أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 20th May,2000العدد:10096الطبعةالاولـيالسبت 16 ,صفر 1421

مقـالات

آفاق وأنفاق
فوق ظهور الحمير
عرفنا في لقاء سابق مع الحمير أنها من شدة خوفها من الاسد يزداد ارتباكها واضطرابها، بحيث ترمي نفسها على الأسد، فيما تحسب أنها تفر منه، واستثمر هذه الصفة ابو تمام في هجائه، فقال يخاطب الشاعر عبدالصمد بن المعذّل، وقد بدأه بالهجاء:


أقدمت ويلك من هجوي على خطر
والعَير يُقدم من خوف على الأسدِ

ومن صفات الحمار أيضا أن البرد يؤذيه ويضر بجسمه، ولذا لا يوجد في المناطق الباردة كشمال أوربَّا، وإذا كان البرد يؤذيه، فإن نهيقه يؤذي الكلاب وتخافه، وقد يسبب لها مغصاً في بطنها, ولم أرَ توضيحا لذلك مقنعا، قالوا: ولذلك يطول نباحه.
ويوصف أيضا بالهداية إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها، ولو مرة واحدة، دون إرشاد راكبه، وللناس في مدح الحمار وذمه اقوال متباينة بحسب صلتهم به، فمن ذلك ان خالد بن صفوان، والفضل بن عيسى الرَّقاشي، كانا يختاران ركوب الحمير على ركوب البراذين، فأما خالد فإن بعض الأشراف بالبصرة تلقاه، فرآه علىحمار، فقال له: ماهذا المركب يا ابا صفوان,,؟ فقال: عَير من نسل الكداد، أصحر السربال، مفتول الأجلاد، محملَج القوائم، يحمل الرجلة، ويبلُغ العقبة، ويقلّ داؤه، ويخفّ دواؤه، ويمنعني أن أكون جبارا في الأرض أو أكون من المفسدين، ولو لا ما في الحمار من المنفعة لما امتطى أبو سيّارة ظهر عَير اربعين سنة, (ابو سيارة: رجل من عَدوان، أصحر: أشرب لونه حمرة خفيفة، الأجلاد: جمع جِلد، وهو غشاء الجسم، محملَج: من قولهم حملج الحبلَ، اذا فتله فتلا شديدا).
وأما الرقاشي، فإنه سئل أيضا عن ركوب الحمار، فقال: إنه اقل الدواب مؤونة، واكثرها معونة، واسهلها جماحا، واسلمها صريعا (قلت: هذا غير مسلّم، فإنني مازلت أعاني من صرعته منذ كنت في السابعة عشرة من عمري)، وأخفضها مهوى، واقربها مرتقى، يُزهى راكبهُ وقد تواضع بركوبه، ويسمّى مقتصدا وقد أسرف في ثمنه، ولوشاء ابو سيّارة أن يركب جملا مَهريَّا، أو فرساً عربيا، لفعل، ولكنه امتطى عيرا اربعين سنة.
قال الميداني (1/411): فسمع أعرابي كلام الرقاشي فعارضه، (قلت: ماقاله الأعرابي ليس معارضة ونسجا على منوال الرقاشي، وإنما هو من باب المناقضة)، فقال: الحمار شَنَار، والعَير عار، هو منكر الصوت، بعيدُ الفَوت، متغرّق في الوحل، متلوث في الضحل، ليس بركوبة فحل، ولا مطيّة رحل، إن وقفته ادلى، وإن تركته ولّى، كثير الروث، قليل الغوث، سريع إلى الفرارة، بطيء في الغارة، لا ترقأ به الدماء، ولات ُمهر به النساء، ولا يُحلَبُ في إناء.
وقال ابو عبدالله محمد بن القاسم، المعروف بأبي العَيناء، لبعض سماسرة الحمير: اشتر لي حماراً لا بالطويل اللاحق، ولا بالقصير اللاصق، إن خلا الطريقُ تدفّق، وإن كثر الزحام ترفّق، لا يصادم بي السّواري، ولا يدخل تحت البواري، إن كثَّرتُ علَفَه شكَر، وإن قلّلتُه صبر، وإن ركبتُه هام، وإن ركبه غيري قام, فقال له السمسار: إن مسخ الله (بعضهم) حمارا أصبتُ حاجتك، والا فليست موجودة.
(السواري: المقصود أعمدة الاسواق، البواري: مظلاّت من الحصر، كانت تثبت في واجهة الدكاكين, قام: وقف).
ومما جاء في مدح الحمير شعرا قول احمد بن طاهر يصف حمارا:


شِيةٌ كأن الشمس فيها أشرقت
وأضاء فيها البدر عند تمامِه
وكأنه من تحت راكبه إذا
مالاح: برقٌ لاح تحت غمامه
ظهر كجري الماء لين ركوبه
في حالتي إتعابه وجمامه
سفِهت يداه على الثرى، فتلاعبت
في جريه بسهوله وأكامه
عن حافرٍ كالصخر لولا أنه
أقوى واصلب منه في استحكامه
ما الخيزران إذا انثنت أعطافُهُ
في لين مَعطِفه، ولين عظامه
عنُق يطول بها فُضولَ عِنانه
ومحزّم يغتال فضل حِزامه
وكأنه بالريح منتعلٌ، وما
جريُ الرياح كجريه ودوامه
أخذ المحاسن آمنا من عيبه
وحوى الكمال مبرَّأً من ذامه

(الشّية:العلامة ،واللون، الجمام: الراحة, الركام: المرتفعات, الذام: العيب).
فهوحمار جميل اللون مشرقه، تستريح له النفس، لين المركب مع قوة وصلابة تبعثان على الشعور بالامان، مرن العظام، ذو عنق طويلة تدل على اصالته في الحَميرة، سريع جدا، حتى كأنه يلبس الريح في حوافره، حاز كل صفات الكمال،وخلا عن جميع العيوب.
وقال آخر:


لاتنظرنّ إلى هُزال حماري
وانظر إلى مجراه في الأخطار
متوقّد جعل الذكاء إمامه
فكأنما هو شعلةٌ من نار
عادت عليه الريح عند هبوبها
فكأنه ريح الدَّبور يباري

(الأخطار: جمع خطر، والمقصود هنا ما يتراهن عليه، وهذا دليل على انهم كانوا يتسابقون عليها، مقامرة ورهانا، ريح الدَّبور: هي ريح تهب من الغرب،شديدة الهبوب، وتقابلها ريح الاقبال، فهي تهب من الشرق، وهي التي تسمى ريح الصَّبا أيضا, تباري: تسابق).
يؤكد الشاعر هنا أن العبرة بالمخبر لا بالمظهر، فحماره وإن بدا هزيلا نحيلا، فإنه عند الاختيار، والجري في السباقات ذات الخطار، يتفوق على غيره من الحمير، ويسبقها، ويفوز بالرهان, وهو حمار ذكي متوقد الذكاء، فكأنه في جريه ريح الدبور.
د,محمد العيد الخطراوي

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved