أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 7th July,2000العدد:10144الطبعةالاولـيالجمعة 5 ,ربيع الثاني 1421

الثقافية

قراءة في آراء الفلسفة
في سنتي الجامعية الأولى بقسم علم النفس، وعلى وجه التحديد في الأسبوع الأول، سألت محاضر علم النفس العام سعادة الاستاذ الدكتور (معتز عبدالله) عن ماهية النفس وهو سائر عبر أروقة القسم متوجها الى مكتبه,, توقف ملتفتا إلي وقد ثبت عيناه على وجهي دونما تركيز وهو ساكن كالصمت، سارح بفكره الأكاديمي في ذاكرة الزمن او هكذا خيل لي,, قال: (إن النفس تخرج من نطاق اهتمامنا كأخصائيين نفسيين وذلك عائد الى عدم امكانية اخضاعها للبحوث العلمية والتجارب المخبرية) , استدار لوجهته وهو يقول: (إنك تستطيع ان تجد ضالتك في الفلسفة الإسلامية) وفي سنتي الثالثة بالقسم، وجدتني امر من امام مكتب الدكتور عبدالله الصبيح محاضر التراث النفسي وهو منشغل بالبحث في مكتبة مكتبه,, استأذنته في مشاطرته خلوته فأذن، سألته عن النفس ما هي؟ أين؟ وكيف؟ قال لي وقد عرفني دون ان يلتفت إلي (إن الروح من أمر ربها ياياسر، وللعقل حدود لا يستطيع ان يتعداها), خرجت بعد ان أذن لي وكلمات الاستاذ (معتز) ترن في أذني,, (انك تستطيع ان تجد ضالتك في الفلسفة).
استيقظت مساء ذلك اليوم في الساعة الثانية عشرة وقد هطل الليل بعباءته السوداء مشتعلا بنوافير الرياض الضوئية التي تلامس بقوة اندفاعها وجه السماء وقد تعطرت بروائح الصحراء الباردة.
جلست في الشرفة المطلة على الحديقة ارتشف بضع رشفات من قدح القهوة,, وأخذت اتطلع للسماء وفجأة اتجهت الى خزانة ملابسي.
مضى الآن على خروجي من المنزل نصف ساعة تقريبا, وها أنا ذا اقف بسيارتي امام صالون الفلسفة الذي يبعد عن مدينة الرياض كما تبعد هي عن نفسها,, اطفأت محرك السيارة وترجلت بخطى مترددة نحو بوابة الصالون الذي زاد بنقوشه الخرافية من رهبتي,, لم اشعر وسط التفاتاتي المبهورة بكل ما يصادفني إلا وانا اقف أمام الباب من الداخل، كانت جدران الصالون المتحلقة على منتصفه قد نقشت بنقوش توحي الى الرأي بعظمة فن مبدعها، وهي تسند ظهور ضيوفها الفلاسفة منعطفة تحتهم لتحملهم جلوسا على خمائل خضراء دس تحتها ريش النعام، وقد فصلتهم عن منتصف الصالون مناضد خشبية موشمة بنقوش معدنية، تحمل لهم على ظهورها ألوانا من الفواكه في سلال خشبية، وجرارا مذهبة للماء تشيعها اقداح مماثلة.
القيت عليهم السلام في وقت قد شغل منهم كل حاسة فلم احظى منهم برده, اتجهت الى طرف الصالون بخطى لص، وجلست دون حراك, انصت لهم وفهمت منذ الدقائق الأولى من مجلسي انهم قد افترقوا بآرائهم في ماهية النفس إلى ثلاثة اتجاهات.
الاتجاه الأول منكر للنفس مقر بالجسد، وهذا قول المعتزلة، وممن قال بذلك في مجلسنا (ابوبكر عبدالرحمن بن كيسان) حيث قال: (لا اعرف إلا ما شاهدته بحواسي), وقد وافقه على ذلك (الأصم) حين اردف قائلا: (انني لست اعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي اراه وأشاهده,, ان النفس هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا على وجه البيان والتأكيد لحقيقة الشيء لا على انها معنى غير البدن), أي ان (الأصم) كان ينكر وجود شيء اسمه النفس ويرى ان الروح هي الجسد وهو بذلك يفرق بين الروح والنفس أكد نظرة (الأصم) صوت جهوري منبعث من الجهة المقابلة التفتنا لمصدره فإذا هو صوت (ابن الهذيل),, (نعم، إن للنفس معنى غير الروح والروح غير الحياة والحياة عندي عرض ان كان هذا ما قاله (ابن هذيل) والعهدة على الراوي فإنه بذلك يثبت وجود النفس والروح ويفرق بينهما في آن واحد وان الإنسان في حالة نومه مسلوب النفس دون الحياة والشاهد في ذلك قوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها , ووافقه على ذلك جعفر ابن حرب حيث قال: إن النفس عرض من الأعراض توجد في هذا الجسم وهي إحدى الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما شابههما، وإنما غير موصوفة بشيء من صفات الجوهر والأجسام .
أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه مادي، إذ يعتقد بمادية النفس في الإنسان قال بذلك أبوبكر الباقلاني: (ان النفس عبارة عن اجسام لطيفة مشتبكة بالأجسام الكثيفة، اجرى الله العادة بالحياة في بقائها، والنفس هي الروح لا فرق بين الواحد) بتصريف هز رأسه (الجيائي) امام الحرمين مبديا ارتياحه لقول (الباقلاني), وإذا بصوت (ابن حزم) يعلو في وقار من صدر المجلس: ان النفس هي الروح وهما اسمان لمسمى واحد، والنفس جسم طويل عريض عميق ذو مكانة عاملة مميزة للجسد، وهي بخلاف البدن، وهذا هو مذهب اهل الإسلام والملل المقرة بالميعاد), قاطعه في رصانة صوت وقور مجعد بعمق الفكر، عرفناه دون ان نستبينه، انه (ابن تيمية): (صدقت ياابن حزم، إنما أريد ان ابين ان النفس جسم لا باعتبار اللغة، وإنما المقصود من جسميتها انها تقل الأفعال التي يدل عليها الشرع والعقل والحركة والانتقال والصعود والهبوط والشعور بالعذاب ولأنها تحبس في الجسم).
اما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه الروحي، القائل بأن النفس ليست بحجم الطول ولا العرض، ولا عمق لها ولا مكان بل هي جوهر روحي, وممن قال بذلك (الكندي) و(الفارابي) و(ابن سينا) و(ابن ماجة) و(ابن مسكويه) وشاركهم في هذا الاتجاه (الغزالي) حين قال: (ان للنفس جوهر مستقل عن جوهر الروح، وهو قائم بذاته لا يقع تحت الحس وان كان وجوده إظهار ما يكون للعقل) أما (ابن رشد) فقد قال: (ان النفس ذات حية عالمة قادرة مريدة سميعة متكلمة، وهي جوهر مفارق) أي البدن
نظرت الى ساعتي فإذا بالوقت قد سرقني كما يقال فلم يعد يفصلني عن أولى محاضراتي سوى ساعتين، ومحاضر هذه المادة يعتبر تأخر الطالب عن وقت المحاضرة إهانة شخصية له، فإما ان تأتي أو لا تأتي، ولكن إياك ان تختار الوسط فتصبح على ما اخترت من النادمين المطرودين المغضوب عليهم والضالين,, هممت بالانصراف لولا ان سمعت صوت (ابن حزم) وهو يفند آراء من احتج لجوهرية النفس، فشاقني ذلك ونسيت ما قد كنت عزمت عليه، لقد اخذ يبرهن على ان النفس جسم داحضا بذلك تسع عشرة حجة لمن زعم غير ذلك يمنعني من سردها المساحة حتى لو كان صاحب هذه الحجة (أرسطو) ذاته، حيث قال: (إن ارسطو لم ينفي كون النفس جسما، إنما ذهب الى ان النفس ليست جسما كدرا، وهو لم يمانع ان تكون جسما على الإطلاق).
كما برهن (ابن حزم) على ان النفس جسم بالعلم الذي هو من طبيعتها، إذ لا خلاف على ان العلم هو من صفات النفس وخواصها ولا مدخل للجسد فيه أصلا، وقد صرح بإثبات علم النفس لجسمية النفس، فلو كان جوهرا لتساوى الناس في الجوانب المعرفية والوجدانية ومن ثم السلوك كما نفى (ابن حزم) عرضية النفس لعلميتها وحسها، والعرض ليس كذلك, وبعد ان نفى عن النفس عرضيتها كذلك نفى جوهرها، فهي عنده جسم ولكن هذه الجسمية ليست جسمية المادة، متفقا في ذلك مع رأي (ابن القيم) وجمهور المسلمين, عاودت النظر الى ساعتي فشعرت بتأخر الوقت فانسبت من المجلس كانسياب لسان مائي على ارض مائلة، متوجها للخارج الداخل في مدينة الرياض,, كنت استرجع في طريق عودتي اقوال الفلاسفة متأملا ومحللا، فالذين انكروا النفس أنكروا وجودهم! فكيف لي ان اصد ادعاءاتهم؟! والذين قالوا بأن النفس عرض، فذلك يجعل صفة من الصفات محمولة وليس الأمر كذلك بالنسبة للنفس لأنها حاملة لا محمولة، وهي عاملة حاسة ولا يمكن ان يكون العرض عالما حاسا, والذين ذهبوا الى ان الروح جسم ففي هذا صعوبة، إذ كيف يمكن ان تكون الروح جسما؟!
وكيف يمكن ان نتحدث عنها وهي من أمر ربها، اما الذين ذهبوا الى ان النفس جوهر فيكون معنى كلامهم ان النفس واحدة لجميع الناس وهذا مجانب للصحة مخالف للعقل.
ابن شريم

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved