أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 18th June,2000العدد:10125الطبعةالاولـيالأحد 16 ,ربيع الاول 1421

مقـالات

الماء القراح غاية الظمآن
د,عبدالمحسن بن عبدالله التويجري
ما جاء في كتاب ذكريات وأحاسيس نامت على عضد الزمن مساحة واسعة تشبه في رحابتها سيولاً غزيرة متدفقة بلا هوادة فملأت الوادي وفاض، وحينما تتداعى أحاسيسي معه فلست إلا مبشراً بهطول تلك الأمطار مبتهجاً بها وهي تملأ الوادي وتشبع الأرض.
وللسيول الغزيرة طبائع عرفتها الطبيعة وتكيفت معها حتى ولو تهالكت من التعب فإنها تستبشر بالماء لحاجتها الماسة إليه، ولقد اعتمدت الرؤية في هذا الكتاب على ثلاثة محاور تشير إلى أن ما يُكتب ليس مجرد كتابة على ورق بل إنه بصيرة نافذة تتفاعل من خلالها المحاور مجتمعة في حالة من الانسجام تؤكد جاذبية كل محور للآخر لصياغة المساحة الملائمة لانطلاقة فكرية مبعثها مكونات الإنسان كما خلقه الله عز وجل، وتلك المحاور هي:
الأول: الحس العقلي.
الثاني: الحس النفسي.
الثالث: المنطلق الديني.
وأظن أن تلقائية هذا المنطلق لا تبتعد كثيراً عن الثبات الثابت مما جاء في القرآن الكريم حيث التنزيل العظيم يؤكد أن طبيعة الانسان من الداخل حينما أشار إليها فأكد على ثلاثة أنماط من مكونات النفس البشرية:
النفس المطمئنة.
النفس اللوامة.
النفس الأمارة بالسوء.
سيلتقي قارئ هذا الكتاب بتلك المحاور ظاهرة بينة تمهد له الدخول أو تصده حيث إن تفاعل الناس يتباين لأنه مرهون بقدرة كل انسان على الدخول أو التراجع وفي بعض الأحيان دخول وسياحة وخروج لا يميزه إلا العامل الزمني الذي استغرقته تلك السياحة، فكل محور مستقل يعبر عن نفسه وهذه ميزة للكتاب تجلت من خلالها ريادة العقل في محاولة حواره لخصائص الحياة وتجربة الإنسان منذ أن هبط به خالقه إلى الأرض وحتى تجتمع أرواح خلقه في رحاب وجوده عز وجل، ولعل في ذلك تبريراً لاعتبار هذه المحاور مجتمعة منهاجاً متجدداً في عالم الفكر والفلسفة والحكمة التي يجللها حس أدبي لا يلتزم بمدارس معينة غير التلقائية والفطرة عقلاً وحساً لنستنتج من هذا ان الأدب ومعارف الحياة منبعها الأساسي الانسان فيجتهد ويبدع ليضيف بعد ذلك إلى مدارس الأدب نمطاً خاصاً ومستقلاً استقلالية عقل ونفس الكاتب ومن ثم يتداعى لهذه الاستقلالية اسلوب مستقل يحمل الفكرة بأسهل ما تكون القدرة فيتدفق شيء يثير حالة نفسية لدى القارئ ذلك ان الأسلوب أخاذ يشدك كما يشدك كل جديد ويتورط القارئ ما بين الفكرة والأسلوب في بداية الأمر حتى يستقر ويتجاوز هذه الحالة النفسية.
كم تمنيتُ أن يقرأ هذا الجهد قارئ مثل عباس العقاد أو عبدالرحمن بدوي أو حتى افلاطون ليجتمع الثلاثة على أن أحلام أفلاطون لم تكن ضرباً من الخيال أو وهماً ضغطت به الأسباب على نفس أفلاطون وعقله ليدعي مثالية اعتبرها الكثير من الناس مستحيلة، وواقع الأمر ان ما حفل به الكتاب يقلب هذا المفهوم من تصور إلى آخر حتى يصل معه من يتمنى المعرفة الحقة إلى التأكد من أنه وإن بدا سفراً صغيراً في حجمه لكن ابعاد تأثيره لا يهضمها قارئ عابر ولا قارئ محترف إلا بعد جهد وتأمل ووقفات مع النفس والكون، والخالق لهذا كله بمطلق جماله وعزة جلاله.
ومن يقرأ هذا المؤلف لابد وأن يشتهي قراءة سقراط وأفلاطون والعقاد وكثيرين من أوعية العبقرية الانسانية، ولعلي أستشهد على مصداقية زعمي بان هؤلاء قد تجمعوا في دائرة السؤال حيث يفرض نفسه ملحاً وبلا هوادة على استقراء وفهم تفاعلنا مع درب الحياة الطويل في ماضيه وحاضره ومستقبله.
امتلأت نفوسهم جميعاً بالحس المرهف، كما امتلأت عقولهم بالوعي المتميز فكان السؤال الذي انتهى إلى اجابة نسبية ولكنها تاريخية ومتزامنة منطقياً مع معادلة الزمان والمكان، ولعل التمني في هذه اللحظة بجمع تلك النفائس كلها في سلة واحدة يخلق عندي كثيراً من الأمن والأمل معاً، إذ يسير بي الأمل نحو ساحة رحبة تجتهد معها الحركة في داخلي وتدفع بها إلى شيء من اليقين المنضبط بقصة الإنسان ومشيئة خالقه وسننه وقوانينه فأرى أن احدنا مسير ليختار ، مسير بقوة هذه السنن ومضامين قوانينه جل جلاله، ومخير بقوة وعيه وحدة بصره ودفع ارادته، وهو في هذا وذاك مدرك ان صفاء الروح مستمد من معطيات أساسية جاءت بعد سورة الفاتحة وفي أول سورة البقرة كمداخل ايمانية جوهرية، ايمان بالكتاب وإيمان بالغيب واقامة للصلاة وأن ينفق الإنسان مما رزقه ليس مالاً فقط بل من كل رزق مَنَّ به الحق على هذا الانسان، فمن يعرف شيئاً أو يرى علامة على الطريق عليه أن يشير إليها بكلام ليس بساكت ولكن من خلال نبض يتدفق معه دم الجسد، جسد الحياة فتعريه بل وتعصر الدماء إلى آخر نقطة قد تبقى، وهذا ما حاوله طلائع الخلق من الناس على مدى التاريخ فتركوا ويتركون قوة نستمد منها القدرة على السير الدؤوب مع المشوار الطويل المتعرج، والشائكة مسالكه، متداخلة ما بين نفس وعقل قدر الله لهما منهاجاً من الصبر يدعم محاولة الفهم والتأمل مع هذه المسيرة.
ومنذ أن هبط بالانسان جهله وظلمه ليعيش مع مجاهيل كثيرة فإن هذا الكتاب يؤكد على جهد طلب المعرفة.
ومن تواضعت به نفسه على الطريق فسيرى جهله قبل علمه ويصبح غارقاً في بحر يلح بالسؤال تلو السؤال وكل ما فيه توجها إلى الوعي والمعرفة، وحيث هذا هو الطريق الذي يلازمه لابد أن يعترف بالجهل فتأكيد الجهل بالحقيقة يدعم المعرفة ويميزها وكما قيل وبضدها تتبين الأشياء ذلك أن الليل له نهار، وقد تلازمت كل الأشياء على هذا النمط حتى يتحقق ما جاء به المعنى في سورة ق : اليوم بصرك حديد .
قرأت فيما قرأت كتباً تسجل تجربة مذكرات واذا بها تجربة لشخص واحد مع ظروف خاصة به تعتمد على سرد احداث لا يسبقها ولا يليها ما يعزز قدرة الادراك لدى القارئ، أما التجربة في هذا الكتاب فتعبر عن محنة الإنسان الحقيقية مع نفسه ومع حياته المعلوم منها والمجهول حياته اليوم وغداً وإن فصل بين اليومين فاصل إلا أن الحياة لا تموت فيعيش من يجتهد مع إلحاح السؤال وجبروت العقل بمعاناة قاسية ما بين مد وجزر، ظلام ونور، بصيرة وعمى, وهنا تأتي المعاناة نتيجة طبيعية تمتحن حواس الانسان فلا يجد بدا من الصلاة على طهارة فيسجد لربه مقتنعاً في كل الأحوال بمعنى قوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان في كبد ، وهذه هي القاعدة وما عداها استثناء عابر مع لحظته يوم تأتي لحظة أخرى تحل محل ما مضى من زمن، ورصيد هذه التجربة وتلك الذكريات في هذا الكتاب ينبع من داخل النفس قبل أن يعتمد على ملامح آتية من خارجها، وقد تكون في معظم الأحيان ملامح متشابهة تاريخياً في الزمان والمكان بين كل الناس ولكن تفاعلهم مقياس نحكم به عليهم أو لهم، ونصرخ في بعض الأحيان فنقول: وجدتها، ومن يقرأ هذا الكتاب وهو في حالة من الاستعداد وقدرة كافية من الانسجام سيقول وجدتها ويبدأ من جديد باحثاً عن أخرى ليقول وجدتها، وقد لا يجدها .
ومن الواضح ان منهاج هذا الكتاب جعل الصحراء رفيق درب، وآفاق السماء ملجأ لآلامه، وأنطق الحب حباً يوم قال: لا أزرع شجرة لا تظلل متعباً ولهذا عفت النفس عن الادعاء بزراعة الشجرة لأنها تضع شرطاً لمن يزرع الشجرة.
وعلى الرغم من أن ظاهر الكتاب يوحي بحالة من التشاؤم إلا أن التفاؤل فيه بُني على حقائق كونية تدعمها روح ايمانية يسهل التأكد منها حيث إن التفاؤل الذي لا يبنى على هذا النهج مصيره نتائج لا مفر منها وهي التشاؤم بعينه، وذلك حينما تنتهي الرحلة وقد نفد الزاد أو الازدياد.
وأظن أن من ينطلق مع آفاق هذا الكتاب وهو غير مدرك لمكان التشاؤم أو مكان التفاؤل وعلى أي شيء يبنى كل منهما فربما انه عابر سبيل أو شبيه بمن يسمح الطريق بعدسة هندسية فيتوهم أن ما اقترب منه صار طوع يديه.
لا أدري ولكن إن كنت قد استوعبت محتويات الكتاب فإن أوراقي هذه لا تحمل شيئاً من الادعاء ولكنها ترصد وتجتهد لتقف في حالة انسجام مع السؤال تمهد بما هو متاح من الوعي الطريق نحو الجواب، فلعل الجواب يلامس الحقيقة أو يتعرف على المتاح من ملامحها ونتيجة ذلك الإصرار بالارادة على السير وان تعرجت مسالكه أو تاه بنا الدليل فالمحصلة تميز للارادة الانسانية وفق منهاج يسعى بنا إلى مزيد من التفوق على الغث من محتوانا الذاتي، وهذا في حد ذاته تأصيل وتأكيد لكل معنى يحقق قيمة جهاد النفس وضلال الوعي، وعسى أن نصادف من يحتضن ضعفنا الانساني برحمة ومغفرة، والقادر على هذا الحق سبحانه وتعالى.


أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved