أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 3rd June,2000العدد:10110الطبعةالاولـيالسبت 1 ,ربيع الأول 1421

مقـالات

آفاق وأنفاق
بدويتان وحضرية
(البدوية الثانية)
د,محمد العيد الخطراوي
هذه البدوية ليست شاعرة كالبدوية الأولى: (ميسون البَحدلية)، وغاية ما نعرفه عنها أن اسمها (أنيسة) وأن زوجها من شعراء المفضليات، واسمه: يزيد بن حُميّمة بن عبيد الأشجعي الغطفاني، شاعر بدوي، من قيس عيلان، عُرف بين الناس بجُبَيهاء الأشجعي، وقيل: جَبهاء بالتكبير، فهي لقب له، والأجبه مأخوذ من الجَبهِ، وهو العريض الجبهة، والمرأة: جَبهاء, قال في اللسان نقلاً عن الجوهري: وبتصغيره سمي جُبَيهاء الأشجعي, قلت: لا أدري من أين جاءه التأنيث، والأولى تذكيره: أجَيبِه، أو أجبه.
قالوا: كان من الشعراء المقلين المشهورين، لكنه ليس من الفحول، عاش وتوفي أيام بني أمية، ورغم ضيق العيش في البادية لم ينتجع الخلفاء، بل كان متمسكا ببداوته وباديته، وحين أغرته زوجته بالنزوح إلى المدينة المنورة اعترضته موانع غيبيّة منعته من تحقيق غايته، فعاش بدوياً، ومات بدوياً كما شاءت له البداوة، وأورد صاحب الأغاني (18/95) قصة هذه المحاولة فقال: إن زوجة جبيهاء الأشجعي قالت له: لو هاجرت بنا إلى المدينة وبعت إبلك، وافترضت في العطاء كان خيرا لك، قال: أفعل، فأقبل بها وبإبله، حتى إذا كان بحرّة (واقم) من شرقي المدينة، عرضها على حوض ماءٍ ليسقيها، فحنّت ناقةٌ منها ثم نزعت (أيضا بمعنى حنت) واشتاقت إلى موطنها الأصلي، وكان موطنها منطقة القصيم (الحالية)، التي كانت بعامة من مواطن قيس عيلان، وتبعتها الإبل، وطلبها ففاتته، فقال لزوجته: هذه إبل لا تعقل، تحن إلى أوطانها، ونحن أحق بالحنين منها، أنت طالق إن لم ترجعي، وفعل الله بك وفعل، وردها، وقال:


قالت (أَنيسةُ) :دع بلادَك،والتمس
داراً (بطَيبة)، ربَّةِ الآطامِ
تكتب عيالك في العطاء، وتفترض
وكذاك يفعلُ حازم الأقوام
فهممت، ثم ذكرتُ ليل لقاحنا
بلوى (عنيزة)، أو بقُفِّ (بشام)
إذ هنّ عن حسبي مذاود كلما
نزل الظلام بعصبة أغتام
إن (المدينة) لا مدينة، فالزمي
حقف السِّناد، وقبة الأرجام
يُحلب لك اللبن الغريض، ويُنتزع
بالعيس، من يمنٍ إليك، وشام

(الآطام: جمع أطم، وهو حصن ذو بناء مربع، كانت الآطام من خصائص المدينة في العصر الجاهلي، أنشأها فيها الأوس والخزرج، اجتلبوها معهم في هجرتهم إليها من جنوب الجزيرة العربية، اللقاح (بكسر اللام): ذوات الألبان من النوق، واحدتها: لَقُوح، ولَقحة، كقلوص وقلاص، وقصعة وقِصاع, اللِّوى (بكسر اللام): ما التوى من الرمل، أو منقطع الرمل، جمعه ألواء، قالوا: والالواء أيضا: أحناء الوادي، ومن البلاد نواحيها, عُنيزة: قالوا: اسم لأكثر من موضع, قلت: الأنسب هنا أن تكون أرض عنيزة الحالية فتلك منازلهم, والبشام: شجر طيب الرائحة والطعم، يستاك به، وهو معروف، والقُفّ: ما ارتفع من الأرض, وقف البشام: موضع, الأغتام, مفردة أغتم وهو الذي لا يستطيع الإفصاح في نطقة, الحقف: ما استطال واعوج من الرمل السِّناد: من معانيه جانب الجبل, الرَّجم: الحجارة الكبيرة وهما موضعان, اللبن الغَريض: الطريّ).
واضح أن الحياة في البادية كانت تعاني كثيراً في العصر الأموي، وأن الخلافة لم تولها من الاهتمام ما هي جديرة به، لكن أهل البادية برغم معاناتهم لم يكونوا يتضايقون كثيراً، ولم يكونوا مستعدين لمفارقة مواطنهم، إلا ما كان من بعضهم، كما فعلت أنيسة زوجة شاعرنا جبيهاء، فقد أغراها ما كانت تسمعه عن الحواضر، وربما تكون شاهدت بعض مظاهر الرغد في إحدى سفراتها، فتلمظت وسال لعابها، لذا فهي تقترح على زوجها الانتقال من الحياة الرعوية وما فيها من شظف وضيق إلى الحياة الحضرية بما فيها من راحة وبلهنية، كان يعتمد دخله على العطاء وغير ذلك من أنشطة المدن، لا على الرعي وما تجود به الصحراء، ونسيت ما عناه الشاعر حين قال على لسان البدوية:


لنا قبلة الشمس عند الصباح
وللحضر القبلة الثانية

وتؤثر على زوجها ويطيعها، ولكنه يحزم أمره في آخر لحظة، ويتخذ من المسألة موقفاً صريحاً، لا ينكر فيه الراحة المتوافرة في المدينة، ولكنه كان يعلم أن المدينة المنورة لم تعد المدينة المعروفة بما فيها من رخاء وبلهنية عيش، إذ قد فاتها ذلك وأضاعته، منذ ضيعها بنو أمية، حين قطعوا عن أهلها الأعطيات تأديباً لهم عن مواقفهم السياسية، بمناصرتهم ابن الزبير، وإنكارهم بعض تصرفات الخلفاء أنفسهم:


إن المدينة لا مدينة، فالزمي
حقف السناد وقبة الأرجام

روى ابن عساكر بسنده عن ابن شهاب الزهري (تابعيٌّ توفي سنة 124) أنه لما خرج من المدينة إلى عبد الملك بن مروان قال له (تاريخ دمشق ترجمة الزهري): يا أمير المؤمنين، افرض لي، فإني منقطع من الديوان، (يعني ان اسمه مشطوب من ديوان العطاء)، قال: ان بلدك لبلد ما فرضنا فيها لأحد منذ كان هذا الأمر, وكان قدوم الزهري هذا سنة (82 ه).
فماذا كان موقف بدويتنا أنيسة؟ هي لم تكن شاعرة مثل بدويتنا الأولى (ميسون البحدلية)، ولكنها كانت حساسة، رقيقة المشاعر كزوجها الشاعر، فما أن رأيا النوق تحن إلى أوطانها، حتى تجاوبا معها، وانطلقا يعدوان وراءها إلى أرض الوطن, كما اقتنعت عقليا بمنطق زوجها، بأن الأمور قد تغيرت، وأنه لا جدوى من الهجرة والنزوح، وهذا النص في عامته يعطينا فكرة عن مكانة المرأة في المجتمع البدوي في ذلك العصر، فهي تشير على زوجها، وتخطط معه المستقبل، وهي ذات خلفية اجتماعية، تعلم الكثير عن دواوين العطاء، ومراكزها، وتعلم أيضا مقومات المجتمع البدوي والمجتمع الحضري، كما تعلم أن الرجل يجب أن يكون حازما في اتخاذ قراراته، ونلحظ أن النص عبارة عن ستة أبيات، شغلت منها أنيسة بيتين، أي أنها شغلت (6 /2 ) أي (3 /1 )، أي أن الأبيات توزعت بينهما بنسبة أن للذكر مثل حظ الانثيين، والرجل هنا هو الحامي، وهو الخادم لأهله، فخيركم خيركم لأهله كما قال صلى الله عليه وسلم .
وستظل الحاضرة تغري البادية بالنزوح، وكم في النزوح من عذابات، ومن إحداث لخلل اجتماعي وارتباك نفسي، يجعلان عقلاء الأقوام يعدلون عن هذا التحول، ويلقي بالتبعة على أولي الأمر أن يسعوا إلى توفير وسائل الراحة للبدو أنفسهم في مقارهم, بما يتناسب مع التطور في العصر الحديث.

أعلـىالصفحةرجوع














[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved