أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 27th June,2000العدد:10134الطبعةالاولـيالثلاثاء 25 ,ربيع الاول 1421

مقـالات

ثقافة التقنية,,وتقنية الثقافة 1/4
د, حسن بن فهد الهويمل
لابد أن أحرر أولا مفردات العنوان، وهما: كلمتان، وجملتان: فالكلمتان: الثقافة والتقنية .
والجملتان: ثقافة التقنية وتقنية الثقافة .
وليس هذا العنوان من باب التلاعب اللفظي، فنحن في زمن طغت فيه التقنية ، واستفحل الانسان الآلي، وتحولت الثقافة من واحدية الوعاء إلى تعدديته، وبخاصة شبكات المعلومات والاتصالات والأقراص الممغنطة.
والثقافة: مصطلح اضطربت حوله الآراء، وتباينت الأفكار، ولما يصل المعنيون الى تعريف جامع مانع يحدد الثقافة، ويعين المثقف، ونوع المكتسب المطلوب لتكون الثقافة ويكون المثقف، والأزمة في النوع وفي القدر.
وبالعودة الى جذور الكلمة معجميا، وقبل أن تكون مصطلحا على مفهوم، نجدها تعني ثلاثة أشياء متقاربة الدلالة وهي:
1 الوجادة: فما يجده الانسان مثقوف: أي موجود، وكذلك ما يصادفه الانسان في حياته أو في وجهته, قال تعالى:(فإما تثقفنهم في الحرب), وقال تعالى:(واقتلوهم حيث ثقفتموهم) ولا يعني الثقف في القرآن إلا هذه الدلالة، وقد ورد هذا الجذر في القرآن ست مرات.
2 التقويم: من ثقف الرماح: عدلها، وأقام اعوجاجها، والتثقيف التسوية.
3 الحدق: ثقف، ثقافة: صار حاذقا خفيفا فطنا، فكأن الوجادة والتقويم يؤديان الى الحذق والفطنة.
وهذه الدلالات الثلاث تعطي دلالات تراتبية، فالوجادة تمكن من التعديل الحسي كالرماح، والمعنوي كالقيم الأخلاقية والفكرية، وهما ينتجان الحذق والفطنة,وتلك هي محمل الدلالة المعجمية لجذر ثقف ، وان زاد عليها مجمع اللغة العربية بالقاهرة في معاجمه بعض الدلالات المجازية أو السياقية, والثقافة في الاصطلاح تتعدد بتعدد الفنون والعلوم والمذاهب وبتعدد الأزمنة والأمكنة وبتنوع الحضارات، فهي عند علماء الاجتماع ذات معنى، وهي عند علماء النفس ذات معنى، وهي كذلك عند الأدباء والفلاسفة، وهي عند ذوي الديانات, ومن ذلك أنها: طريقة الحياة الكلية لشعب من الشعوب، كما أنها تعني ضروب النشاط: كالفن والأدب والفكر والعادات والتقاليد وكل المنجز البشري الذي تلتقطه حواس الانسان وتحتفظ به، وتنمي منه مكتسباتها، وتهذب فيه سلوكها، وقد تمتد الى الشعور والتفكير، والتعريفات السابقة تومىء الى أن الثقافة: الأخذ من كل شيء بطرف، أو هي: معرفة كل شيء عن شيء، ومعرفة شيء عن كل شيء, وقد وعاها السلف والفوا الموسوعات، وكان منهم من يمثل الثقافة بمفهومها الواسع، وقد مرت الحضارة الاسلامية بفترة ما يسمى بعصر الموسوعات وعرفت مؤلفات من هذا النوع، كالمستطرف والعقد وغيرهما, والمؤسسات الثقافية والمنظمات العالمية المعاصرة ذات الطابع الثقافي كاليونسكو مثلا، لم تتفق بعد على تعريف محدد، وقد قيل: اذا أردت أن تستدل على جهل الانسان، فاسأله عن الثقافة أو عن مقتضياتها ومشمولاتها, على أن هناك مصطلحات تتداخل مع مصطلح الثقافة, كمصطلح الحضارة والمدنية .
فالحضارة تشير في الغالب: الى طرائق الحياة العلمية الأكثر تقدما,والمدنية: تعني المستعملات والمسكوكات والمسكونات, وهناك تاريخ للتمدن الاجتماعي، يحكي تطور حضارة ما، وقد كاد جرجي زيدان للحضارة الاسلامية حين كتب عن تاريخ التمدن الاسلامي مركزا على جانب اللهو والمجون ومجالس الشراب وأزياء الغلمان والجواري وآلات الطرب متعمدا حصر التمدن الاسلامي بهذه الظواهر، وهو قد فعل المكيدة نفسها عندما أنشأ الروايات الاسلامية , والحضارة والمدنية في النهاية لونان من ألوان الثقافة, بوصف الثقافة ما يجده الانسان وما يكسبه من قول أو فعل,ومع صعوبة التحديد، فإنها من الوضوح، بحيث يرجع بها المتلقي الى مفهومه الذهني، وليس هناك اصعب من الحديث عن الأشياء الواضحة,والثقافة تختلف من عصر الى عصر ومن حضارة الى حضارة، وهي داخل الحضارة الواحدة والعصر الواحد تتعدد تصوراتها ومستوياتها وأنواعها ومدة ارتباطها بالسلوك الاجتماعي، وهي تتعدد بتعدد الاهتمامات، ومن ثم أصبح من الصعوبة بمكان الاتفاق على مفهوم الثقافة والتحديد المعرفي للمثقف، والبعض يربط الثقافة بالسلوك الحضاري المتمدن، ويجعل المثقف بازاء الرجل البدائي,أما التقنية: فهي مجموع الطرق المستخدمة للاختراع ومجموع الآلات المستخدمة للانتاج، وتسمى التكنولوجيا , وقد تكون بالتعريب لا بالترجمة فيما يغلب على الذهن أقرب الى جذر تقن والاتقان الاحكام والتجويد، وفي القرآن صنع الله الذي أتقن كل شيء .
ولكنني لا أجزم بأنها ترجمت لتعني الاتقان، اذ لم يسعفني الوقت لتقصي مقاصد التعريب وعلاقة التقنية بالاتقان , والتقنية: اختراع الآلة وتطويرها، واستغلال الأشياء بواسطتها، وقد بدأت منذ أن استخدم الانسان الآلة معتمدا على طاقته الذاتية وعندما اكتشفت الطاقة لتقوم بتحريك الآلة باشراف مباشر من الانسان، وعندما أصبحت الآلة أتوماتيكية تعتمد على البرمجة والذكاء الصناعي الى ما نعايشه الآن من أمور مثيرة ومدهشة، والعالم اليوم في سباق محموم، يكاد يفوت على البعض القدرة على المتابعة والرصد، ومما لاشك فيه أن التقنية سلاح ذو حدين، وأن التعامل مع المنجز العلمي والصناعي يحتاج الى وعي حضاري، يمكن من السيطرة والتفاعل والاستغلال الايجابي.
والتقنية إذ تكون نعمة في شيء، فهي نقم في أشياء كثيرة، ولا أدل على ذلك من المفاعلات النووية: السلمية والحربية، ثم هي قد فصلت الانسان عن فطريته، وعقدت حياته، وتقنية التنقيب والحرث والنقل والتصنيع ذات فوائد وأضرار وتحديات، وقد تكون التقنية داخله في قانون التدافع والتمانع لحفظ التوازن في الكون، فالردع النووي منع الحرب الكونية، والتفوق التقني وفر الزعامة العالمية لبسط النفوذ وكف الاعتداء وهمجية القتل، والتقنية من زيادة الحياة الدنيا التي وعد الله بها.
ومن فوائدها: زيادة الانتاج، وتحسينه، وتخفيض العمالة والجهد والتكلفة وسهولة العمل، واستغلال الطبيعة، ومواجهة متطلبات الانفجار السكاني، والتغلب على الصعوبات والتصحر والسيطرة على بعض السنن الكونية التي هي من ظاهر الحياة الدنيا، والسرعة في الاتصال والتنقل وغزو الفضاء وأعماق المحيطات واكتشاف ما تيسر من أسرار الكون، وتوفير الجهد والوقت، ونشوء مفهوم القرية الكونية، ولولا الآلة والطاقة والوسيلة لما تيسرت الحياة بهذا الشكل,ومن أضرارها: تلوث البيئة، وبخاصة النفايات النووية والعوادم التي أدت الى ظاهرة الثقب والأمطار الحمضية، واستنزاف الموارد الطبيعية بشكل بشع، واستغلال ثروات الشعوب الفقيرة، والقضاء على الحياة الفطرية، واستفحال البطالة لوجود الانسان الآلي والأجهزة والمعدات الدقيقة والثقيلة، والاستغناء عن التفكير في مواجهة الأشياء المخزونة في الذاكرة مع حلولها كالحاسوب والذكاء الصناعي، وفوق كل ذلك العبث الطبي والمخبري في ظل التوصل الى شفرات علمية دقيقة: كالاستنساخ والشفرة الوراثية واستعارة الأرحام.
أما التحديات: فمنها مواجهة التلوث وتنقية البيئة، وحماية الثروة والموارد الطبيعية، والحيلولة دون انقراض الحياة الفطرية، وحفظ التوازن بين الطاقات والقدرات، والاعتماد على الذكاء والمهارات البشرية، فالذكاء الصناعي والمهارات الصناعية قللت من قيمة الانسان الذي اخترع الآلة الذكية، والتقدم الصناعي غير المفاهيم والأولويات الثقافية، وجاء بمفاهيم لأمية جديدة، كأمية التخصص، وأمية الكمبيوتر وغيرهما، إذ لم تعد الثقافة مجرد القراءة واقتناء الكتب، إن هناك ثقافة بل ثقافات أخرى تتعلق بالمستجدات الآلية وكيفية استعمالها والوصول الى المعلومات والمعارف عن طريقها، ومن ثم فإن الآلة عقدت الحياة، وربطت الانسان بالآلة بحيث حدت من استقلاليته، وأصبح جزء كبير من حياته لا يتم إلا عن طريق الآلة.
والثقافة ترتبط بالتقنية، ارتباط عموم وخصوص، فالتقنية جزء من الثقافة، والثقافة منتج عدة عوامل منها التقنية، وكأنها الأمَة تلد ربَّتها , جاء في الموسوعة العربية العالمية المجلد الثامن الصفحة 28:فالثقافة تشتمل على الفنون والمعتقدات والأعراف والاختراعات واللغة والتقنية والتقاليد فالتقنية جزء من الثقافة، والثقافة منتج التقنية، أو أن التقنية من مصادر الثقافة، وتلك حقيقة قد تدخلنا في دوامة الحلقة المفرغة، وليس بالامكان فك التداخل والتفاعل والاشتباك, ومن الخطأ الكبير أن نفصل بين التقنية والثقافة، إذ التقنية وليدة العلم والثقافة.
فالثقافة والتقنية تتفاعلان لانتاج الوسائل والمسائل : وسيلة الانتاج المادي والمعنوي، والمسألة العلمية أو الأدبية أو الثقافية, فالمسائل تساعد في السيطرة على الوسيلة وتطويرها, والوسيلة تعمق فهم المسألة، واذا كانت المكتسبات الثقافية تتغير وتتبدل فإن التقنية تتطور، ونحن نسمع بأجيال الكمبيوتر وسرعة التطور فيه.
ولكي أقرب الصلة بين الثقافة والتقنية أضرب مثلا بالطباعة ، فالطباعة تقنية ومنتجها ثقافة, والعلاقة الأقوى أن العلم مشروع منظم للمعرفة والاكتشاف والسيطرة، والتقنية آلية للانتاج وتحسينه، ومن الانتاج المعرفة التي جاءت الطباعة خطوة أهم للانفجار المعرفي، والطباعة تطورت: مادة وشكلا ومرونة، حتى لم تعد حرفا من الرصاص يلتقط باليد ليوضع في مكانه، وانما كانت رمزا مختزنا في أقراص.
وثقافة التقنية تختلف عن تقنية الثقافة ، فثقافة التقنية: تعيد مصدرية الثقافة الى التقنية, نقول: ثقافة الكتاب، وثقافة المشافهة، وثقافة الكاست، وثقافة الفيديو، وثقافة الانترنت, أي أن الثقافة تأتي عبر مصادر تقنية، وتحفظ في أجهزة تقنية غير الكتابة القلمية، حتى لقد كان بامكان المستفيد أن يحمل مكتبته في جيبه، وأن يستعيد ملايين الموضوعات بواسطة الكمبيوتر المنقول معه في أي مكان, ولو دقت رؤيتنا لقلنا: إن الورق الأحبار وغيرها منتج تقني، فالثقافة التي نشاهدها ونسمعها من القنوات الفضائية أو نستدعيها من شبكات المعلومات أو من الأشرطة أو من سائر الوسائط المعلوماتية هي ثقافة تقنية بوصف التقنية وعاء ومصدرا، ولهذا ألف تراتك كيلش كتابه ثورة الانفوميديا وأكد على أن الوسائط المعلوماتية قادرة على تغيير الحياة والعالم، حتى لقد عرفنا حرب الكاست في الثورة الايرانية، وكذلك اشار توماس كوك في كتابه بنية الثورات العلمية , وجاءت اشارات خاطفة في كتاب التنمية الثقافية للفيف من خبراء اليونسكو, وتجلت المخاوف على اللغة العربية بوصفها الوعاء الأهم للثقافة من استفحال التقنية في كتابين هامين:
العربية لغة العلوم والتقنية للدكتور عبدالصبور شاهين .
اللغة العربية والتقنيات والمعلومات المتقدمة, لعدد من الباحثين نفذت أعمالهم في المؤتمر الدولي, ونشرت البحوث في مجلة التواصل اللساني .
ما أشرت اليه سلفا لون أو طريقة من ثقافة التقنية ترتبط بالمصدرية, وهناك لون آخر من ثقافة التقنية يعني معرفة التقنية لا عن طريق التخصص التقني وحسب، وانما عن طريق الفهم لهذه التقنية وحسن استعمالها، ومن ثم فإن ثقافة التقنية ربما تعني الى جانب ما سبق المكتسبات المعرفية للتقنية والخبرات التقنية، وهذا غير مقصود في حديثنا هذا، فالمهندس والصناعي والمهني، يكون لديهم معرفة بخصائص الآلة واسلوب استعمالها وطرائق اصلاحها وسماتها ووظائفها ومستوى جودتها, ومن ثقافة التقنية التي لا تعنينا في بحثنا هذا وثائق التنميط، أو ما يسمى بالكتلوج وهو توصيف للآلة ووضع طريقة للاستفادة والتشغيل والصيانة وحماية المستهلك من أضرارها الجانبية وزيادة الانتاج ورفع الجودة وتسهيل التبادل، وكل ذلك يعني المعرفة بالآلة وجودا واستعمالا، ومثل هذا المكتسب يسمى ثقافة التقنية وعلى هذا الأساس فإن ثقافة التقنية تعني شيئين هامين: الاستفادة من امكانيات التقنية المعرفية والمعلوماتية، والمعرفة بذات التقنية، ولا يمكن الاستفادة من ثقافة التقنية إلا بمعرفة استعمال التقنية, أما تقنية الثقافة فهي الأخرى ذات دلالات متعددة تحددها مقاصد المتحدث، وتعني فيما تعني التحول من مصادر الثقافة التقليدية كالكتاب مثلا الى مصادر أخرى جديدة، كالأشرطة والانترنت وغيرها، وتعني أشياء أخرى تتعدد بتعدد التصورات والمقاصد.
والعصر المعاش ذو حضارة آلية وتقنية متطورة، والصراع الحضاري أشد بأسا واشد تنكيلا من الصراع العسكري، فالحضارة والثقافة والاقتصاد والسيطرة العلمية كل ذلك مرتبط بالتفوق التقني، وما علينا إلا أن ننظر الى اليابان وما تشكله من خطر على الولايات المتحدة، وهي دولة لا تملك سلاحا ولا تفكر في انتاجه, إنها حرب الكمبيوتر والأجهزة الدقيقة.

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved