قراءة وتحليل : عبود سلمان العلي العبيد
يخطو المعرض العام الخامس عشر لمقتنيات الفنون التشكيلية لعام 1420ه نحو اطلالة مضيئة للفن التشكيلي السعودي الذي اثبت حضوره اللافت على ساحة الفن التشكيلي الخليجي والعربي,, فقد توزعت خصوصية هذا الفن التشكيلي المميزة على روح المعرض الحالي بعد ما تباركت بالاستمرارية كي يعطي الفنان التشكيلي السعودي بعضا من مساحات التواصل لما بين النتاجات التشكيلية الابداعية على امتداد الوطن العربي وخاصة ونحن نشهد احتفالات الرياض كعاصمة للثقافة العربية لعام 2000م.
ومع اشراقة هذا الاحتفال الجمالي الذي يتسم بالجدة والجدية والجديد,, يلتقي فنانونا التشكيليون مع هذه التظاهرة الفنية الفريدة التي يعرض فيها كل منهم أعماله الفنية وكأنه يشارك الحياة دورتها فيقدم نتاجه كما الطبيعة في مواسم الخير والعطاء وحيث تتلاقى التجارب الفنية وتتكامل في هذا المنجز الفني الذي يعكس ابداعاتهم وتطوير تجاربهم.
كما يقدم الفنانون الشباب أنفسهم وتجاربهم ليشكلوا في النهاية مقياسا للحركة الفنية التشكيلية في المملكة,, ومن خلال زيارتنا الى تلك الخيمة الابداعية في حديقة الملز والتي تتجلى فيها أصالة الفنان والتصاقه بقضايا شعبه وأمنه وترابه ووطنه وذكرى اجداده في مملكته الحبيبة ليعبر عن تطلعاتها بلغة فنية تبدع وتتوهج وتخلد الملامح والبطولات في لوحات ومنحوتات وأعمال فنية فيها خلاصة تجاربه وجديد أعماله ناهلا من التاريخ الفني والحضاري وبأسلوب فني معاصر كيف لا والفنان المبدع كان دوما سباقا الى المعاصرة وهو الذي يمتلك اللغة التشكيلية التي تساعده على قراءة مايستجد في تطور وجديد لتؤهله في ذلك الى تجاوز هذا الجديد وعدم الركون اليه وتقديم ما يتلاءم مع واقعه باحساس عال بالمسؤولية وهكذا قد يحقق المعادلة في التزامه العميق بالواقع وارتباطه بالجذور وتنشط التجارب الفنية الأصيلة التي تحافظ على هويتها ومعاصرتها الفنية وتقديم الأصيل منها بأشكال وأساليب فنية مختلفة لتظهر عمق التجربة وامكانية كل فنان مبدع.
وفي هذه المناخات الفنية الابداعية تأتي أعمال المعرض العام الخامس عشر لمقتنيات الفنون التشكيلية لعام 1420ه في مساهمات خطط الرئاسة العامة لرعاية الشباب في سبيل تشجيع الفنانين ماديا ومعنويا لتترك الأثر الايجابي في تطور طموحات الفنانين السعوديين عن طريق مثل تلك التظاهرات التي هي في الوجوه الحضارية الناهضة في مواكبة النهضة الشاملة التي تشهدها ربوع المملكة مع خصوصية الابداع والانتاج وقيمها الجمالية الرفيعة.
في قيمة عطاء الفنان التشكيلي الذي يدرك أهمية دوره ورسالة الفن فيه عندما يكون سلاحه في بناء الانسان لانسانية وجوده مع خصوصية التنمية التي تصل الحاضر بالماضي والانجازات الشامخة والصروح الحضارية الحديثة مع تلك الحضارات التليدة.
وفي هذا المعرض السنوي الذي يقام هذه الأيام نرى هذه التجارب التي نحسها بأنها أصبحت تعكس واقع الحركة الفنية بعد ان توسعت أنشطتها واتجاهاتها الفنية ليصبح المعرض الأم لكل المعارض حيث فيه تتجلى كل البحوث الفنية المتقدمة لنحاول ان نرى الأجيال الفنية فيه,, عسى ان يقدموا أنفسهم دون تزويقات زخرفية لامعة لا تفي بالديمومة وعسى ان نشهد الأفضل من بين كل المعارض بعدما اسبغت السنوات عاما بعد الآخر من الزمن وأصبحنا طموحين الى الثقة والثبات والمفهوم الشامل كحركة فنية تتوالد وتفرز سماتها مع كل الأشكال الفعلية التي تنوع وتزدهر وسائلها وغاياتها,, من أجل تقديم فن حديث يتمرد على كل ما هو وافد من أشكال مستوردة غريبة عن مجتمعنا وعاداتنا وتقاليدنا الملتزمة بأهمية البيئة المحيطة بنا,, مع الاستفادة في هذا الواقع المحلي وما فيه والبحث فيه عن ذلك المضمون الانساني وقيمة التعبير عن التراث والمضمون الاجتماعي الذي يعطي للفنان هويته المحلية,, كمنطلقات جديدة للفن,, قد تكون بعيدة عن كل ما أخذه وتعلمه.
حيث ان الفن ليس تلك الاتجاهات الغريبة الوافدة عليه بل هي تلك المصداقية التي تشهد على صدق الفنان في تعامله مع واقعه وقدرته على الوصول الى ان يكون طليعة في فئة ذلك من جلال عملية دمجه في استرجاع للماضي مع بحثه عن لغة جديدة يتجاوز فيها كل ما ورثه أو وفد عليه مع مبحثه المعمق الذي قد يأخذ شكلا جديدا مع الزمن بعيدا عن التماثل والتشابه بل في المتعدد والمتغاير ومن استقروا من الفنانين على قول كلمتهم المستقلة التي تدلل على الواقع الذي يعيشونه بكل مصادره واحتياجاته واغنائه بالتجارب والبحوث بعد ما أصبحت الحركة الفنية التشكيلية السعودية مطمئنة الى ماذا تريد وتعرف ما يؤدي اليها, وما هو الذي يدعوها الى الاستمرار عبر ثمار بحوثها المختلفة ذات الاشراقات الجمالية في لواء الأصالة والفنون الحضارية وتراثنا العظيم في حضارتنا المجيدة كفن جمالي عظيم.
وفي ايحاءات التفاعل مع هذا التراث الجمالي لهذا المعرض نكتب: فقد كان الافتتاح تحت رعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن فهد بن عبدالعزيز الرئيس العام لرعاية الشباب وما افتتحه صاحب السمو الملكي الأمير نواف بن فيصل بن فهد بن عبدالعزيز نائب الرئيس العام لرعاية الشباب في ذلك المساء الرائع في يوم الاثنين الموافق 22 ذي القعدة 1420ه 28 فبراير 2000م فكانت نقلة ثقافية وفنية تشكيلية مبدعة نشهد لها كل الخير والسداد في مسيرة الفن التشكيلي السعودي الذي يسير بخطوات رائدة نحو التألق والابداع والحضور.
فقدم أعضاء هيئة التحكيم د, يوسف العمود، ود, محمد عبدالمجيد فضل والأستاذ عبداللطيف البلال والأستاذ الفنان ناصر الموسى والفنان سمير الظريف جل أفكارهم واهتماماتهم في جوائز تحكيمية عرفت منها المعقول والمجامل والناصح والمدهش والاختيار الموضوعي الذي قد يتناسب مع شروط العرض والمناسبة,, رغم حاجتنا الماسة الى أساليب أكثر انتخابا وتنظيما وذات رؤى مدروسة بالوضوح والطبيعة الجميلة للفن الجميل المبدع بعيدا عن تصيد المخيلة!!
ضم المعرض 128 أو أكثر ما بين لوحة ومجسمات جمالية وهي ما بين خبرات متطورة في التصوير الزيتي والمائي والباستيل وباقي التقنيات الفنية التي تمحورت على عموم هذه الأعمال حول المنظر الطبيعي الخلوي والتكاوين الفنية الانسانية المجردة مع بعض الأعمال المجردة والتكوينات التراثية والحروفية التي ترغل بالاحساس الجمالي والتعبيري,, في شاعرية دفاقة على معالجة الخط واللون في مجال التصوير الزيتي وقد لا أكون مغالياً اذ قلت بأن تجارب مثل د, صالح الخطاب وعبدالله الشلتي هي من التجارب الرائدة والتي تعطي للفن التشكيلي السعودي زخما فنيا كبيرا يتميز بحق في معظم انتاجهم على المحاولات المجاهدة التي تحاول ان تنفلت في ترسبات الماضي لتعطي طروحات جادة نحو التغيير والتعبير مع مرتبة الابداع والنمو وكذلك معها تحولات محمد سيام ونغماته الشعبية المتمركزة على التفاعلات المتداخلة مع استعاراته المتحولة الى هلوسات بيكاسو العالمية عندما يحاول مع السطوح وتقنياته غير المتوازنة مع سنوات نموه وانتظاره في تجربته المتحولة دائما في رؤى وخيالات تصاعدية ارجو ان تستقر على بناءات جديدة قد تحمل في بواعث نفسه الطامحة الى الابداع كل مسارات الواقعية في الاداء والعمل والتقنية والمعالجة,, عبر ذهنيته المتلاشية في صدق احساساته الداخلية وهو يحاول ان يعطي بعدا شعبيا يشاغب على العين والطرح والتذوق رغم خصوصية الأداء للمصور البارع الذي يواكب بين بساطة العناصر التشكيلية المستخدمة في اللوحة والعمق الدلالي والتعبيري المكثف والضاج! بالاستفسارات واللمس؟
ومعها أيضا تجارب مثل حروفيات مهدي راجح صاحب اللون المعقول في الدلالة والايحاء بالتالي وهو الدال على نوع الخصوصية في فنه وعمق استنباطه ومفعولية تسجيله البانورامي للطبيعة التي تكونت في شحن ألوانه بالعفوية المعبرة وقدرتها على استنهاض الشكل وتحديده مع أهمية أسلوبه ومعالجته الذي يدعوه الى النبض المتفجر في فرحة الحياة المشرقة مع الفنان ثويمر العتيبي هذا الجندي المنسي في الذاكرة التشكيلية السعودية المعاصرة منذ زمن طويل وهو المصور البارع الذي يكرس في أعماله قدراته المتفوقة في الاختزال الدال على عالم المحبة والحزن والتشكيل بمنتهى الحزن والمحبة عنده لتعتمد على التحوير والتلخيص والانسياب والقلق الذي قلما نجده عند غيره من الفنانين التشكيليين السعوديين, كما في قراءاته الفكرية للوحة وتلك السيطرة القوية على اظهار الفاتح والغامق في التونات اللونية التي تخلق في المشاهد ردات فعل تجاه المضمون وهو يوازي الحقيقة في صالح الخطاب والجودة معا.
ومعهم أيضا تجارب الفنان ابراهيم النغيثر وانطلاقته الفنية المبنية على الفن الطموح المغامر وهم من الباحثين والمترصدين لقيم الجمال والشكل بخبرات تراكمية متطورة يوما بعد يوم رغم محدودية اللوحة الزيتية ذات الحامل الخشبي,, كذلك شاعرية ضربة الريشة المنفعلة وغير المترددة كما في رسومات وألوان عثمان الخزيم المائية وفي عالمه الوسيم المشبع بالضوء والعافية والحياة والاشراق,, مع تكوينه رقم 1 2 وذلك المنقوش المتثاوب على المرأة والزخرف والاحساسات الذهبية للانسان والمكان والزمان وتلك النظرة الخجولة في طاووسية الاحلام وهي تنفلت على العناق والحب والألوان المزركشة في شرفية حنونة المعالم والخبرات على ضفاف الحياة والفن الجميل.
أما عن زمان الجاسم وتكوينه المنفرط عن عقال اللوحة التشكيلية الى مساحات فضائية أخرى في وجوه انسانية ذات روح طفولية فرحة وحزينة الملامح والمميزات في تخيل هذا البيدر الكوني وهو يشهد تحولات الزمان والمكان مع نقوش وقطوع فنية واحتراق قدتستوعبه الضرورة المدرسية في تقييمات الفنون وهي تقدر قيمة التركيز على الجدية في الطرح والمعالجة وهي ما قد تقودنا بالضرورة الى فهم اللوحة وتقديرها على أسس أكاديمية قد لا تفتقر الى الوعي والابداع,أما الفنان عبدالعظيم الصافي الذي يخالطه الطرح مع اللوحة في الاسلوب والرمز وظاهرة الخيش التي توقف عندها معالجا بها السطوح الملفوفة والمضاءة بتلوينات لها في عوالم التجديد والتجريب كل التلقائية والتأليف الهادىء الذي من خلاله يبرز الفنان ابداعاته الحنونة على حساسية المكان واللوحات.
نهاية الحلقة الأولى يتبعها حلقة قادمة
* عضو بيت الفنانين التشكيليين بجدة