الرقيق والشفافية والفطنة وخصوبة الخيال ورقة الشعور مجتمعة وهي تعلو وتهبط وعلى قدر علوها في الانسان تزيد شاعريته وعلى قدر هبوطها في ذاته تخف فيه الشاعرية.
ونعود الآن إلى السؤال الاول وهو هل الشاعرية او الذات الشاعرة وقف على الشعراء؟ وفي نظري ان الذات الشاعرة سمة لكل انسان مبدع مبتكر تواق بفطرته وطبعه الى الوصول بموهبته وملكته أيا كانت إلى اقصى مداها، فإن كانت ملكته وموهبته تحققت في الشعر فإنه يصل بها إلى غايتها وإذا جاءت موهبته في الكتابة او القصة او الموسيقى او الرسم او النحت او الغناء او التمثيل او الخطابة او الامامة او تلاوة وترتيل القرآن فإنه في أي من هذه الحقول تراه مميزا مطورا مبتكرا بخلاف الانسان العادي الذي لا يملك هذه السمات والشمائل,, أما كيف خلصت إلى هذه النتائج فذلك طريق طويل وأعوام وأعوام من التفكير وإجهاد العقل وأول ما أشعل ذهني في بداياتي هو هذا السؤال: هي يرى الشاعر الحق,, المناظر الجمالية الطبيعية والجمال الحي البشري والامور الفكرية العميقة واليومية العادية بذات الاسلوب والرؤية والانفعال التي يراها بها الانسان السوي العادي,, وإذا كان ذلك كذلك,, فلم يهتز الشاعر بالمنظر أيا كان ولماذا ينفعل بالحدث بسرعة وبعمق,, ولماذا يعبر عما رأى وأحس بيسر وسهولة,, بينما قد لا يحس او يحس الآخرون بالمنظر وجمالياته ولكن بدرجة متفاوتة لا تعطيهم الانفعال الكافي للتمكن ان أرادوا من التعبير عنه تعبيرا يصل إلى عمق المتلقي وينقله فعلا إلى ذات الرؤية وعمق الحدث كما هو شأن الشاعر الذي ربما نقل لك الحدث وربما ابدع وزاد في تصويره بشكل يفوق ويزيد عن واقعه وحقيقته وربما غلفه بخياله وألبسه هالة من الجمال والحلاوة والطلاوة حتى ان المتلقي يراه حينئذ بخياله وقد ارتدى جمالا وبهاء تصويريا وتعبيريا اكثر من واقعه وأجمل مما هو عليه فعلا.
هل ثم شيء في فطرة الشاعر يختلف عن الانسان العادي,, وهل لهذا ارتباط بموهبة وملكة في الشاعر.
كل هذه الاسئلة كانت تحيرني وتستثيرني وأحاول ان اجد لها اجابات,, فأربط بين الأفكار والأحداث وأحاول ان استخلص شيئا,, وأتساءل في سري لماذا عندما نقرأ نونية ابن زيدون نهتز وتتسارع دقات قلوبنا ويعترينا حزن كبير لا ندري سببه وهذه بعض أبياتها:
من مبلغُ الملبسينا بانتزاحهمو حزنا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا أن الزمان الذي مازال يضحكنا أنساً بقربهمو قد عاد يبكينا غيظ العدا من تساقينا الهوى، فدَعوا بأن نَغَصّ فقال الدهرُ آمينا فانحلَّ ما كان معقوداً بأنفسنا وانبتَّ ما كان موصولا بأيدينا وقد نكون وما يخشى تفرُّقنا فاليوم نحنُ وما يرجى تلاقينا نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا لا تحسبوا نأيكم عنا يغيِّرنا إن طالما غيَّر النأي المحبينا والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً منكم، ولا انصرفت عنكم أمانينا ربيبُ مُلك كأنَّ الله أنشأه مسكاً، وقدّر إنشاء الورى طينا لسنا نسميك إجلالاً وتكرمة وقدرُك المعتلى عن ذاك يغنينا كأننا لم نبت والوصلُ ثالثنا والسعد قد غضَّ من أجفان واشينا دومي على العهد - ما دمنا - محافظةً فالحرُّ من دان إنصافاً كما دينا فما استعضنا خليلاً منك يحبسنا ولا استفدنا حبيباً عنك يثنينا أولي وفاءً وان لم تبذلي صِلة فالذكرُ يقنعنا، والطيفُ يكفينا |
وكذلك لماذا عندما نقرأ قصيدة الشابي صلوات ,, نطير فوق السحاب بأفئدتنا ونحلق بعواطفنا في ملكوت الحب والسحر والجمال والبراءة الأسطورية:
عذبة أنتِ، كالطفولة، كالأح لامِ كاللحنِ، كالصباحِ الجديد أنتِ,, ما أنتِ؟ أنت رسمٌ جميلُ عبقريُّ من فن هذا الوجودِ أنتِ,, ما أنتِ؟ أنت فجر من السح رِ، تجلَّي لقلبي المعمود كلما أبصرتك عيناي تمشي نَ بخطوٍ مُوقعٍ كالنشيد خفق القلب للحياة، ورف الزَّ هرُ في حقل عمريَ المجرود أنت تحيينَ في فؤادي ما قد مات في أمسي السعيد الفقيد وتشيدين في خرائب روحي ما تلاشى في عهديَ المجدودِ فيك شبَّ الشباب وشَّحهُ السِّحرُ وشدوُ الهوى وعطر الورد فتمايلتِ في الوجود كلحنٍ عبقري الخيال حلو النشيد أنت,, أنت الحياة في رقة الفج رِ وفي رونق الربيع الوليد أنت فوق الخيال والشعر والفنِّ وفوق النُّهى وفوق الحدود فدعيني أعيش في ظلك العذ ب وفي قربِ حسنك المشهود |
ولماذا نبكي مع ابن زريق في ندمه وحسرته وقد ترك زوجته المحبة في بغداد وكم تشبثت به لكيلا يرحل ويتركها ولكنه مضى إلى غربته فأضحى في الأندلس وحيداً مبتئسا فقيراً معدماً يائسا فنتجاوب معه في بكائيته التي تقول:
لا تعذليه، فإن العذل يولعه قد قلتِ حقاً، ولكن ليس يسمعه استودعُ الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه ودَّعته وبودِّي لو يودِّعني صفو الحياة، وأني لا أودّعه وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحىً وأدمعي مستهلات وأدمعه كم قائل لي: ذقت البين، قلت له: الذنبُ والله ذنبي لست أدفعه إني لاقطع أيامي,, وانفدها بحسرة منه في قلبي تقطعه بمن إذا هجع النوَّام بتُّ له بلوعةٍ منه ليلى، لست أهجعه لا يطمئن لجنبي مضجعٌ ، وكذا لا يطمئن له مذ بِنتُ مضجعه ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني به، ولا أن بيَ الأيام تفجعه قد كنت من ريب دهري جازعا فرقاً فلم أوقَّ الذي قد كنت أجزعه بالله يا منزل العيش الذي درَست آثاره، وعفَت مذ بنتُ أربعه هل الزمان مُعيد فيك لذَّتنا أم الليالي التي أمضته تُرجعه لأصبرنَّ لدهرٍ لا يمتِّعني به، ولا بيَ في حال يمتعه عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا جسمي، ستجمعني يوماً وتجمعه |
ويتسارع نبض قلوبنا ونحن نقرأ لجميل بثينة أبياته:
لقد خفت ان يغتالني الموت عنوةً وفي النفس حاجات إليك كما هيا وإني لتثنيني الحفيظة، كلما لقيتك يوما، أن أبثَّكِ ما بيا |
أو قوله:
وأفنيت عمري بانتظاري وعدها وأبليت فيها الدهر وهو جديد لكل حديث عندهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد علقت الهوى منها وليداً، فلم يزل إلى اليوم ينمي حبها,, ويزيد |
ويأخذنا المتنبي في ميميته وهو في أوج ألمه وحزنه وعتبه على سيف الدولة فيهزنا من أعماقنا ويشركنا معه في حزنه وألمه,.
واحر قلباه من قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم مالي اكتم حبا قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم ياأعدل الناس الا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بانني خير من تسعى به قدم أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم يامن يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم ان كان سركم ماقال حاسدنا فما لجرح إذا ارضاكم ألم إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ان لا تفارقهم فالراحلون هم |
أو داليته وهو في اوج غضبه وسخطه على كافور:
عيد باية حال عدت ياعيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد أما الاحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيدا دونها بيد اصخرة أنا مالي لا تحركني هذي المدام ولا هذي الاغاريد ماذا لقيت من الدنيا واعجبه أني بما أنا شاك منه محسود صار الخصيّ إمام الآبقين بها فالحر مستعبد والعبد معبود لا تشتر العبد الا والعصا معه ان العبيد لانجاس منا كيد |
بينما هناك قصائد وأبيات تجعلني أتعجب من وجودها في ديوان هذا العبقري لانها لا رونق ولا ماء فيها ولا تحرك شعرة فينا فلماذا ومالنا ونحن نقرأ هذه الأيام عشرات القصائد فلا نهتز ولا ننفعل ولا نحس بها فما هو السر وأين يكمن الجاذب الذي يجذبنا إلى هذه القصائد ويبعدنا عن تلك بقلوبنا وعقولنا,.
ولماذا يأخذنا الحنين واللوعة ويسحرنا الشجن ونحن نستمع إلى صوت أم كلثوم أو فيروز أو عبدالحليم أو عبدالوهاب أو غيرهم من القمم وننتقل إلى عالم من السحر والسمو والشجن والروعة بينما نسمع اليوم عشرات المطربين والمطربات فنفتقد ذلك السحر وذلك الشجن وذلك السمو والعالم الأسطوري الساحر من الروعة والجمال الذي كنا نحسه بعوطفنا وتستمتع به قلوبنا فلا نجده اليوم.
ولماذا نقف مصلوبين أمام لوحة لمنظر الغروب لفنان عبقري فتسحرنا اكثر مما يسحرنا المنظر ذاته لو رأيناه على الطبيعة أمامنا ونرى عشرات اللوحات هنا وهناك فلا نعبأ بها ولا تستلفت ذائقتنا,.
ولماذا إذا حرك الحفناوي رحمه الله أوتار كمانه أخذنا معه فلا نريده أن يتوقف ونسرح بعيداً بعيداً مع أحلامنا ومشاعرنا التي تحركت,, مع أنات الكمان ونشيج الوتر,.
ولماذا عندما يقرأ الشيخ بصفر أو الشيخ سهل يس أو الشيخ عبدالباسط أو بعض أئمة الحرمين الشريفين آيات من الذكر الحكيم في تبتل وانصهار في التلاوة يرتفع النشيج في المسجد وتختلط الدموع بالآهات فلا يملك الشيخ نفسه حتى يشارك المصلين الدموع والنشيج,, وعشرات الأئمة يقرأون فلا يصلون بأسلوبهم الخالي من الحس والخشوع إلى اعماقنا ولا يحركون أحاسيسنا ولا يستقطبون خشوعنا وانبهارنا واستغراقنا في التلاوة وتدبر معانيها والانفعال بها والارتياح والاندماج في ملكوتها لماذا؟ لماذا,,؟
أسئلة كثيرة شغلتني,, وأجهدت فكري وكان لابد من الاهتداء الى الرابط الذي يربط بينها,, ولابد من وجود التفسير المنطقي السليم الذي يجعلنا ندرك أبعادها.
وكما نعلم فان البشر متفاوتون في كل شيء, هم أشبه بالكباري هناك كوبري صغير حمولته طنان وهناك كوبري كبير حمولته 500 طن فاذا مرت على الكوبري الصغير مركبة حمولتها عشرون طناً سقط الكوبري وتحطم,, بينما إذا مرت على الكوبري الآخر تمر مر الكرام ولا تترك أي تأثير عليه,, بمعنى آخر أن الطاقات والمواهب والتفكير والأحاسيس والمشاعر تختلف قوة وضعفا من شخص لآخر,, فهذا يهتز لأقل شيء وذلك لا تهزه العواصف والأعاصير وهكذا والمعروف ان السجايا التي تميز كل أصحاب الأداء الجميل في الشعر والأدب والفن بكل أشكاله هي رهافة الحس وصدق العاطفة وتوهجها,, ولن تجد شاعراً حقيقيا على الاطلاق بليد الحس ولن تجد فنانا أو انسانا مبدعا ناضجا متبلد الاحساس,, إذاً فنقطة الارتكاز والانطلاق تبدأ من الحس فعلى قدر شفافية الانسان ورهافة حسه تكون دقة إحساسه بما يراه أو يقرأه وقوة انفعاله به لكن,, هل كل انسان مرهف الحس متوقد العاطفة شاعر؟ لا طبعا ولكنه قد يكون نواة إنسان مبدع مبتكر متميز إذا استطاع أن يكتشف نفسه ويصل إلى معرفة الأداة التي تتفق وموهبته وملكته والتي يمكنه من خلالها أن يعبر عن ذاته وقد يكون الشعر هو تلك الأداة أو قد يكون الرسم وقد تكون الموسيقى أو قد تكون الرواية أو الخطابة وهكذا وبعد ذلك يأتي دور بيئته التي يعيش فيها فهي التي تكيف وتبلور شخصيته.
قد يقول قائل اليس هذا هو نفسه المحاكاة التقليد الذي حاولت نفيه,, وأرد ان ما حاولت نفيه في الجزء الأول من بحثي هو ان اهتداء الانسان الى اللغة والتعبير عن نفسه ليس بالتقليد ولكن بالفطرة وقد أيدت ذلك بنظرية تشومسكي التي أثبتت وجود خلية في ذهن الانسان هي التي تهديه إلى النطق والتعبير عن نفسه,, ولا شك ان للبيئة التي ينشأ بها الفرد تأثيراً كبيراً عليه,, فأنت لا تجد طفلا عربيا نشأ في بيئة عربية محضة نقية يحاول التعبير عن ذاته بالفرنسية مثلاً فهو لا يعرفها ولو وجد عشرة أشخاص في بيئة شعراء ولا يوجد في دواخلهم وشمائلهم سمات الشاعرية التي ذكرتها وهي رهافة الحس وشفافية العاطفة وتوهجها وملكة التعبير في الطبع والفطرة فانهم لن يصبحوا شعراء ولا متميزين في أي شيء مهما حاولوا التقليد وان قالوا شعراً فانه النظم البارد الذي يفتقر الى الحس والروح وذلك ايضا ينطبق على كل الفنون فالمطرب الذي يملك الحس يؤدي اغنيته بحس وشفافية واستغراق في الكلمات والمعاني بشكل تلقائي يأخذك معه فتجد نفسك تنفعل بانفعاله تحزن لحزنه وتفرح لفرحه وتطرب لطربه,, والرسام كذلك يضع حسه ويبث نفسه في لوحته فتبدو رائعة تنطق بالحس والحيوية وتأخذك روعتها حتى وان كانت من الفن الحديث,, وهكذا وربما رد عليّ البعض بقوله إذاً لماذا يكون للبيئة دور في تكوين وبلورة اتجاهه واحاسيسه أليس هذا دليلاً على تقليده لمن حوله في بيئته والجواب,, ليس ذلك كذلك,, لكن لو ولد ووجد في بيئة شعر فان ملكته سوف تتفتق وتنطلق فيما يراه ويسمعه من حوله واذا نشأ في وسط موسيقي فان ملكته تهديه إلى التميز في الموسيقى واذا ولد في جو ديني تبتلي حفظ القرآن وتلاه بحس وتدبر وانفعال بمعانيه إلى درجة الخشوع والبكاء لما في آياته من وعد ووعيد,, وهكذا ومجرد وجود الملكة في الطبع وتوفر سمات وسجايا وصفات الشاعرية والابداع والتميز في فطرته يسهل عليه الانطلاق والاندماج والتكيف يقول ارسطو في كتابه الشعر ان الاعاريض اجزاء للاوزان وان ممن كانوا مجبولين عليها منذ البدء قد اخذوا يرقون بها قليلاً قليلاً حتى ولدوا الشعر من الاقاويل المرتجلة ثم انقسم الشعر تبعا لاخلاق الأفراد من قائليه وفي ترجمة ابن سينا تولدت الشاعرية وجعلت تنمو يسيراً يسيراً تابعة للطباع, واكثر تولدها على المطبوعين الذين يرتجلون الشعر طبعا وانبعثت الشاعرية فيهم بحسب غريزة كل واحد منهم وقريحته في خاصته وبحسب خلقه وعادته .
وعندما أرجع بذاكرتي إلى الوراء,, استرجع بعض ما مر علي في هذا السبيل من ذكريات فقد كنت كثير الحب للشعر وقراءته على قلة ما يتواجد في المدرسة أو في الكتب التي في منزلنا، واذكر أني كنت أردد كثيراً بيتاً للمجنون هو:
يقولون ليلى في العراق مريضة فياليتني كنت الطبيب المداويا |
وكنت اشطر كثيرا من القصائد المغناة باسلوب طفولي
سلو قلبي غداة سلا وتابا فهل نسي المطبق والكبابا |
وما أكثر ما شطرت بهذا الأسلوب العفوي الذي كان على الفطرة وبدون سابق علم بالعروض وبدون تكلف والآن عندما أجمع كل هذه الوقائع والأحداث وأحاول أن استنتج منها شيئا أسأل نفسي,, هل لهذه الأشياء والسمات والشمائل أي علاقة أو أي صلة بتكوين شخصيتي وتحولي إلى شاعر أو بتعبير أدق اكتشاف الشاعرية في ذاتي كل الذي أذكره أن هذه العوامل مجتمعة خلقت في ذاتي رغبة أكيدة لكي ابحث عما في دواخلي من قدرات وطاقات وملكات ومواهب استطيع من خلالها ان اجد نفسي وان احقق ذاتي,, لكن كان لابد من حدث لكي يفجر تلك الطاقات والملكات الكامنة في نفسي وكما حدث لعنترة عندما قيل له كر فقال العبد لايحسن الكر بل يحسن الحلب والصر فقال له أبوه كر وأنت حر فأقدم وكر وهزم الأعداء الغزاة واستخلص ابنة عمه عبلة من أيديهم واكتشف في تلك اللحظات نفسه وكوامنها,, اكتشف شجاعته وفروسيته واكتشف شاعريته واكتشف الكثير من طاقاته وقدراته الراكدة في ذاته والتي كانت تنتظر الحدث لترى النور وتطفو على السطح,, وكما حدث لحمزة شحاتة عندما أحب حبه الطفولي البريء فتفجرت شاعريته الخبيئة في اعماقه وقال لنا أعذب قصيدة حب في الشعر الحجازي كله:
بعد صفو الهوى وحسن الوفاق عز حتى السلام عند التلاقي |
رأيتني وقد فجر الحب أعماقي صبيا مراهقا حرم ممن أحب,, تزوجت ملهمته ورحل بها زوجها الى أقاصي البلاد,, فبات عليلاً سقيما مشروخ القلب,, حتى إذا جن الليل وجدتني أقول منفسا عما في خاطري قصيدتي الأولى,, التي كانت تسليني عندما كنت أرددها وما اشبهها بمؤنسة المجنون,, مع الفارق,.
سمراء رقي للعليل الباكي وترفقي بفتى مناه رضاك مانام منذ رآك ليلة عيده وسقته من نبع الهوى عيناك وهو الذي بات الليالي ساهراً يرعى النجوم لعله,, يلقاك |
إن أجمل شيء يمكن أن يحدث للانسان هو أن يهتدي الى نفسه وما فيها من قدرات وملكات ومواهب والأحلى من ذلك أن يحاول أن ينمي ويصقل تلك الملكات والأكثر جمالاً وروعة من كل ذلك أن ينجح في صقل وبلورة تلك الملكات والتميز فيها والتركيز عليها ان استطاع ولم تشغله متاعب الحياة وأعباءها، واعانه الله ولم يعرقله الفارغون والحاقدون عن اثبات وجوده والتميز فيما لديه من مواهب وملكات ومواصلة مشواره,.
ولقد حاولت كثيراً أن أخلص وأصل إلى بعض الاستنتاجات من خلال تجربتي وقد نجحت في الوصول إلى استنتاجات وإن بدت غريبة وعجيبة ومثيرة لحنق وغضب الكثيرين وأدت إلى تعرضي لكثير من النقد الجارح والهجوم الجاهل على شخصي قبل أفكاري,, ومن هذه الاستنتاجات ارائي في الشعر وتقسيمه إلى شعر حي ونظم ميت وهو ما عانيت بسببه الكثير, وعندما كنت اقرأ أفكار وآراء حازم القرطاجني الذي ذكر شيئا عن بواعث الشعر ومسبباته ومحركاته فهو يردد أحوال الأمور المحركة الداعية أو الباعثة إلى قول الشعر وهو مالم يسبقه إليه أحد من النقاد من قبل وفي نظري أن أهم سبب من أسباب توفيقه واهتدائه إلى تلك القوة الخارقة والمحركة لقول الشعر هو أنه شاعر وشاعر مجيد فلاميته الطويلة التي نظمها في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من أروع المدائح,.
ولاشك أن شاعريته هي التي هدته إلى أن الأمور المحركة والباعثة على قول الشعر شيء أساسي في ملكوت الشعر وبدونها لا يكون للشعر قيمة لانه سيكون نظما انشائيا مملا لا رائحة له ولا طعم ولا يحرك مشاعر واحاسيس أحد,, على الاطلاق,.
عندما كانت تمر عليَّ في قراءاتي هذه الامور اعجب أشد العجب من الذين خطأوني عندما جاهرت بآرائي في الشعر فأتساءل ألم يقرأ هؤلاء الاخوة هذا الذي قرأته أنا بعد ان اضطررت إلى الدفاع عن وجهه نظري في ان هناك شعراً يحمل كل معاني وموسيقى الشعر وعذوبته وهناك نظم يفتقر الى روح الشعر والى أبسط مقومات واساسيات الشعر وهي الحس والعاطفة والانفعال الذي يحركه الحدث,, وقد كان ذلك للأسف يؤكد ويثبت لي نظرية محزنة هي أن اكثر نقادنا وكتابنا يكتبون كثيراً ولكنهم وقليلا ونادراً ما يقرأون وليس أدل على ذلك من أن كتّابا بسطاء حاولوا في تلك المعمعة أن يدخلوا باقلامهم الى حافلة النقد,, نقد ماذا ؟ نقد الشعر,, وهو قمة القمم والفنون,, كل ذلك وهم يقفون على الماء,, فلا أرض صلبة تقيهم شر الوقوع في الهفوات والعثرات,, فهم ليسوا شعراء ولا علم لهم بخصوصيات الشعر ومضايقه وعلومه المتعددة فوزن الشعر له علم,, والقافية لها علم محكم,, مستقل بذاته,, والمعاني يتوه ويضل فيها العالم قبل الجاهل فكيف بالله يتصور هؤلاء المساكين أنهم قادرون على نقد الشعر وهم عارون من كل ذلك؟ لا أدري,, لكأنما دخولك الى عالم الادب في هذا البلد الكريم هو ثغرة يتسلل منها كل عاجز لكي يسلخ جلدك,, ولا تستطيع أن ترد عليه,, فان رددت أحرقت نفسك وخالفت شيمتك وان تركته تجرأ وصال وجال,, ولا حول ولا قوة إلا بالله ولعل هؤلاء يتصورون أني لاأعرف مواطن الضعف في شعري خاصة شعر الصبا ,, وذلك جهل منهم فانا أعرف أن هناك في شعري أكثر من مدخل للنقد خاصة في بداياتي,, ولا يخلو الانسان من الهفوات في بداياته,, ولا مجال لتصحيح شيء وقد تسجل وصدرت به كتب وطبعت مرات وتكررت طباعتها مرات عدة,, ولا بأس في ذلك فلا أحد يولد عالما وانما العاقل من يتعلم من أخطائه,, فلا يكررها وعندما أتحدث عن الأخطاء في بدايات شعري فانا لا أقصد أخطاء عروضية لان ذلك ينفي شاعريتي,, وانما أتحدث عن اللغة بنحوها ومجازاتها واستعاراتها,, فانت لا تحسن ذلك إلا بالمران وكثرة القراءة والمتابعة,, واجهاد الفكر والعقل وهناك واقعة أخرى لابد من ذكرها في هذا البحث.
فقد قال اسلافنا كثيراً ورددوا اكثر أن أعذب الشعر اكذبه ولقد قلت مصححا وكررت أن أعذب الشعر أصدقه وليس العكس وقد كنت اعني ما أقول تماما بحكم تجربتي وإحساسي وقد وجدت خلال قراءاتي أن الامام عبدالقاهر الجرجاني جاء على ذكر ذلك في أسرار البلاغةوأما من قال في معارضة هذا القولخير الشعر أصدقه كما قال:
وان أحسن بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا |
فقد يجوز أن يراد به أن الشعر ما دل على حكمة يقبلها العقل وأدب يجب به الفضل، وموعظة تروض جماح الهوى وتبعث على التقوى,, وقد ينحى بها نحو الصدق في مدح الرجال,, فمن قال خيره أصدقه كان ترك الاغراق والمبالغة والتجوز إلى التحقيق والتصحيح,, ومن قالاكذبه ذهب إلى أن الصنعة إنما يمد باعها وينشر شعاعها ويتسع ميدانها حيث يعتمد الاتساع والتخييل ويذهب بالقول مذهب المبالغة والاغراق في المدح والذم انتهى,.
ومع أني لم أذهب إلى هذا المنحى الذي نحى إليه الامام الجرجاني أبداً ولم أقصده وانما اتحدث عن صدق الحس والانفعال بمعنى عدم التصنع في الشعر,, إذا تحدثت عن عاطفة وعبرت عن معاناتك في تلك العاطفة أو ذلك الحب,, ولم يكن هناك حب أو عاطفة أصلا ولكنه تخيل محض وقصة مفتعلة بغرض الدخول إلى شعر النسيب والغزل فانك ولا شك لا تستطيع أن تعبر كما ينبغي,, وكما نوهت فان حازم القرطاجني قد تنبه لذلك فهو يقول:فالذي لا يعلم كذبه من ذات القول، وقد لا يكون طريق عمله من خارج أيضا، هو الاختلاق الامكاني,, وأعني بالاختلاق، ان يدعي الانسان أنه محب ويذكر محبوبا وهميا من غير أن يكون تيمه ومنزلاً شجاه كذلك ويقصد بالامكاني,, الشيء الذي يمكن أن يحدث فعلا له أو لغيره,, ولكنه يكذب فيه مع امكانية حدوثه له أو لغيره,, وهذا ما عنيته أنا عندما قلت ان أعذب الشعر أصدقه,, أي ان الانسان لايمكن أن يعبر فيحسن التعبير عن شيء وهمي غير موجود أو عاطفة مخترعة غير واردة أصلاً في حكم الواقع وغير محسوسة وليس لها أساس فكيف يمكن للشاعر ان يصف لواعجها وآلامها، وكيف يمكن أن يصف عذوبتها وحلاوتها، وهو لم يمر بها ولم يدخل في ملكوتها وينفعل بأحداثها,, من هنا فان شعره فيها وعنها المعتمد على تخييله واختراعه بدون أن يخوض التجربة الحقيقية يأتي باردا ماسخا لا حياة فيه, وهذه القاعدة تنطبق على كل حدث وحديث,, ولا بد من وجود الحدث حقا وحقيقة ثم إحاطته بكثير من الخيال والتزويق وربما قليل من التهويل والتضخيم ولهذا أصر دائماً على مبدأ أن أصدق الشعر أعذبه وليس اكذبه,, ولقد خلصت بعد هذا المشوار الطويل المرهق المشبع بالتساؤلات الى الاهتداء إلى قاعدتين ثابتتين في الشعر والشاعر:
أولاً: لا شاعر ولا مبدع إلا أن يكون مفطوراً مطبوعا ويحمل في طبعه وفطرته سليقة وملكة الابداع والابتكار ولو أن,, بيئته هي التي تكيف وتشكل هذه الملكة فيه والحدث هو الذي يؤججها فتتفتق وتظهر على السطح وتكتشف.
ثانياً: لا شعر ولا فن ولا ابداع أيا كان ولا قبول لذلك لدى المتلقي,, الا بوجود الباعث أيا كان الذي يحرك حس الشاعر أو الفنان ويلون عاطفته ومشاعره ويثير انفعاله,, وبدون ذلك فلا ابداع بل شيء بارد لا قيمة له,, فرؤية منظر الغروب شيء باعث ورؤية امرأة جميلة حدث باعث والحزن حدث عاطفي محرك وكذا السرور والرضى حدث والغضب والوله ، وكل ما شابه ذلك فهو حدث يحرك قريحة الشاعر وانفعال المبدع ويحرك ريشة الرسام ويئن في وتر الكمان عندما يحركها العازف الحساس ويتلون ويبدع ويتردد في صوت المطرب عندما يغني وحتى خشوع المؤمن عندما يقرأ القرآن فيهزك وتخشع له,, لا بد أن يسبقه ويسببه حالة من شعور وحس مرهف تستدعي حزناً أو الماً أو توبة أو إنابة فتتلبس القارىء المؤمن رهبة فيبكي وهو يتلو ويبكيك معه أما القارىء العادي الذي يتلو القرآن وهو في واد والمصلون خلفه في واد آخر فهو يتلو بلا انفعال وبلا تأثر بمعاني القرآن وبدون تدبر لكلماته لهذا فهوكالنافخ في كير مخروق,,لا يصل ولا يوصل ,,, وبعد فلعل الاخوة الهامشيين الذين يملؤون الدنيا بضجيجهم وغثاثاتهم يكفون عن ذلك ويتركون الخلق للخالق حتى لا يسيئوا إلى الناس بغثهم الباهت البارد الممل,.
هذا وللبحث بقية
*المراجع:
* الخصائص ابن جني
* منهاج البلغاء حازم القرطاجني
* شواهد المغنى السيوطي
* نظرية تشومسكي اللغوية جون ليونز
* شذور الذهب لابن هشام
* الموشح للمرزباني
* الأمالي للقالي
* المزهر للسيوطي
* الشعر والشعراء لابن قتيبة
* الصناعتين أبو هلال العسكري
* العمدة ابن رشيق
* الوساطة للقاضي الجرجاني
* دلائل الاعجاز للامام عبدالقاهر الجرجاني
* أسرار البلاغة للامام عبدالقاهر الجرجاني
* نقد الشعر قدامة بن جعفر
* في الشعر أرسطو طالبس
* لسان العرب لابن منطور