أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 28th June,2000العدد:10135الطبعةالاولـيالاربعاء 26 ,ربيع الاول 1421

الثقافية

ظاهرة أدبية
اللغة,, والوطن,, وجنسية الكاتب
محمود قاسم
الكتابة حول الأديبة الفرنسية ماري كاردينال تثير الكثير من النقاط,, منها اثر الحياة الشخصية للكاتب في كتاباته، والشخصيات التي يرسمها والعالم الذي يضع حدوده,, ومنها وجود الادب النسوي,, ومنها هوية الكاتب أو بالأحرى انتماؤه إلى جنسية معينة,, فبلا شك ان ماري كاردينال قد تأثرت كثيرا بظروف حياتها وسجلت دقائق هذه الحياة في روايتها,, فتكلمت عن اسرتها والشخصيات التي تعرفت بها والذين اثروا فيها,, وتمثلت شخصيتها في بطلاتها اللاتي اسمتهن باسمها,, وعشقت الاماكن التي عاشت فيها خاصة الجزائر التي بدت شديدة التأثر بها,, وسوف نرى ان العلاقة التي سادت بين والديها قد تكررت في أكثر رواياتها,.
ولأن ماري كاردينال امرأة تعيش كل حياتها كامرأة,, فإنها عكست هذه المشاعر والحياة على رواياتها، ولذا فإن العالم الذي ترسمه ماري هو عالم نسوي بالدرجة الاولى,, انه اشبه بعالم كل من كلير اتشرللي التي احبت رجلا جزائريا,, وأناييس بين وأوريانا فالاتشي.
أما السؤال الثالث المطروح فهو,, هل ينتمي الكاتب إلى البلد الذي يعيش فيه ويحمل جنسيته منذ سنوات قليلة أم إلى البلد الذي نشأ فيه وتربى وعاش طفولته وتعلم فيه كل البديهات؟
البير كامي فرنسي أم جزائري؟ ,, بيكاسو وسلفادور دالي ولوي بونيل,, هل هم اسبانيون, نفس السؤال يمكننا ان نطرحه بالنسبة لماري كاردينال التي عاشت في الجزائر اكثر من خمسة وعشرين عاما تتنفس هواءها وتعيش على ارضها,, تفكر بنفس الاسلوب الذي يفكر به اهل البلاد,, وبالتالي لا يمكن ان نقول انها كاتبة فرنسية فقط,, أو جزائرية,, لأنها وهي تعيش في فرنسا تطاردها ذكريات السنوات الطويلة التي عاشتها في الجزائر.
ولدت ماري في مدينة الجزائر في 9 مارس 1929,, أحبت هناك رجلا جزائريا وتزوجته عام 1953 بينما كانت تدرس الفلسفة في الجامعة,, لكنها ما لبثت ان انفصلت عنه بعد ان انجبت منه ثلاثة ابناء رحلت بعد طلاقها إلى باريس لتعمل مسؤولة في دار كبرى للنشر، قامت بطباعة كل رواياتها التي بلغت عشرا ومن أهمها: استمع إلى الموسيقى 1970 والمفتاح في الباب 1973 والكلمات للتفوه 1975 وحياة لاثنين ,, ثم حيث مسقط رأسي 1981 وأخيرا الماضي المغتصب عام 1983 وأيامي 1999 حيث تروي وقائع طويلة من حياتها التي عاشتها في مدينة الجزائر.
وفي الدراسة التي قدمتها مجلة الاكسبريس حول الادب النسائي المعاصر اعتبرت ماري كاردينال احدى عشر نساء اهتم من كثيرا بالحياة الخاصة للمرأة وبوضع بصمات نسوية حول عالمها,, ففي روايتها المفتاح في الباب نجد انفسنا أمام امرأة تدعى ماري متزوجة مثل معظم نساء الكاتبة,, انها لم تعش بعيدا عن زوجها وتحاول ان تتصرف بطريقة متسامحة تجاه ابنائها,, تمنحهم حريتهم,, والمفتاح في الباب تعني انهم يدخلون ويخرجون كما يشاؤون ويأتون بزملائهم في كل الاوقات، يختارون اعمالهم ويمارسون حياتهم كما يودون,, لكن هل هذا شيء سهل؟ فالأم تشعر ان أولادها اصبحوا اكثر تحررا منها,, انها لا تزال شابة وجميلة,, في الصباح تعمل مدرسة وتلاميذها في نفس سن ابنائها وعليها ان تمارس معهم سلوكا مشابها,, لكن لهؤلاء التلاميذ آباء وأمهات يفكرون بأسلوب مختلف,, ولأنها دائما مقيدة ببرنامج دراسي عليها ان تنفذه,, فإنها تشعر بالتناقض داخلها,, تتعرف على طبيب له نفس افكارها تشعر انه من نفس فصيلة رجلها القديم الذي هجرها,, لكنها ترفض الارتباط به فهو يشكل بالنسبة لها قيدا يضع شروطه على اسلوب وضع المفتاح في الباب.
وليس هناك شك ان ماري بطلة هذه الرواية هي نفسها الكاتبة التي عاشت ظروفا مشابهة مع ابنائها بعد طلاقها من زوجها لا يوافق الرجال ان المرأة في سن الاربعين يمكنها ان تكون سعيدة وان تعبر عن مشاعرها,, وان تعيش حياة رائعة دون رجل في منزلها .
وعن تجربة تحويل روايتها إلى فيلم سينمائي قامت ببطولته آني جيراردو وباتريك دوفا تقول: ما يعجبني في هذا الفيلم ان آنى جيراردو كانت لديها الرغبة ان تصبح ماري، وكم كان هذا رائعا احب أيضا ان أرى الكلمات تتحرك وهي تخرج من رأسي,, ويعجبني أخيراً أن مديرة الليسيه هي نموذج المرأة,, عندما كتبت روايتي الاولى استمع إلى الموسيقى كتبتها كأنني اصنعها فيلما, فالسينما تعبير افضل خاصة بالنسبة للأسرة.
في روايتها الكلمات للتفوه تروي قصة امرأة شابة تتردد على عيادة احد الاطباء النفسيين يودعها احدى المصحات النفسية,, لكنها تود ان تهرب منها,, ثم تتردد عليه مرة اخرى في عيادته,, تود ان تنجب منه طفلا,, انها تعاني من رعاف دائم,, ومرضها في حاجة ان يوقفه شخص ما,, انها تتصور ان الطبيب يمتلك عصا سحرية يشفيها بها على الفور دماؤك لاتهمني,, حدثيني عن شيء آخر فالمرأة تشعر انها غير محبوسة داخل جسدها,, لكن داخل امتناع يطفو فوق دماء من كلمات,, تحدثه عن علاقتها بأمها عندما أبدأ في الحديث عن أمي فإنني لا أستطيع ان أكف عن الكلام، بينما انت لا تكف عن التحليل ,, تقول انه في أرص بعيدة كانت تعيش هذه الأم بلا رجل,, امرأة لا تحب الرجال لكنها تود ان تنجب فتاة جميلة مثلها.
وعن هذه الرواية كتبت مادلين شابسان في مجلة الاكسبريس في 6 يونيو 1976 ان هذه الرواية هي سيرة ذاتية نسوية تقليدية حول امرأة تعترف بما يتعلق بحياة تحليلية ، فالمرأة يتم علاجها ولكن ببطء شديد للغاية,, ان علاجها ليس سوى كلمات بسيطة تتبادلها مع طبيبها الذي تحبه.
أما روايتها حياة لاثنين فهي تصور حياة سيمون، هي امرأة أخرى لكنها تشبهها كثيرا,, بعد عشرين عاما من الزواج ضحت فيها سيمون بأشياء كثيرة مع زوجها جون فرانسوا ها هي تقوم معه برحلة إلى ايرلندا,, هناك يعثران يوما على جثة ملقاة بجوار الشاطئ,, الذباب يحوم فوقها,, انها امرأة انتحرت,, يذهب الرجل إلى خانة القرية اما سيمون فإنها ترى ان هذا الحادث له علاقة بزوجها فربما ان صاحبة الجثة هي احدى نساء احطن يجون فرانسوا,.
تتخيل انها تعود إلى الشاطئ كي تمنح الجثة الحياة مرة أخرى,, يوافق زوجها ان تفعل ذلك فالجثة تكبر وتتضخم,, لكن كيف تتخلص منها,, يقرأن رواية حول حادث مشابه وصفته روائية أمريكية معروفة هي ماري كاكفلين في احدى رواياتها, في هذه الرواية تتقاطع الفصول مع بعضها مثلما تتقاطع النيران مع الاسماك والرمال,, هذه اللعبة الغريبة قد لا تختلف عن واقع بشع عاشته,, يتحول الكتاب فجأة إلى حياة لثلاثة اشخاص,, تتدخل الكاتبة كي تحدد مصير أبطالها,.
هناك امرأة ليلة تركها رجل,, تعاني من أمومة ضائعة، تسخر منها الفتيات الجميلات,, تعود إلى ماضيها البعيد في شمال افريقيا حيث لعبة البلياردو والمغامرات العاطفية,, تتمنى ان تعود تلك الايام بلا عودة,, لكن شاءت ام أبت لن تعود,, وعليها ان تسير مرة اخرى فوق الشاطىء علها ترى جثة اخرى ينهش فيها الذباب.
نفس المرأة والعالم تستكمل المؤلفة تصويرهما في روايتها حيث مسقط رأسي ,, حين تعود إلى ماضيها البعيد,, هناك في الجزائر حيث ولدت وعاشت اكثر من خمسة وعشرين عاما,, تتحدث عن ذكرياتها هناك,, طفولتها وشبابها ما أبحث عنه ليس هو مما ينتمي الى العقل, انه شيء ما يأتي من الارض والسماء والبحر,, ان تعيش هناك وان يتغير هذا في داخلي بكلمة حياة .
لماذا هذه الرغبة في ان أقول شكراً والدموع تملأ عيني؟ ان حياتي ككاتبة تطاردني في كتبي, وفي الكلمات التي اسطرها,, لم أكف عن الكتابة في روايتي هو كيف ان هذه الارض قد علمتني الحب؟.
وهذه الرواية ليست اكثر من ذكرى تهفو داخل الكاتبة التي تستعذب الكتابة عن نفسها، تتذكر اوقات القيلولة وحرارة الشمس التي تلهب المكان,, السماء بيضاء,, تذكر الشوارع المليئة بالضجيج والكلمات التي كانت ترددها امها التي لم تكن تحادثها سوى عن وضعية المرأة في كل ليلة: إذا لم استطع ان اعرف السوء الذي سيحيق بي، إذا كان علي أن أطلق تحذيرا، فيمكنني أن أتخيل ذلك الجرح الغائر الذي يجتاحني, استطيع ان أطلق صيحة ولا أسمع الكلمات التي تسقط فوقي .
وفي ذلك اليوم صرحت لها امها أنها طلقت ابان حملها بها, فعلت كل ما تستطيع كي تتخلص منها تكلم الآخرون عن الثمرة التي سوف تلفظها وانها ستسقط من الشجرة قبل قطفها,, لم تتردد ماري كاردينال قبل الكلمة فهي اساسا كلمة,, لقد اعتادت ان تمتعها الصدمات,, لكنها هذه المرة تحس ان كل شيء يشترك في تحطيمها,, ترى ان كل شيء لم يعد يخصها في المدينة,, السماء,, البحر,, الجبال,, انا مصابة بها,, لقد اصبحت أمي وأحببتها كلما وددت أن أحب,, لكن هل تستطيع ان تغير أمها، انها ترتجف عندما تفكر أنها يمكنها ان توجد في الدنيا دون أم، استطاعت الجزائر ان تستقل وتلقي بالاستعمار الفرنسي جانبا وعليها ان تعيش مستقلة غير تابعة مثلما فعلت ماري كاردينال التي استمدت من هذه المواقف كل ما عبرت عنها فأبوها عربي متزوج من أمها وهجرها وما لبثت الام ان اعطتها اسم اسرتها ولم تشأ ان تعطيها اسم أبيها، ولذا فإن تجربة الزواج بالنسبة لها كانت خارج اطار الاهتمام، لكن الكاتبة عندما تعود إلى هذه السنوات فإنها تنكر كل ما فعلته أمها، وتقول ان الجزائر أصبحت كل أمهاتها، فهي التي ارضعتها لدرجة أنها كانت تفخر دائما وهي تسمي نفسها فتاة الجزائر .
هذه الرؤى التي تحملها ماري كاردينال تجاه الاشياء طبعتها من جديد في كتابها الماضي المغتصب انها دائما تعود إلى ايام عاشتها بعيدة,, فبعد ان قامت المؤلفة من خلال وقائع حياتها وأحداث رواياتها بتجربة انجاب ثلاثة ابناء وقضت اوقاتا عديدة على مائدة المحلل النفسي وجدت نفسها وحيدة، مطلقة تعيش داخل منزل كبير تنتظر وصول الامير الساخر، تقف خلف زجاج نافذتها تتطلع إلى الطريق، تتذكر اباها الذي يخترق اعماق ذكرياتها، ينتزعها من وحدتها، انه السبب الاول لوجودها، لم يعرف حتى الآن بحادثة الدراجة البخارية التي أتت على والديه لأنه لم يكن يتقصى اخبار أسرته التي هجرها إذا رويت حكايته,, فسوف تسقط مني .
ماري كاردينال هي ابنة ميديا، لكنها استطاعت ان تنهض وتقدم للعالم صورة أمها التي علمتها الكراهية، ولذا فإنها احدى الكاتبات القليلات في فرنسا اللاتي انتشرت كتبهن خارج البلاد في السنوات الاخيرة فترجمت إلى أكثر لغات أوروبا.

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved