أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 13th August,2000العدد:10181الطبعةالاولـيالأحد 13 ,جمادى الاولى 1421

مقـالات

الطقس الخاطئ والممارسات المعكوسة
تأملات في الوعي الاجتماعي
علي الصباح
في الواقع ان الكتابة عن وعي المجتمعات العربية حديث لا يمكن ان يختزله مقال او دراسة واحدة، حيث ان المعطيات التاريخية للانسان العربي والظروف التي شكلت واقعه معقدة ومتداخلة في بنية تراكمية يتقاطع ويتداخل فيها السياسي بالثقافي والاجتماعي بالسيكولوجي، فلا يمكن تصور الاسباب دون النظر ولو الى بعض هذه التطورات التاريخية والاجتماعية، فالنكسات التي منيت بها المجتمعات العربية من حروب وهزائم ونكبات اقتصادية اصبح لها انعكاساتها ونتائجها في افراز ظاهرة التخلف الاجتماعي والثقافي,
ومن جهة اخرى فان التكوين الفكري للذهنيات والمسالك على الصعيد الاجتماعي وعلى وجه الخصوص عند النخب الثقافية كنتيجة للاحباط العام اوجد قناعة، ان القاعدة الاجتماعية العربية ترزح تحت ألوان التخلف الثقافي والاجتماعي، وان مسيرتها الحضارية الى مزيد من التراجع والوهن والضعف والانحلال في كافة نواحي الحياة, بغض النظر عن الجلد القاسي للذات من قبل بعض المثقفين العرب، فان البنية الاجتماعية لا تزال تتحكم فيها تلك المسالك والذهنيات التي تنتج ثقافة الانغلاق والانفصال عن الآخر حتى في اطار التنشئة العلمية والثقافية، ففرض ثقافة الحصار ووضع الاسيجة الفكرية والموانع النفسية والاجتماعية كلها مظاهر للتخلف الاجتماعي والثقافي ادى الى وجود مشاعر الانفصام في توجهات هذه المجتمعات، واوجد علاقة مربكة بين جذورها التاريخية والاجتماعية وبين لحظتها المعاصرة وما تفضي اليه من تعزيز ايديولوجي وتشكيل علاقة وأشكال من الالتباسات النفسية والاجتماعية نتيجة لتطور النسق العقيدي والانساني في شبكة التطورات التي تصير الواقع الحياتي للمجتمع, ولعل رغبة التوثب الفكري والتي لا تجد في الحاضر إلا قطيعة لها واستمرارا لتراجعها الاجتماعي والإنساني وشعورها بعجزها في تحويل ماضيها الى حركة تبلور فيه اتجاهاتها النفسية والفكرية لتصنع منه نهضتها المزعومة بكليشيهاتها الايديولوجية والنرجسية التي لا يعكس عندها إلا وعي الانغلاق والانعتاق من لحظة الحاضر، واستقالتها الثقافية والمعرفية وعدم تماهيها على المستوى الانساني والوجداني مما جعلها على مفترق طرق من العيش الغامض والبؤس الروحي والفكري والاجتماعي وتبلد احساسها الجمالي ووصولها الى درجة الشللية وعدم قدرتها على الخروج من حالة الانحسار الذي اثقل كاهلها الحضاري,
ان حالة الفوات التي تعيشه بعض هذه المجتمعات وتخلفها الحضاري او حرمانها من مجرد الاستفادة من منجزات الآخر العلمية والانسانية جعلها مجتمعات لا يعنيها سؤال النهضة، لماذا تخلفنا نحن العرب المسلمين، ولماذا نجح غيرنا (الغرب) اوروبا المسيحية, ولماذا تخلفنا في امتلاك سر التكنولوجيا وتمكنت شعوب اخرى من امتلاكه؟,
هذه التساؤلات التي سبق وان اثارها محمد عابد الجابري في (الخطاب العربي المعاصر) لا تندرج ضمن اهتماماتها المعرفية، واصبح خطابها لا ينتج الا بلاغيات ايديولوجية تكرس الماضي الطائفي (1) والقبلي والركون الى الجمود وقبول حالة التخلف الاجتماعي من دون ان تعطي اهتماما للمعطيات والمستجدات الحياتية من عصرنة وحداثة او تحاول مواكبة الاخر الذي يشهد مزيدا من التقدم العلمي والاجتماعي وتحقيق ثورات انجازية كبيرة على كافة الصعد الاجتماعية والثقافية والعلمية، وهذه المجتمعات لا تزال تؤرقها الانقسامات والتناحرات الداخلية, بل أصبحت مقاربة التاريخ وطرق الاستلهام التقليدي السمة الذهنية البارزة في علاقتها بالتاريخ واختزاله في ذاكرة دامية مليئة بالعصبيات وأمثلة الاقتتال والاحتراب الذي هو أقصى تعبيرها وبلاغتها وقوتها، وسبب ذلك راجع الى ان البنى البطركية للمجتمع العربي لم تحل محلها، في السنوات المئة الأخيرة، بنى حديثة بالفعل,
فهي على العكس، قد تعززت واستمرت في اشكال مشوهة ملقحة بالحداثة، بمعنى آخر، ان اليقظة او النهضة العربية في القرن التاسع عشر لم تفشل في تحطيم اشكال النظام البطركي وعلاقاته الضمنية وحسب، بل انها ايضا أتاحت، بتحريكها ما سمته النهضة الحديثة نشوء نوع جديد وهجين من المجتمع والثقافة اي المجتمع البطركي الحديث وثقافته كما نشهدها حاليا, ذلك ان عملية التحديث المادية وهي أول ظاهرة من ظواهر التغيير الاجتماعي، لم تؤد إلا الى اعادة تشكيل البنى والعلاقات البطركية وتعزيزها باضفاء اشكال ومظاهر حديثة عليها (2) .
ان بقاء نظام التحديث بتلك الكيفية أي سيطرة تلك البنى والأشكال وقيامها في نظام تقليدي من العلاقات البطركية الذي يستند على تلك الثوابت الاجتماعية السائدة من قيم الصلات العائلية والعشائرية والفئوية والاثنية ذلك النسيج القبلي الذي ينتج اعادة تشكله بذات الكيفية المعيقة التي لا تؤدي الى ازاحة تلك النظم من العلاقات الضمنية في داخل التركيبة الهرمية المجتمعية، واستمرار جمود الذهنيات التي تقود نظام التطوير الثقافي والاجتماعي وبقاء ذلك الجمود دون ان تؤدي محاولات التغيير الاجتماعي الى تجاوز مرحلة التخلف وتحديث تلك البنى واستبدال التوازنات الاجتماعية الموروثة التي تكرس الثقافة الاحادية والانتماء الأحادي وبالتالي السيطرة على الانساق الفكرية للمجتمع وخضوعها لهذا الشكل من الممارسة العصية على التغيير, وهنا تكمن المعضلة الحقيقية عندما تكون القيم المجتمعية والحضارية والجمالية والفلسفية والحقائق المطلقة والنسبية والموضوعية عناوين تنتظم في شبكة النسيج القبلي، فلا معنى لها إلا ضمن هذا الاطار من القيم الاجتماعية السائدة، حيث تبقى ذهنية التفكير المستأثرة والجهلانية (3) تمارس زوجنة (4) هذه القيم في سلوكها القبلي,
ان عدم تحول هذه المجتمعات على الرغم من انتقالها على المستوى الشكلي والمادي من مجتمعات بسيطة الى مجتمعات مركبة في عجلة التطور العلمي والثقافي جعلها مجتمعات لا تساير التطورات الانسانية في مجال التكنولوجيا والاتصالات والعلوم الانسانية, ولا شك ان المعوق في ذلك ليس فقط في الطبيعة الذاتية لهذه المجتمعات بل في جملة من العوامل (5) المركبة والمعقدة في المجال الاجتماعي العربي وبناه الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية، وفي بقية الهياكل الاجتماعية المسؤولة عن تردي الأوضاع والحيلولة دون وصولها الى مرحلة التحديث والازدهار الحقيقي الذي لا يقتصر على الممارسة الشكلانية الخارجية واختزالها في الجانب المادي الصرف, ولذا ينبغي علينا ان نمارس وعينا الاجتماعي من منطلق اعادة النظر في هذه التراكمات التاريخية والاجتماعية وألا تكون حائلا يمنعنا من محاولة النهوض الثقافي والفكري في اطار تراكمية الثقافة والتفاعل الانساني مع منجزات الاخر تحت سقف التكامل الحضاري بين الشعوب، متخلين عن الرواسب والتكلسات التي تعيق وعينا العلمي وبناءنا الوجداني والانساني ، وبالطبع هذا يتطلب اعادة صياغة لتلك المفاهيم وتركيبها ضمن بنية سيرورة الثقافة الانسانية لا ضمن صيرورة الموروث والذي يستمد صدقيته من الخبرة التربوية والسلوك الاجتماعي الضيق وبالتالي دك بنية التفكير فيه الذي يرعاه صيرور العادات القبلية والتخلص من ارثوذكسية الذات وتبني خطاب وسطي يعقلن هذه الذات ويعيد انتاجها خارج نظمها الاجتماعية والقبلية انطلاقا من ثوابت هذا الخطاب الحضارية والانسانية والقيمية والاجتماعية, فالعمل في افق خطاب له استراتيجية واضحة يجعل من عملية التحديث الثقافي محاولة مستمرة تستهدف التغيير التدريجي للانساق الفكرية والثقافية للخروج من دائرة الممارسات الاجتماعية المعكوسة التي لا ينتج عنها إلا تعميق تلك الطقسية الخاطئة في السلوك الاجتماعي, فانعدام هذا الخطاب يبقي تلك الطقوس في داخل اطارها المغلق دون مرونة في جعلها قابلة للتطور، وتبقى هي النمط التفكيري والسلوكي المتكرر في سلسلة التحولات الاجتماعية والثقافية, حيث ان العادات والتقاليد تشكل البعد الأبرز في موضوع الثقافة والوعي الاجتماعي والفكري فتتأثر حركة المجتمع بهذا الموروث باعتباره الطقس الاجتماعي الذي يتحكم في الشخصية النمطية للانسان كفرد وكمجتمع، يقول علماء الانثروبولوجيا بأن الطقوس الاجتماعية هي بمنزلة مسقط الرأس للعديد من جوانب الأداء, فالطقس يتكون من التكرار النمطي المغلق لنشاط ما, , , ولا يتكرر النمط السلوكي فقط نتيجة للعادة، لكن ايضا لانه قد اكتسب دلالة باطنية عميقة, وقد تكون جذور هذا النشاط في الماضي عشوائية أو من قبيل المصادفة، أو تم نسيانها، لكنها أصبحت الآن تغلف بمغزى اجتماعي او ديني له أهميته (6) ومن هنا تكمن الخطورة الناجمة عن استغلال وتوظيف هذه البنية من الموروث واضفاء الشرعية على هذا السلوك الطقسي وتحويله الى بعد اجتماعي ثابت على مستوى الاداء الفردي والاجتماعي اوالى ايديولوجية طقسية وابقائها كنسقية نمطية وبالتالي قبول ممارستهاالاجتماعية والانسانية دون ان تحقق الوعي والغاية الاجتماعية المرجوة منها او تكون لحساب مسيرة التطور الاجتماعي, ان عملية التحديث الاجتماعي لابد ان تكون من خلال تغيير تلك البنى الاجتماعية وخلخلة الاشكال والنماذج الطقسية الجامدة وإزالة كل العوائق النفسية والفكرية والانطلاق من قاعدة التطابق مع قيمنا والوجدانية والتاريخية في اطارها الحضاري النقي بعيداً عن الترسبات او التأثر المعكوس للتراث وللطقوس الاجتماعية التي تمنعنا من الاستفادة من الانجازات والتطورات الحضارية والانسانية,
*هوامش:
(1) مقصودنا بالطائفي هنا ليست الحالة المذهبية بل النزعة التفكيرية التي ترتكز على روابط القربى والنسيج العصبوي والاثني وتأكيد الولاءات القبلية اي الولاء الذي تفرضه طبيعة التكوين والمزاجية العرقية وحاجة الذات في تأكيد نفسها في وسط متماوج كما هو الحال في وضعية بعض المجتمعات العربية التي تتوارث الولاء الشخصي والحزبي في نسقها الاجتماعي والسياسي للاحتماء من اختراقات الاخر ولتشكيل قطيعة تمثل حصارا ذهنيا وماديا يحول دون تسنم ذلك الاخر على معطياتها من تاريخية وانسانيةواجتماعية بغرض ابقاء آليات معينة من التواصل المفروض بقوة هذه العلاقة المركبة والمقعدة التي يصعب فهمها تحديد موقف يأخذ في الاعتبار هذه الطبيعة من شبكة التواصلات والتقاطعات التي تتداخل فيها الحالات مجتمعة دون القدرة على فرز اجزائها في التركيبة المجتمعية وبالتالي تحليلها وانصافها بمقاربة تعطي لهذه التوازنات شأنها الاجتماعي والثقافي,
(2) هشام شرابي، البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر ص 140 عن المستقبل العربي,
(3) ان الجهلانية هي منظومة اعتقادية التباسية لها مستويات ومراتب اجتماعية شتى، خليل أحمد خليل، سوسيولوجيا الجنون السياسي والثقافي,
(4) يعني التزاوج والتلبس بها وهي متقبلنة,
(5) بالاضافة الى تلك العوامل التي ذكرت في مقدمة المقال,
(6) سيكولوجية فنون الاداء: عالم المعرفة.

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved