أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 3rd August,2000العدد:10171الطبعةالاولـيالخميس 3 ,جمادى الاولى 1421

الثقافية

عالم خليفة التليسي
الكاتب,, والمدينة
محمود قاسم
عل أفضل مدخل للتعرف على سيرة حياة خليفة التليسي أن يكون من خلال مقارنة نعقدها بين الكاتب والمدينة التي ولد فيها، وعاش طوال سنوات حياته، فلنقل المكان الذي ينتمي إليه الكاتب، هذا المكان، أو تلك المدينة هي نقطة التقاء بين عالمين بالغي الاتساع, يسود في كل منهما كون واحد، ويتسم كل منهما بآفاق بعيدة، وأغوار عميقة, ألا وهما البحر، والصحراء، وكلاهما يتمدد حتى أطراف الافق، وعند الافق يبدو الاتساع واضحاً، وهذا الاتساع سوف ينعكس، بلاشك، على رؤية الكاتب, فهو يريد أن يستوعب الافق، وما وراءه، وليس من الغريب أن تكون المدينة التي ولد بها الكاتب وعاش هي من المدن الأفقية، التي راحت تمتد بشكل أفقي، على نقيض مدن عديدة تطل على البحر نفسه، اختارت أن تمتد رأسياً، فاختفت المباني وراء بعضها، بل البحر نفسه اختفى وراء خراسانتها.
والمدينة التي ولد بها خليفة التليسي في 9 مايو عام 1930 كانت منذ انشائها تعتبر نقطة تتوسط المحطات العديدة التي انشئت على الساحل الغربي والتي كانت تراعى في انشائها المرحلة اليومية للسفينة الفينيقية التي تقطع في اليوم الواحد مابين 25 ميلا و45 ميلاً.
ويقول الكاتب عن طرابلس في كتابه حكاية مدينة إنها كانت حاضرة في خضم الأحداث الكبيرة التي ألمت بهذا البحر حين تصارعت القوى الكبرى القديمة (الفينيقيون واليونان والرومان والقرطاجيون) كما كانت من المدن القليلة التي تميزت بالإضافة إلى الحضور، بالاستمرار التاريخي, فقد استمرت في التاريخ، أي في الحياة منذ تأسيسها حتى الآن, وقد كان استمرارها التاريخي هذا عاملاً هاماً في طمس ملامحها التاريخية، كأغلب المدن التي ظلت مستمرة في الوجود, ولم تتوقف بها الحياة عند مرحلة من المراحل تشهد عليها آثارها المرسومة المعلومة كما هو الشأن بالنسبة لصبراته .
إذن، فهذه المدينة التي تطل على اتساعين، البحر، والصحراء، المرتبطة بالتاريخ، وشهدت حضارات عريقة، هي وجدان الكاتب، وهو يحس أنه نقطة التقاء بين عالمين, فمن المعروف أن سكان المدينة الساحلية أكثر ارتباطاً بالثقافات المتعددة، وذلك بحكم الاتصال بالعديد من الأجانب الذين يمثلون حضارات عديدة، ولاسيما مدن البحر المتوسط، كالاسكندرية على سبيل المثال, ويقول مصطفى جحيدر في كتابه عن خليفة التليسي، وهو في الاصل رسالة ماجستير قدمها إلى كلية التربية بجامعة الفاتح عام 1985، ان الكاتب قد ولد في أسرة ليبية فقيرة كان لها شأن بين أهلها وعشيرتها, قبل الاحتلال الايطالي لليبيا، كانت أوضاعها العامة ميسورة، لكن الاحتلال صادر الأرض التي يملكها الجد التليسي بحجة المصلحة العامة, وقد أقامت هذه السلطات محطة سكة حديد فوق الارض الزراعية التي كان يملكها الجد.
ولعل ماذكره جحيدر عن سيرة الكاتب، والذي أكد أن ما لديه من معلومات مأخوذة مباشرة من لسان التليسي، بأن هناك صلة تاريخية لأسرة الكاتب بالبحر، لعل ذلك يؤكد أهمية المدخل الذي اخترناه للتعرف على جذور أفكار الكاتب من خلال علاقته بالبحر، وتنوع المعرفة, فهذا الإبحار الذي مارسه كل من جديه لأمه وأبيه، فضلاً عن الأخوال والأعمام، قد ولد للكاتب رغبة أكيدة في تنوع المعرفة، لأن البحار لايكتفي بالإبحار إلى ميناء واحدة، ولافوق مياه محدودة، ولايلتقي بشراً معينين, وقد انعكس هذا على المنطقة التي ولد بها خليفة, فهي منطقة باب البحر في المدينة.
ولذلك فإن أهم سمة في التليسي الطفل ثم الشاب والرجل فيما بعد هو الانفتاح، والانبساط مع البيئة المفتوحة أمامه، ونلاحظ أنه، منذ حداثته قد بدأ يتكون ثقافياً في سن مبكرة, ويبدو هذا واضحاً في الحديث الذي أدلى به الى يوسف الشريف عن بداياته:
كان والدي يحترمني كأنني أنا والده, وهذه الصفة نادرة قد لاتجدها إلا عند الآباء النادرين وهي عفوية ,.
أقول إنه من الصعب التذكر على مستوى المرحلة الأولى في الطفولة، على أن أول ما أثار هذا الوعي أو الرغبة، أو ماشكل المفتاح الأولى في عالم الأدب بصفة خاصة هو أبيات من الشعر لأبي العلاء المعري وكنت في الثامنة او التاسعة من عمري,, هي أبيات اللامية الشهيرة.


إلا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائل

في هذه السن لم أتمثل معاني هذه القصيدة, ولكن هذا الايقاع الجميل، هذا الإيقاع الفخم، هذا الرنين,,, منذ ذلك الحين بدأ تعلقي بالشعر, والبحث عن الشعر، أحياناً أقرأ، فلا أفهمه، وأحياناً أفهمه، إلى أن تكون وعيي فيما بعد، وبتطور السن أصبحت قادراً على الفهم .
في هذه السن التي التقي فيه الطفل المعري، كان خليفة، على وجه التقريب في الصف الثالث الابتدائي، حيث التحق بالمدرسة الابتدائية، ودرس العلوم المختلفة لتلك المرحلة باللغتين العربية والايطالية، وفي تلك السنة كانت الحرب العالمية الثانية قد فتحت أبوابها، ودخلت فيها ايطاليا, فتعطلت الدراسة في المدارس الليبية لمدة أربعة أعوام, وكانت فرصة للصبي أن يتلقى تعليمه، أو ثقافته الخاصة بوسائله الخاصة، فطغى عليه الشعر بشكل مباشر, وبدا ذلك مدخلاً جيداً إلى التراث وكأنه بذلك يعوض عدم التحاقه بالكتاب أسوة بأقرانه الذين درسوا في الكتاتيب,وعندما دخلت قوات الحلفاء إلى ليبيا عام 1943، كان ذلك إيذاناً بنهاية الاحتلال الايطالي لليبيا، فخرجت القوات الايطالية من هناك، وبدأت الدراسة في المدارس تنتظم من جديد، فعاد خليفة إلى مدرسته ليستكمل دراسته الابتدائية, وكان رحيل القوات الايطالية سبباً في بداية تعريب المدارس والتعليم في ليبيا، وعقب نهاية الحرب مباشرة، أي في عام 1946 كان خليفة من أوائل الطلاب الذين التحقوا بالمدرسة العربية الثانوية.
وأهم مافي تلك المرحلة من سيرة التليسي ليس التعليم الرسمي، فلم يمكث الطالب في المدرسة الثانوية أكثر من عام دراسي واحد انقطع بعده عنها، لمرض ألم بوالده, ولكن المهم هو تلك الحصيلة المعرفية التي بدأ يتلقاها بنفسه، وبدون أن يكون له مرشد، أو دليل إلى الاختيار الا عشقه الخاص للشعر، ومعارفه بصفة خاصة، قرأت كتاب الأغاني في سن تبدو الآن غريبة، وهي سن 15 أو 16 سنة، وقع بيدي وبغير ارشاد من أحد,, كتاب الأغاني، لا أدري أين سمعت تنويها بهذا الكتاب, ولا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي قرأته فيها, أحياناً أقرأه من الغلاف إلى الغلاف، وأحياناً استشارة مرجعية، وأهم ماشدني إلى هذا التراث في تلك السن أنني وقعت في الأبواب الأولى منه على قصص الشعراء العذريين، وشعر العشاق العذريين، ولهذا كان ومازال يتصدر وجداني، ويتحكم فيه, وأنا أعتبره أصفى ما أنتجه الوجدان الشعري العربي، والفضل في ذلك يعود إلى تلك القراءات .
إن العلاقة بين خليفة ومايقرأه، كانت، كما أشرنا، تجاوز حد الاطلاع، إلى درجة الاندماج، والعشق، وسوف تنعكس هذه العلاقة فيما بعد على كل مايكتب, وقد عبر عن هذا بوضوح في مكان آخر من الحوار الذي نقتطف منه بعضاً مما يتناسب والمدخل الذي اخترناه للتعرف على سيرة الكاتب حسين يقول: ينبغي أن تصبح الثقافة روحك وكيانك,,,, وأنا بلا ادعاء حرصت دائماً على أن أعيش ثقافتي, أن أكون دائماً على حدودها, فرضت على تضحيات كثيرة جداً, ولكنني مع هذا تقبلت هذه التضحيات وأنا سعيد جداً بما تقبلت وما ترتب على ذلك من مكاسب وجدانية عوضتني عن كل مايمكن أن يكون قد ضاع من فرص تهافت عليها الآخرون .
وقد قضى خليفة عامي 1947 و 1948 يدرس الثانوية العامة من خارج المدرسةالرسمية، فنجح في الحصول على شهادة الثانوية العامة الليبية، والثانوية العامة المصرية, وفي تلك الفترة كان قد تمكن من الاتصال بالثقافة المصرية، وبدا معجباً بعباس العقاد وطه حسين، وعبدالرحمن شكري، وابراهيم المازني وسلامة موسى، والملاحظ أن أغلبهم من المثقفين الموسوعيين ، الذين سار في دروبهم ولعله وجد في العقاد، بشكل خاص، المثقف الأمثل الذي علم نفسه، فراح يتقن اللغتين الانجليزية، والايطالية, وذلك عن طريق استعمال القواميس فاستطاع أن يحصل على ذخيرة لغوية هائلة من اللغتين، وشجعه في ذلك محاولاته الأولى لترجمة القصص القصيرة لأدباء ايطاليين مشاهير في تلك الفترة، مثل لويجي بيراند يللو وألبرتو مورافيا, وعن العقاد عبر التليسي أنه لم يلاحظ في أي من مراحله شيئا من الغموض الذي حاول البعض وصفه به، ولذا كان يقرأ، ويتابع آراءه النقدية، خاصة في نقد الشعر، وقد تأثرت بها واستوعبتها استيعاباً كبيراً جداً، فترة التكوين بالنسبة لي أستطيع أن أقول أن أكثف وأعمق وأكثر ما قرأت هو في هذه الفترة التي تأتي بين 15 - 25 سنة، وهي التي كونتني، فكأنني رسمت برنامجاً لنفسي، وهو أن أكون نفسي في هذه الفترة، وما زالت ثقافتي التي تكونت في هذه المرحلة هي مرجعي,
ويعترف خليفة التليسي أن هناك رافداً هاماً في ثقافته، يرتبط بالحياة العامة، ففي عام 1948 عمل مدرساً في مدينة جنزور التي تقع غرب العاصمة طرابلس، وظل بهذه الوظيفة ثلاث سنوات حتى عام 1951, وفي هذه السنوات لم يتوقف خليفة عن متابعة الثقافة العربية، ولكنه اكتشف رافداً ثقافياً هاماً، وهو الثقافة الغربية، فقرأ بالايطالية لكل من الشاعر ليوماردي، والكاتب جيوفاني بابيتي، وقد تعرف على ليوماردي مصادفة، وهو يقرأ في كتب القراءة باللغة الايطالية، وقد التقى مع هذا الشاعر من خلال المدخل نفسه الذي التقاه مع العقاد، وهو سعة المعرفة وشموليتها، وكما يصرح بنفسه فيقول: كان يتميز بظاهرة فريدة جداً وهي التي لفتت نظري إليه وهي أن ثقافته الواسعة التي شملت القديم - أعني حتى اللغات القديمة الميتة - كاليونانية والعبرية والإغريقية - إنما كونها بنفسه، وهذا ما حرمه من أن يعيش الحياة التي كان ينبغي أن يعيشها .
فقد التقى التليسي بليماردي من خلال الموسوعية التي ينشدها، والتي اتسم بها، كما حدث الشيء نفسه مع بابيتي الذي كان صورة مقابلة للعقاد - في أدبنا العربي، مع غلبة الجانب العلمي الصلب على العقاد ، وغلبة الجانب الفني على بابيتي , ومن غرائب الصدف أن العقاد كان يقرأ له ، وقد قرأ له كتابه عن ابليس وتأثر به فيما كتبه عن ابليس .
أما الكاتب الثالث الذي اكتشفه التليسي فهو بيرانديللو، ولم يكن موسوعيا في المعرفة مثل بابيتي والعقاد وليوماردي، ولكنه كان موسوعي العطاء والابداع، وهو كما نعلم، ظاهرة إبداعية لامثيل لها في القرن العشرين، ولافيما قبل ذلك، ولاسيما في المسرح، وقد عبر خليفةالتليسي عن هذا الاعجاب والتأثير الذي ربطه بأدب بيراند يللو في مجموعة مقالات نشرها في بداية كتابه كراسات أدبية أكد فيها على مدى تأثره في هذه المرحلة بالكاتب الايطالي, وقد تكلم عنه بكل الحب والاعجاب، وقد نعود إلى هذه العلاقة في موقع آخر، لكن من المهم أن نرى كيف كان التأثر باديا على الشاب خليفة: لم يكن الأمر مع بيراند يللو سهلاً ليناً، فقد احتجت إلى شيء كثير من الصبر والمعاودة، وشيء كثير من الاصرار الذي كادت أن تذهب به خيبة أمل مريرة، مبعثها أني لم أجد في أسلوبه وحواره المسرحي ماكنت أبحث عنه من رقة ونعومة وطلاوة وطراوة, فلا مجال هنا للبهرجة اللفظية، ولامكان هنا للصيغ التعبيرية الرنانة والعبارات الشاعرية البلاغية الموفقة التي تغدو وحدها بغية القارئ من متعة الاقتراب أو النافذ إلى أسرار هذه اللغة التي يدرسها، وما يحمله الحوار من ألوانها وأساليبها في التعبير والأداء , كانت أهمية بيراند يللو في ثورته على الأسلوب البلاغي، وغلبة النزعة الذهنية على أعماله والتأثر بالنزعات الشمالية من الأدب الأوروبي وروحه الغربية عن الأدب اللاتيني والفكر الذي ينتمي إلى البحر المتوسط، فقد وقف الكاتب بأدبه المتمرد على البلاغة اللفظية في المقابل المناوئ الذي مثله الشاعر جبرائيل دافونوتسيو.
يتبع



أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved