أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 7th August,2000العدد:10175الطبعةالاولـيالأثنين 7 ,جمادى الأول 1421

مقـالات

من سيئات العصر الحديث
منصور محمد الخريجي
هذه المقالة بالتأكيد ليست حديثا عن نفسي وليست قطعة من سيرتي الذاتية لكنني اجد نفسي مرغما على الرغم من ذلك ان ابدأها ببضع كلمات تندرج تحت ما يسمى ميول او صفات شخصية, فأنا رجل يشدني الحنين الى الماضي ويعتصرني الشوق الى الايام الخوالي، لا شيء عندي يقارن بذلك الزمن الذي تركنا ومضى والذي كانت أيامه تمر بطيئة هادئة مطمئنة لا فرق فيها بين يوم وآخر ولا خوف ولا توجس من غدرها وخداعها وتربصها بنا وانقضاضها علينا فجأة دون ان تعطي لنا فرصة الدفاع عن انفسنا، كانت ايامنا فيما سبق تأتي هينة لينة نظيفة تنضح بالرأفة والرحمة وكلنا نلقاها كل صباح بالترحاب ونودعها عندما ترحل بانتظار ان تعود فنلقاها في الصباح التالي, لم تكن الحياة عندما عرفتها يافعا ثم شابا قد تجهمت ثم قست كما هي الآن، كانت رحيمة بسيطة لا تتطلب منا شيئا كثيرا فكل شيء وأي شيء يرضيها, كانت هي البساطة بعينها تعطي قليلا لكنها في المقابل تتوقع الاقل، لم تكن قد بدأت على الاقل في مجتمعاتنا في هرش جبهتها او تدوير افكارها وإنتاج نظرياتها ثم تطوير النظريات الى اختراعات جلبت علينا من الشقاء قدر ما جلبت لنا ما ظنناه من فرطة سذاجتنا راحة وسعادة, انني لا احن فقط الى سابق الايام التي راحت بل ابكي عليها ابكي الآن من ضغط الحياة وقسوة الايام التي اصبحت تعتصر قلوبنا من ركضها الدائم وما جلبته من ضغوط رهيبة على اعصابنا وما رافقها من ارهاق وقلق وامراض ومتطلبات سخيفة غير معقولة لم نكن نعرفها او نهتم بها, وابكي ايضا من مخترعاتها الحديثة التي اتت معها من الشرور اكثر مما جلبت من حسنات.
اعرف ان بعض من امتحن صبره ليصل الى هذا الحد من القراءة سوف يسأل نفسه عن ماذا يتكلم هذا الرجل ولا اقول الكاتب! واقول لهذا القارئ ولمن وصلوا بقراءتهم الى هنا ان موضوعا كهذا متشعب وطويل ولا يمكن علاجه في مقالة في جريدة ولكنني اسرع قبل ان افقد باقي القراء فأقول انني انعي حياتنا التي عشناها قبل ان تغزونا الاختراعات الحديثة التي غيرتها وغيرتنا الى غير رجعة.
ابدأ مثلا باختراع البندقية التي هي اصل الخراب عندما اتحدث عن البارود في حلف لايزال قائما، ولا استطيع التطرق الى الحروب وما افنت من البشر فهذا بحث متشعب وطموح وقديم ايضا, ان موضوعي او جزءا منه اكثر تواضعا من ذلك وهو ما افسدته البندية من الحياة الطبيعية وما قضت عليه من الحيوانات البرية التي كانت الى وقت اختراع تلك الآلة الجهنمية الفتاكة تملأ صحارينا ووهادنا وجبالنا وودياننا، كانت الجزيرة العربية تعج بجميع انماط الحيوانات التي لا نراها الآن الا في افلام القنوات التلفزيونية عن افريقيا,, لقد حزنت اشد الحزن عندما رأيت صورة فوتوغرافية لصياد يمسك بيده بندقية ويضع قدمه بزهو فوق انثى من فصيلة الفهد الرشيق المرقط الذي يسمى بالإنجليزية CHEETAH وهو من انبل الحيوانات واسرعها على الاطلاق كان الصياد الماهر قد صرع للتو الأم ووليدها!! كان ذلك في حوالي عام 1926 ميلادية وهو كما نرى ليس بزمن قديم, ماذا كان يدور في خلد ذلك البدوي عندما صوب فوهة بندقيته تجاه ذلك الحيوان الذي لم يتعرض له ولم يؤذه؟ واي مجد جناه؟ انها اسئلة غير ذات فائدة الآن لأن ما فات لا يمكن ان يعود.
وجاءت بعد البندقية السيارة وكأن القوم كانوا ينتظرون اول فرصة تسنح كي يثأروا لأنفسهم من عدو شرس كان يتربص بهم المنون,, ما ان انتشرت السيارات ومعها البنادق حتى قامت حملات الابادة الجماعية ضد كل ما يسير على اربع او يطير في الفضاء، بدأ ولسنين عديدة وكأن شغل الناس الشاغل هو قطع الفيافي والقفار فوق ظهور شاحنات كبيرة وقد ارتصوا على جانبي الشاحنة وكل معه شوزنه وكل يباري الآخر في رمي وطرح اكبر عدد من الحيوانات البرية, كانت حملات الابادة الجماعية هذه لا تفرق بين حيوان وآخر ولا بين انثى او ذكر ولا بين صغير رضيع او كبير بل كل ما هو مطلوب هو قتل اكبر عدد ممكن من المخلوقات البرية التي كانت تعمر صحارينا وسهولنا وجبالنا كيف لم يجد اولئك المتخلفون من يوقفهم عند حدهم,, كيف تركوا هكذا يعثون فسادا في الارض؟ كان قضاء جماعيا نزل على عالم الحيوانات فأفناه عن آخره,, ألم يجد اولئك الجهلة من يقول لهم ان التوازن البيئي هو من صنع الله تعالى وان الحيوانات والطيور جزء لا يتجزأ من ذلك التوازن الذي اذا اختل كانت الكارثة محتمة، لم يخلق الله تعالى شيئا عبثا وكل مخلوق له دوره في هذه الحياة وكل يسبح خالقه على طريقته، وليس من حق الإنسان ان يزيح من فوق ظهر الارض عنصرا واحدا من عناصرها الرئيسية ومنها الحيوانات والطيور، وما من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحه صدق الله العظيم.
ان كل شيء في هذه الحياة ما هو الا سلسلة متصلة من اسباب ومسببات واذا اختل بعض حلقات السلسلة اختل باقي حلقاتها, تعاني صحارينا في السنين الحالية جفافا لم نكن نعرفه في السابق على الرغم من صحراويتها, وانا لا ادعي المعرفة ولكن ألا يجوز انه بفناء حيوانات الصحراء واقتلاع اشجارها واختفاء طيورها ألا يمكن ان يكون كل هذا سببا في ندرة الامطار التي نعاني منها الآن؟ ثم ما قيمة البراري والصحاري عندما تكون ميتة؟ وهي قطعا ميتة عندما لا ترى فيها غزالا يهرب حين يراك او ترى في الظلام نقطتي ضوء احمر تلمعان من بعيد تمثل عيني وحش بري او تسمع في نهار صفت سماؤه صوت طائر مغرد، ان اختفاء كل هذه المخلوقات التي تزين الصحراء يجعل من تلك الصحراء شيئا ميتا لا تكفي لاحيائه نصب خيمة مهما تعددت عواميدها واحاطت بها السيارات الفارهة وتنوعت فيها تباسي الكبسات.
لقد كانت هناك الى عهد قريب قطعان من الوعول والغزلان والنعام والفهود والوضيحي تجوب قفارنا وتملأ صحارينا بوجودها وحياتها وصراعاتها وتؤدي دورها الطبيعي الذي خطه الله تعالى لها في نظام الحياة الدقيق.
إلا ان الإنسان اختار ان يقضي عليها وان يحرم الاجيال القادمة من متعة وجودها، لقد غلبت على الإنسان انانيته فقضى على مخلوقات شاء الله لها ان تشاركه ارضه ومعيشته وتؤدي دورها المرسوم لها, انها مأساة احزن كلما حدث ما يذكرني بها لكن الامل آت ان شاء الله ببركة نفر من ابناء هذا البلد الطيبين الذين ادركوا حجم الخسارة قبل ان يفوت الوقت فنصبوا انفسهم حراسا على ما بقي من حياة طبيعية يحمونه ويغذونه بإمدادات من هنا وهناك عاقدين العزم بإذن الله على بعث الحياة الطبيعية من جديد في المناطق التي عاشت فيها ثم اختفت منها، وسوف يأتي الوقت ان شاء الله عندما لا تقال عيوننا فقط ذرات الرمال تسفوها الرياح بل حيوانات متنوعة تروح وتجيء وتسرح وتمرح بأمن ودون خوف من مائة شوزن تنطلق مرة واحدة من فوق شاحنة تنقض كالغول وفي جوف الليل الاظلم على غزالة وحيدة رابضة ترضع وليدها, وارى ان يمنع الصيد بتاتا بكل انواعه ولو على الاقل لمدة عشر سنوات مثلا او كما يرى القائمون على الحفاظ على البيئة حتى تعود الامور الى ما كانت عليه قبلا .
هذا وقد تكلمت عن سيئة واحدة فقط من سيئات الاختراعات الحديثة، واسأل الله تعالى ان يعيننا على تحمل باقي السيئات.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved