أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 17th May,2000العدد:10093الطبعةالاولـيالاربعاء 13 ,صفر 1421

مقـالات

رؤى وآفاق
مع أرجوزة أبي نواس
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل
إن أردنا أن نبحث عن ابي نواس الأعرابي وجدناه في أرجوزته هذه، فهي معجم لغريب العربية، حيث بدا صاحبها وكأنه من أعراب نجد، ممن يقطنون الصحراء، ويبتعدون عن المدن، فقد برزت قدرته اللغوية في اشد ما تكون أعرابيتها، وقد رَغِبتُ في عرض هذه الأرجوزة للقارئ الكريم، لأن أبا نواس عُرِفَ برغبته في التجديد، وحبه للحضارة، وانغماسه فيها، فهو يعشق الحدائق، بما فيها من أشجار النخل، وينفر من أشجار البادية، بمسمياتها: الطلح العشر وغيرهما، وقد انساق خلف اللذة، وطرق الأبواب التي توصل إليها، فأوصله شعره، وحسن منادمته إلى مجالس الحُجَّاب، ثم إلى مجلس الوزراء ثم إلى مجالس الخلفاء، فقد ارتقى به شعره، وظرفه، إلى منادمة الأمين وملازمته، وحبه للعيش اللين دفعه إلى قول الشعر المعبر عن الحضارة، حيث القصور المشرفة، والحدائق الغناء، والمطاعم المتنوعة، والمشارب المختلفة، والفرش الوثيرة، والمراكب الفارهة، والأسواق التي تعرض البضائع المجلوبة من الهند والصين وبلاد الإغريق، وإذا كان أبو نواس قد طبع على قول الشعر، فقد ضاق ذرعاً بالشعر العربي، الذي يفرض على الشاعر في مقدمة قصيدته أن يصف الطلل والصحراء والناقة، فهو يرى أن يصف الشعر الحياة الجديدة في العراق، بمظاهرها المختلفة، وأن يطوي الصفحة القديمة المتمثلة في مساكن العرب في جزيرتهم، وقد جَدَّ في الدعوة إلى الطريقة الجديدة في الشعر في مواضع كثيرة من شعره، من مثل قوله:


(دع الرسم الذي دثرا
يقاسي الريح والمطرا)

وقوله :
(اترك الربع وسلمى جانباً)
وقوله: (جَارِي بها الضب والحرباء والوَرَل) ورغبة الشاعر في نقل الشعر لتمثيل الحياة الجديدة نجدها في قوله:


(لا أنعت الروض إلا ما رأيت به
قصراً منيفاً عليه النخل مشتمل)

وقد اندفع إلى التجديد في الشكل وفي المضمون، فقد ضمن شعره ما وجَدَ في الثقافات الوافدة على العربية، كما في قوله:


لا يعجب السامعون من صفتي
كذلك الثلج بارد حار)

ومع تجديد أبي نواس فله قدم راسخة في الشعر القوي، المشتمل على الحكم النافعة، مثل قوله:


(فقل لمن يدعى في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء)

وله معرفة باللغة قد لا يصل إليها كثير من شعراء عصره، فهو شاعر موهوب، ويحفظ ما يسمع من الأعراب والرواة، حتى تكَوَّنَ لديه مخزون لغوي، أتاح له أن يصنع الشعر الجزل، المشتمل على الغريب، وأرجوزته التي تبدأ بقوله:


(وَبَلدَةُ فيها زَوَر
صَعراءَ، تُخطَى في صَعَر)

تثبت ذلك، فهو في هذه الأرجوزة كأنه واحد من أصحاب الأراجيز الذين اشتهروا بهذا النمط من الشعر، وهم رؤبة، والعجاج، وأبو النجم العجلي، فهو في هذه الأرجوزة أراد أن يثبت قدرته على قول الرجز، كما أثبت قدرته على قول الشعر، بل إنه بهر بلغته في هذه الأرجوزة فحول الرواية، واللغة كأبي عمرو بن العلاء، والأصمعي، وأبي عبيدة، فهؤلاء هم الذين يُرجَعُ إليهم في رواية الشعر، ومعرفة اللغة، وقد شهدوا لهذه الأرجوزة بالتقدم على غيرها في مجال استحضار الغريب، وتوظيفه في المكان الملائم، وقد جاء بعد رحيل أبي نواس والأصمعي وأبي عبيدة وابي عمرو بن العلاء جيل آخر من اللغويين، اهتم بأرجوزة أبي نواس، وتعهدها بالحفظ والشرح، ومن هذا الجيل عالم اللغة الفذ ابن جني، الذي قال فيه المتنبي (ابن جني أعرف بشعري مني) فابن جني يجمع المهارتين، مهارة الشرح، ومهارة الغوص في دقائق اللغة، فقد بسط القول في لغة الأرجوزة، حتى إن الأرجوزة وشرحها أصبحا مصدراً من مصادر المعاجم العربية, وإذ كانت هذه الأرجوزة بهذه الصفة من القوة والمكانة لدى العلماء والرواة، فقد يتساءل القارئ عن سبب إنشائها، وللجواب على هذا التساؤل نقول: إن أبا نواس قال أرجوزته هذه في مدح الفضل بن الربيع، الذي خدم المنصور والمهدى والهادي والرشيد والأمين، فهو أديب وعالم، بالاضافة إلى تمرسه في السياسة والإدارة، ولولا علمه وأدبه لما خاطبه أبو نواس بهذه الألفاظ الغريبة، التي لا يستحضر معانيها إلا متمرس في اللغة عالم بها، وأبو نواس شاعر لبق، ومجالس لِوُزَرَاء وأمراء، فهو لا يقول القول إلا ويعرف ملاءمته للمخاطب، ومن ثم نعرف مكانة الوزير في العصر العباسي، وأن الوزارة لا يختار لها إلا من هو في علم الفضل بن الربيع.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved