الفكرة تموت اذا لم تقيدها في اللحظة التي تولد فيها او تبرق في ذهنك، لأن الفكرة عرض طارئ,, يتكون في الذهن, عرض يسبقه أسباب، فإذا لم تقيد ذلك, فبعد فترة لا تجده,, ولذلك فإن كثيرا من الأفكار تتلاشى بمجرد اهمالها,, أما إذا قيدت بالقلم على الورق,, فإنها غالبا ما تأتي غنية ذات صدى وتأثير,, وقد يحاول الكاتب الكسول استعادة الفكرة العارضة بعد حين، لكنه لا يستطيع جمعها إلا بقايا يتخيلها فتكون مسخا غير مكتمل النمو وذلك بسبب ترك نارها تبرد، وأسبابها تذوب وتتلاشى, وأذكر أن أحد أساتذتنا في الأدب كان لا ينام إلا وعند رأسه قلم وقرطاس، فهو عندما يلقي بجسمه فوق الفراش ويشرد بفكره، تنتابه كما يقول ,, بعض الأبيات الشعرية,, وبعض الأفكار والعبارات ذات الصدىالمؤثر، فيضطر إلى تسجيلها في القرطاس,, والكاتب في مثل هذه الحالة مثل الصياد، يضع بندقيته خالية من الذخيرة حتى إذا عرض له الصيد,, أخذ في حشوها وهو ما بين أخذ البندقية وحشوها يكون قد اختفى الصيد.
وبعض الكتّاب يتميز بتسلسل الأفكار لديه, وإمطارها بحيث تتضح أمامه عدة صور لموضوع يريد الكتابة عنه, وهو تميُّز في الخلقة الربانية لهذا الانسان أو ذاك, ولذلك نجد كثيرا من الروائيين والقصاص جزلي العبارة، وافري العطاء, وكان بعض الكتّاب الغربيين يضع يديه خلفه ويمشي في مكتبه ذهابا وايابا وسكرتيرته تكتب على الآلة ما يُمليه,, ولا يقف حتى تكون الرواية قد بلغت مائتي صفحة, وكنا ونحن في المراحل الثانوية نقرأ روايات الهلال لكتّاب غربيين مشهورين نقرأ عنهن وعن طباعهم ومزاجياتهم الكتابية، فكنا ننبهر من تفوقهم وقدراتهم الفكرية,, وبعد حين عرفنا أن أدباء العرب الأوائل أصدروا من المؤلفات الطويلة ما يفوق عطاء هؤلاء الغربيين.
ان تسجيل الفكرة يجعلها حاضرة في الذهن عندما يريد الكاتب أن يكتب عنها، ولذلك فإن هذا التسجيل لا يفقدها طلاوتها وحلاوتها وتأثيرها, بل إن توهجها لحظة كتابتها يزيد من تدفق أفكار أخرى لها علاقة بالفكرة الأصلية مما يساعد الكاتب في إبراز موضوع متكامل وذي عطاء جيد.
وقد كان الأوائل يقولون إن تقييد العلم بالكتابة,, وكانوا ينسخون الكتب على ضوء الفتائل الزيتية، ومع هذا النسخ يكون قد رسب في أذهانهم الشيء الكثير,, قيِّدوا الأفكار قبل خمود أوارها,, تكن لذيذة الطعم.
|
