أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 7th August,2000العدد:10175الطبعةالاولـيالأثنين 7 ,جمادى الأول 1421

عزيزتـي الجزيرة

فضل اليقين ومعدنه النادر وجوهره الأصيل
عزيزتي الجزيرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
في مواجهة الأخطار العاتية التي تهدد الأمم بالدمار والفناء، يكون الاتكاء والاحتكام الى ما يملأ وجدان هذه الأمم من روح اليقين القومي وحمياه,, هذا اليقين يمثل ما تمتلكه الأمم والشعوب من طاقة روحية، وما تختزنه من إرادة للحياة، وما تتملكه بين يديها من ميراث حضاري عريق يجعلها تتجاوز المحنة العابرة، والموقف العاصف، والخطر المدمر.
في مثل هذه المنعطفات التاريخية بين عصر وعصر، وتحول وتحول، وفي مثل هذه اللحظات العصبية والفاصلة يتألق فضل اليقين القومي لهذه الأمة، ويشع جوهره الأصيل ومعدنه النادر,, يلهم ويضىء ويشير، ويقدم عناصر للحياة والاستمرار مما يدفع بالمسيرة دوما الى الأمام.
ولسنا بعيدين عن هذا المعنى والتوجه، حين نتأمل موقف الشاعر العربي القديم في وجه هشاشة الحياة، وتعرضها للمخاطر والفورات المباغتة من الطبيعة والإنسان الى درجة عارضة، او إشارة لا تتجاوز التلميح، فتقوم الحروب وتتفانى فيها الأجيال,, جيلا بعد جيل، لسبب نراه نحن الآن تافها وبسيطا، لكنه كان متصلا بحياة الناس وأرزاقهم الشحيحة في بيئة قاسية وظروف صعبة مهلكة، وكبرياء تنفخ فيها وتغذيها روح التفاخر بالأحساب والأنساب وليست أيام العرب التي تملأ مجلدات في مكتبة تراثنا العربي إلا تسجيلا لبعض وقائع ذلك الزمن المتحارب أهله حتى التفاني من أجل كلإ أو مرعى او نبع ماء أو سهم اصاب ناقة او قولة قالها أحدهم عامدا او غير عامد,, ولسان حالهم يردد بيت عمرو بن كلثوم المشهور:


ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

هذا الجهل عن الآخرين الذي يكرر عمرو مادته اللغوية اربع مرات في بيت واحد هو العدوان والمسارعة الى الاقتتال، وهو أيضا الفخر بالمبادأة بالظلم أنه تعبير عن القوة.


بغاة ظالمينا وما ظلمنا
ولكنا سنبدأ ظالمينا

وكأنما كان عمرو بن كلثوم يقدم في معلقته هذه نشيدا قوميا لفخر العربي في زمانه بكل مقومات جاهليته متصاعدا بحدة الأداء وعنف الإيقاع الى ختام المعلقة التي جعلت منها تغلب نشيد فخارها وزهوها، ونشيد كل عربي يتغنى بالجبروت التغلبي والروح الجاهلية.
يلفت النظر في هذه المعلقة بتكرار الشاعر لكلمة (اليقين) ثلاث مرات في ثلاثة مواضع مختلفة يتجه فيها بالخطاب الى الآخرة، في المرة الأولى يكون هذا الآخر امرأة أو حبيبة راحلة ومسافرة.


قفي قبل التفرق ياظعينا
نخبرك (اليقين) وتخبرينا

وفي المرة الثانية يكون هذا الآخر عمرو بن هند الذي تحداه عمرو تحدته قبيلة تغلب لا تذل ولا تخضع له كما خضعت بقية القبائل.


أبا هند فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبرك (اليقينا)

وفي المرة الثالثة يكون هذا الآخر خصوم عمرو بن كلثوم وقبيلة الألداء وهم بنو بكر، وقد كانت الحرب أساسا بين بكر وتغلب:


إليكم يابني بكر إليكم
أما تعرفوا منا (اليقينا)

هذا اليقين المتكرر في معلقة عمرو تعبيرا عن أمجاد تغلب ومفاخرها يبدو وكأنه إشارة الى الباقي والممتد والمستمر في مفاخر تغلب، إشارة الى معنى قريب من الخلود الذي يتعلق به الإنسان ويهيم به قلقه وطموحه، عوضا عن حياة قصيرة وزائلة، مهما امتدت وامتلأت فإنها سرعان ما ينفض سامرها وتزول بهجتها، فيصبح اليقين بديلا للعدم والفناء، للجدب والزوال، لانقطاع الذكر وتوقف مسيرة المحامد والمفاخر.
وهذا الذي كان يتطلع اليه عمرو بن كلثوم في اطار عصره وقيمه ومواضعاته مرتبط بوقفة الإنسان العربي في قمة إحساسه بالحياة وامتلاكه لنشواتها وتطلعاتها، وقفته أمام الموت والفناء,, إنه يواجه الموت فردا، لكن الحياة مستمرة، والجماعة لا يضيرها زوال فرد مهما كان شأنه أو خطره، اليقين إذن إشارة الى الاستمرار والخلود وتأكيد لوقفة العربي في وجه الهشاشة التي اتسمت بها حياته في أول الأمر، عندما كانت تعصف به نزوات العصر الجاهلي وطيشه ومنازعاته.
قبل أن يجيء الإسلام بظله السمح الآمن، فيحقق الوئام والإخاء والانتماء الى المعنى الإنساني والحقيقة الكبرى الشاملة، مسقطا صراعات العصبية القبلية وطيش الجاهلية وتفاخرها بالظلم والعدوان.
ويصبح اليقين تعبيرا عن إرادة أمة تتطلع الى الحياة الكريمة في وجه الأعداء المتربصين من كل جانب، فرسا وروما، وشرقا وغربا، وتتارا ومغولا، وصليبيين ومستعمرين، أوروبيين وصهاينة، وهو اليقين الذي سيتوهج به الشعر العربي منذ (عمورية) لأبي تمام حتى (زرقاء اليمامة) و(لا تصالح) لأمل دنقل وبينهما يمتد زمان طويل حافز بالمواجهات والتحديات، ساطع باليقين القومي في لحظات التألق، مفتقد لحقيقته ومعناه في ساعات الهزيمة والانكسار.
ما أحوجنا في وجه تحديات جديدة تفغر فاها لابتلاع الصحوة العربية، وتزيق الأواصر والروابط، والإبقاء على حال التخلف والضعف والإحباط، ما أحوجنا الى استلهام هذا اليقين القومي وانبعاثه من جديد في أعقاب سقوط الحلم القومي الذي عشنا على مستوى الهتافات والشعارات والأغاني عقدين كاملين من الزمان دعوة الى التماسك ونداء من أجل البقاء.
يقين ندعو الى استنفاره ومعايشته من جديد في أعماقنا وملء كياننا وعيا وشعورا وإرادة وطاقة حياة نبيلة خيرة في وجه مشاعر المرارة والرؤية المفجعة لكل صور العدوان التي تحيط بالأمة العربية وبالمسلمين في كل مكان من العالم، وهي مشاعر مدمرة لو استسلمنا لها لصرفتنا عن الوجهة الصحيحة في مسيرة الحياة وصنع المستقبل.
وليكن هذا اليقين القومي الذي يتألق دائما بالثابت والمستمر ويسقط ما عداه من الشوائب العارضة والمؤقتة ليكن دليلنا الى إعادة صياغة الحياة العربية على هذه الارض التي استمسك بها الأجداد والآباء، التي استظلت بالإسلام راية توحيد وهداية وعدالة وسماحة في علاقاته مع بقية الديانات السماوية وعروة وثقى في وجه كل محاولات التفريق والهدم وفارسها عمرو بن كلثوم فضل الإشارة الأولى الى هذا اليقين، وللإسلام فضل ترشيد معانيه ودلالاته سماحة وخيرا وسلاما وأمنا وحضارة، ولواقعنا المعاصر حث الهمم من أجل التمسك به في مواجهة غزوة شرسة كاسحة، ونظام دولي لا يكيل واحد ولا يعرف غير القوة الباغية والتمييز الظالم.
مالك ناصر درار

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved