أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 28th June,2000العدد:10135الطبعةالاولـيالاربعاء 26 ,ربيع الاول 1421

الثقافية

غازي عبدالرحمن القصيبي ,,و حياةٌ في الإدارة
*قراءة وتعليق: حنان بنت عبدالعزيز بن سيف
فن الترجمة الشخصية فن حاكى فيه العرب من سبقهم، حيث قلدوا اليونان الذين ترجموا لأنفسهم، فالفلاسفة لهم تراجمهم، وللعلماء والمتصوفة والسياسيين كذلك تراجمهم الخاصة بهم، ولكل منهم منحاه الخاص به، وطريقته المميزة له عن غيره، ثم ما لبث أن انتقل هذا الفن الى العرب، وتطور تطوراته الطبيعية الزمنية التي يخضع لها كل فن جديد، حتى وصل في عصرنا هذا الى شكلين الأول: التراجم الذاتية التي تستوعب المولد والنشأة والتعليم والأسرة، والتطرق الى كل شاردة وواردة في الشخصية مع تسليط الضوء على مناقبها وفضائلها، وكشف القالب النفسي للقارىء حتى يعرف هذه الشخصية عن كثب، ويمثل هذا الاتجاه الأديب طه حسين في (الأيام) والأديب أحمد أمين في (حياتي)، والثاني: القصة التي اذا جُردت من الرمز دلت على كاتبها، وإن كانت لا تستوعب الشخصية كما تستوعبها الترجمة الذاتية، ويمثل هذا النمط قصة (ابراهيم الكاتب) للأديب ابراهيم المازني وقد كُتبت هذه التراجم في اتجاهات شتى أدبية وتاريخية وسياسية وفلسفية، ولكن أن تكتب هذه التراجم ناحية منحى المسلك الاداري فهذا هو الجديد، وقد كتب الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي كتابا اسماه (حياةٌ في الادارة) وقد طُبع اربع طبعات متتاليات، خلال عامين من صدوره، وهو صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الكائنة بمدينة بيروت العامرة، وبين يديّ الآن الطبعة الرابعة، ويقع الكتاب في ثلاثمائة وتسع صفحات من القطع الكبير، وفي بدء الكتاب اشارة للمؤلف ذكر فيها أنه حينما بلغ الستين من سني عمره الزاهر، رأى أن الوقت قد حان للكتابة عن سيرته الادارية، وقد كانت هذه الرسالة الادارية البليغة موجهة الى فئتين: الاولى: نشء الجيل الصاعد والثانية: جيل الاداريين الشاب الصاعد، وقد تمنى مؤلف الكتاب لهاتين الفئتين ان تجدا فيها النفع والرشاد، وان تتذوقا نكهة الثورة التنموية التي عاشتها المملكة وعاصرها مؤلف الكتاب.
ويسير الكتاب على محور ثابت وهو تسجيل تجربة غازي القصيبي الادارية الشخصية، ولد القصيبي في الاحساء عام 1940م/1359ه في وقت لم تكن المملكة تعرف فيه شهادات الميلاد، ولد في بيئة حزينة، حيث نشأ محروما من حنان الام الرؤوم، التي توفيت بعد مولده بتسعة شهور، فترعرع هذا الصبي اليافع بين مد وجزر، بين جدته لامه التي تتسم بالشفقة والحنان المفرط، وبين أبيه الذي تتسم شخصيته بالشدة والصرامة، وحين بلغ الصبي السادسة من العمر، انتقلت الاسرة الى البحرين، ثم أُدخل المدرسة الابتدائية الشرقية في المنامة، وهنا بدأ عالم القصيبي الاداري الحقيقي ، حيث يتساءل في اول استهلالة له في كتابه: متى تبدأ علاقة الطفل بالادارة؟ ويرى هذا الاداري الفذ انها تبدأ بمجرد ان يدرك الطفل انه كائن حي يعتمد وجوده على قرارات يتخذها الآخرون حياله، وأما السن الذي تبدأ فيه علاقة الطفل بالادارة فهو الخامسة، وفي المدرسة الابتدائية زاول أول مهمة ادارية في حياته وهي سلطة الطالب المراقب، وبعد المرحلة الابتدائية انتقل المؤلف الى المرحلة الثانوية، تبعا لنظام التعليم السائد في البحرين آنذاك، ثم الى كلية الحقوق في جامعة القاهرة، وبعدها جاءت مرحلة الدراسات العليا التي عُنيت بدراسة العلاقات الدولية، حيث كان موضوع الماجستير دراسة عميقة لعالم السياسة الالماني الامريكي الشهير هانس ج مورجنثاو، وتعتبر هذه الدراسة من اهم الروافد الاساسية التي شكلت شخصية القصيبي الادارية، ولم يلتحق المؤلف ببرنامج الحصول على درجة الدكتوراه مباشرة، بل فصل بين المرحلتين بفترة عمل، وهنا سؤال يطرح نفسه، لِمَ لم يتجه القصيبي الى مهنة والده التجارية؟؟ ويجيب: (هو انني خُلقت بلا مواهب تجارية، لم أحس قط بذلك التحرق الى جمع ثروة طائلة)، وبعد مرحلة العمل عقد المؤلف العزم على مواصلة الدكتوراه، وألقى عصا الترحال في لندن، وكان موضوع رسالته اليمن ثم كانت العودة الى الجامعة مع بداية سنة 1971م (1391ه) وفي تلك الفترة عُين عميدا لكلية التجارة وقد كانت له يد فاعلة ونشطة في تغيير مناهج كلية التجارة وتوسيع مادتها العلمية، وفي تلك الفترة رغم نشاطه وجهوده كان يشعر بالغربة في عالم الجامعة الاكاديمي، فهو كما وصف نفسه غريب في ارض غريبة، حيث كانت هذه الغربة وراء اتخاذ القرار الاخير الذي كان في ربيع سنة 1973م/ 1393ه وهو السكة الحديد، ويقول: (ليس من حق الجامعة ان تأوي الى جبل يعصمها من طوفان التنمية، فتعتزل المجتمع بخيره وشره، وتنصرف الى كتبها وطلبتها وهمومها الصغيرة، ان مكان الجامعة الطبيعي هو في قلب الاعصار، في تنور الطوفان، عند دفة القيادة من فُلك التنمية) فلله درُ القصيبي من قائد اداريّ محنك، ثم خاض تجربة جديدة وهي الوزارة، حيث عُين وزيرا للصناعة والكهرباء، ولعلك تعجب حين تعلم ان هذا الوزير الجديد لم يصلح عبر حياته كلها فيوزا واحدا، بل كان لا يعرف الفرق بين (الكيلوات) و(الميجاوات)، وهل بالضروري من هذا المنطلق ان يكون الوزير متخصصاً؟ (القصيبي يجيب ص 132، فراجعه هناك).
وفي خريف سنة 1982م (1402ه) جاءت التجربة مع وزارة الصحة، وبعدها عُين سفيرا للمملكة في البحرين، ويصف القصيبي هذه المرحلة بأنها من اخصب مراحل حياته فكراً وثقافة، بل من اسعد مراحل حياته قاطبة، واخيرا كانت المهمة الحالية، وهي السفارة السعودية في لندن، حيث بدأت سنة 1992م/1412ه.
ومن خلال قراءتي في الكتاب كانت فلسفة القصيبي تتجلى من خلال سطور كتابه، وعرضه لاهم وابرز محطات حياته، فينسج بيراعه كل طور من اطوار حياته، ثم يسجل انطباعاته الذاتية عنه، وكيف اثرت كل مرحلة في تشكيل حسه الاداري، وسلبيات الطور وايجابياته، كل ذلك يأتيك في انسياب رائع، يزيدك شغفا وحرصا على القراءة، ومتابعة الاحداث مع المؤلف، في هذه السيرة ذاكرة قوية جدا وشخصية موهوبة قوية تشع اشعاعا لا يخطئه احد.
في هذا الكتاب قدم القصيبي اكثر من عشرين نصيحة للاداري الصاعد، وقد جاءت مبعثرة في ثنايا حديثه، وتطوي هذه السيرة في ثناياها تجارب ستين عاما بما فيها من اخفاق ونجاح وتعب وراحة، القى المؤلف عصاه في ارض الادارة والسياسة، فتحدث عنها حديثا مسهبا، ولم يترك شاردة ولا واردة الا المح اليها، فكأني به يحمل في جيبه آلة تصويرية دقيقة لا تترك شيئا الا اتت عليه، اهتم المؤلف في سيرته هذه بالتسلسل الزمني المنطقي للحدث، ولم يقسم سيرته الى فصول او يبوبها في ابواب.
في هذا الكتاب وثائق نفسية نادرة عن اداري عبر سلك المهنة فوجد فيها الكثير الكثير، ونحن هنا ازاء شخصية كبيرة لآرائها اهمية كبيرة في شؤون التعليم والادارة والسياسة، من حيث المناصب التي تقلدتها، وما رأت من عوامل القوة والضعف، وتعتبر هذه السيرة وثيقة خطيرة عن تاريخ التنمية في المملكة تزخر بمادة وفيرة وثرية لتاريخنا التنموي وما فيه من وقائع واحداث ورجالات وبطولات.

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved