أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 1st July,2000العدد:10138الطبعةالاولـيالسبت 29 ,ربيع الاول 1421

مقـالات

آفاق وأنفاق
مشائيم تناقل أخبارهم الرواة
(غراب البين وأشياء أخرى)
د, محمد العيد الخطراوي
لم تكن نظرة العرب إلى الشؤم والمشائيم، مرتبطة بالأناسي فقط، بل شملت بعض الطيور والحيوانات والأشياء أيضا، ومن ذلك قولهم: (أشأم من رغيف الحولاء), وكانت الحولاء هذه خبازة في بني سعد بن زيد مناة (ثمار القلوب ص3) كانت تعيش في جوار أحد كبرائهم، مرت ذات يوم وعلى رأسها كارةُ خبز: (الكارة: ما يجمع ويحمل على الظهر أو الرأس، من طعام و ثياب)، فتناول رجل من رأسها رغيفا، فغضبت لذلك، وقالت له: مالك عليّ حق، ولا استطعمتني، فلماذا أخذت رغيفي؟ أما إنك ما قصدت بهذا إلا فلاناً تعني الرجل الذي هي في جواره وانطلقت إلى مجيرها باكية شاكية، فثار وجرى الدم في عروقه، واعتبر ما فعله الرجلُ موجها لكرامته، وثار معه قومه واشتبك انصار الرجلين من أجل هذا الرغيف، وسقط بينهم قتلى كثيرون أوصلتهم القصة إلى ألف نسمة، وصار لذلك رغيف الحولاء مثلا يضرب في الشيء اليسير، يجلب الخطب الكبير.
وقد استثمر ابن العميد هذا المثل في رسالته إلى أبي العلاء السَّروّي، التي كان ينكر فيها تعصُّبه للعجم على العرب، فقال: (اقبل وصية خليلك، وامتثل مشورة نصيحك، ولا تتمادَ في ميدان الجهل يُنضِك: أي يضعفك، ويصيبك بالهزال، والصواب: ان يقول: ينضيك، بالرفع الانه لا يصح تقدير إن الجازمة، ولا يستقيم المعنى معها، فلا يقال: إن لا تتماد في ميدان الجهل يُنضك، إذ الانضاء مترتب على التمادي لا على عدم التمادي)، ولا تتهافت في لَجاج يغريك, واخش يا سيدي ان يقال: التحمت حرب البسوس من ضرع دمِيَ، واشتبكت حرب غطفان من أجل بعير قُرِعَ، وقُتل ألف فارس برغيف الحَولاء، وصبَّ الله على العجم سوط عذاب بمزاح أبي العلاء).
وقالوا: (بِكرُ بِكرَين شيطان)، والبِكر: أول ولد الرجل، أو المرأة، فإذا كان أول ولد الزوجين معاً فهو بِكرُ البِكرَين، والعرب تتشاءم بالبكر إذا كان ذكراً، فإذا كان بكر البكرين، كان نهاية في الشؤم عندهم, يقول أحد الشعراء في غلام كان بكر بِكرين: (ثمار القلوب ص666):


يا بكر بكرَين، ويا خِلبَ الكبِذ
أصبحتَ مني كذراعٍ من عضُد

ويضرب العرب المثل في اليوم المنحوس ب(يوم عَبيد)، وكان عَبيد بن الأبرص، وهو أحد شعراء المعلقات، قد تصدّى للنعمان بن المنذر (ثمار القلوب ص215) في يوم بؤسه، الذي كان لا ينجو منه من لقيه فيه، كما تقول القصة، ولا يخيب من لقيه في يوم نعيمه، فقال له: يا عَبيد، إنك مقتول، فأنشدني قولك: (أقفر من أهله ملحوب)، وهي معلّقة (عَبيد) المشهورة، فأنشده:


أقفر من أهله (عَبيدُ)
فاليوم لا يبدي، ولا يُعيدُ

ثم أمر به فقُتِل، وصار يومُ (عبيد) مثلا، قال أبو تمام:


لمَّا أظلتني سماؤك أقبلت
تلك الشهودُ عليَّ، وهي شهودي
من بعد أن ظن الأعادي أنه
سيكون لي يومٌ كيوم (عَبِيد)

وقال الجاحظ في الحديث عن الغراب (الحيوان 2/315): غراب البين نوعان: أحدهما غِربان صغار تجمع بين الضعف واللؤم، والآخر: كل غراب يتشاءم به، فإذا تعب أو ظهر، كان عندهم نذير شرِّ وخراب، ذلك أنه لا يوقّع إلا في منازل القوم الراحلين ومواضع بيوتهم، يلتمس ما تركوا من بقايا تصلح لطعامه، ولا يعتريها إلا إذا بانوا، فسمّوه غراب البين، واشتقوا من اسمه: الاغتراب، والغُربة، وليس في الأرض بارح ولا قعيد، ولا شيء مما يتشاءم به، إلا والغراب عندهم أنكد منه.
قال الثعالبي (ثمار القلوب ص458): وللبديع الهمذاني ما يؤكد هذا المعنى، وذلك حيث يقول: ما أعرِف لفلان مِثلا إلا الغراب، لايقع إلا مذموماً، على أي جنب وقع، إن طار فمقسَّم الضمير، وان وقع فمروِّع بالنذير، وإن حجل فمشية الأمير، وإن شَحَجَ (الشَّحيج: صوت الحمار أو البغل) فصوتُ الحمير، وإن أكل فَدَبرَةُ البعير, (الدَّبرة بفتحات: القَرحة).
وقد اكثر الشعراء من ذكر غراب البين، وبخاصة في الهجاء والهجران، ومما ذكره الثعالبي في (ثماره) قول الشاعر:


يا غرابَ البين في الشؤ
م، وميزابَ الجنابه
يا كتاباً بطلاقٍ
وعزاءً بمصابَه

وقول الآخر:


بتُّ على رغم غراب البينِ
أنا ومن أُحبُّ ناعمينِ
قريرَ عين، بقرير عينِ
فظُنَّ ما شئت بعاشقينِ

وقال أحدهم يصف السمك والصياد:


أنعتُه: أبيضُ كاللجين
سمّاكُهُ اشعث ذو طِمرين
في اللون، لا الطيب: مُمسَّكينِ
أشدُّ شؤمَا من غراب البين

ومن مبالغات الناس في هذا الشأن، وضلالهم فيه، مغالاتهم في نسبة الشؤم للأمكنة والأزمنة والأنواء والبروج، ويرتب بعضهم حياته عليها، وذلك بالطبع مناف للعقيدة السليمة والتفكير الصحيح القائم على أساس متين من العقل السليم، والنقل الصحيح، وسيقول بعضنا كالعادة: ذلك يتم بحمد الله خارج مجتمعنا، وبعيداً عن حياتنا، وذلك ضرب الهروب، وعدم القدرة على المجابهة، وإلا فما زال منا من يهتم بقراءة البروج، ويؤمن بتأثيرها على حياته، وقد يتبع ذلك شيء من الاستدراج، ليعلم الله مدى قوة عبده المؤمن، الذي يؤمن بأن الله ربط بين عناصر الحياة بأربطة الاسباب، فلكل حادث محدث، ولكل مسبَّبات أسبابها ولا يمكن تعطيل الاسباب والتدخل فيها، إنما المتحكم فيها هو المسبِّب الحقيقي وهو الله تبارك وتعالى فهوالذي قد يعطلها ويبطل تأثيرها كما هو الشأن في المعجزات والكرامات، وما عدا ذلك مما يقوله بعض الناس فهراء وبهتان مبين.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved