أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 17th August,2000العدد:10185الطبعةالاولـيالخميس 17 ,جمادى الاولى 1421

مقـالات

البداوة والحضارة 2
نظرة أهل الهلال الخصيب
د. سعد بن عبدالله الصويان
النموذج الخلدوني للبداوة والحضارة يكاد يتطابق مع مفهوم أهل الهلال الخصيب الذين كانوا منذ فجر التاريخ وحتى عهد قريب يعتبرون أهل وسط الجزيرة العربية وشمالها كلهم من البدو، بما في ذلك الفلاحون، خصوصا وأن الفروق الشاسعة بين البدو والحضر، التي نلحظها مثلا في الحواضر العربية الأخرى، لا وجود لها في وسط الجزيرة وشمالها، ولأن أهل الجزيرة، بدوهم وفلاحيهم، ألصق الناس بأهل البادية أينما وجدوا في الأقطار العربية الأخرى وأقربهم لهم لغة وطباعا. حينما تطرق الرحالة الإنجليزي تشارلز داوتي Charles M. Doughty للعقيلات في كتابه الترحال في الصحراء العربية Travels in Arabia Deserta قال عنهم إنهم عرب من وسط الجزيرة العربية، وغالبا من القصيم حيث المدن والقرى التي تنطلق منها قوافل الإبل مثل بريدة وعنيزة والعيون والبكيرية والخبراء والرس ويترددون على بلاد الشام والعراق لجلب الإبل والتجارة. ولاحظ داوتي أن أجسام العقيلات النحيلة ووجوههم السمراء الشاحبة تختلف عن الدمشقيين بأجسامهم الأنيقة ووجوههم البيضاء العريضة. ولا يرى الدمشقيون أدنى فرق بين هؤلاء النجديين وبين البدو، ويعدون جميع سكان نجد بدوا أقحاحا يتكلمون العربية النقية ويعتبرون الأمير ابن رشيد والأمير الوهابي من أمراء البدو. ويضيف داوتي قائلا وسكان المدن لا يضعون كبير ثقة في هؤلاء الوافدين عليهم من سكان واحات الصحراء نظرا لهيأتهم غير المألوفة وأشكالهم الغريبة. ولذلك يحذرون المسافرين منهم بعضهم البعض: الويل للحاج الذي تنقطع به مطيته ويتأخر عن الركب ويقع في أيدي هؤلاء العقيلات! أُفّ! سوف يقطعون رأسه وحزام كيسه الذي يحفظ فيه نقوده! ولما خطر لي في بداية رحلتي أن أصطحب هؤلاء النجديين نهاني أصدقائي وحذروني من أنهم سوف يقتلونني حالما تبتعد عن أنظارنا قرية المزيريب. إلا أنني فيما بعد تعرفت على الكثيرين منهم ووجدتهم كلهم طيبين. هؤلاء هم العرب الذين زرتهم فيما بعد في بلادهم نجد ويقول عبدالعزيز عبدالغني ابراهيم في كتابه نجديون وراء الحدود: العقيلات كان العقيلات من حضر القصيم وشمر إلا أنهم كانوا في النهاية يعايشون البدو ويجرون على عادتهم ويعرفون -بحكم ما قاموا به من أعمال ارتبطت أوثق الارتباطات بالبدو والبادية- أصول التعامل مع البدو والعيش في أوساطهم. وحين خرج هؤلاء إلى العراق والشام ومصر لم يكونوا في فكر تلك الأمصار إلا أنهم بدو، ولم يعرفوا في كتابات تلك الفترة إلا بذلك اللقب .
لم يعتمد أهل الهلال الخصيب على الإبل بشكل أساسي في شؤونهم المدنية والعسكرية ولا في نشاطاتهم الزراعية والاقتصادية. لم يكونوا مثلا بحاجة إلى الإبل كوسائل للنقل لأنه كانت لديهم وسائل أخرى بديلة كالعربة والبغال والحمير والخيول. وكانت طرق الري عندهم تقوم في الغالب على شق القنوات لجلب المياه من الأنهار، وربما اعتمدوا على مياه الأمطار. فلم يكونوا بحاجة إلى حفر الآبار العميقة للوصول إلى الماء وجذبه بواسطة الطاقة الحيوانية، كما هو الحال في جزيرة العرب التي يعتمد الري فيها على السواني التي تعتمد أساسا على الإبل. وهكذا لم يتآلف أهل الهلال الخصيب مع الإبل ولم يعرفوها عن كثب وعدّوها حيوانات غريبة وحشية لا يقتنيها إلا البدو الذين يقطنون الصحراء ويعيشون حياة الرعي والترحال, ولم يتصور أولئك أن أهمية الإبل عند حاضرة الجزيرة العربية لم تكن تقل عن أهميتها عند البادية، ليس فقط كمصدر للحليب واللحم والوبر والجلود وإنما كوسيلة للنقل وحمل الأثقال والأعمال الزراعية، وكانت من أهم الوسائل التي استخدموها في أسفارهم وغزواتهم وحملاتهم الحربية. وحينما كانت الجيوش الغازية تنطلق من قلب الجزيرة على ظهور الإبل لتهاجم أطراف العراق والشام كان أهل تلك النواحي يعدون أولئك الغزاة بدوا لأنهم جاؤوهم على ظهور الإبل التي ارتبط اقتناؤها عندهم وركوبها بالبدو، علما بأنه قد يوجد من بين الغزاة، وربما شكلوا الغالبية منهم، من ينتمون إلى فئات الحضر من سكان القرى الزراعية والمدن. ومنذ عرف أهل الشمال هذا الجنس من البشر عرفوه قادما إليهم على الإبل، رمز البداوة ومعيشة الصحراء، فربطوه بها، كما تشير إلى ذلك بعض النقوش الآشورية التي تخلد انتصارات الملوك الآشوريين ضد الغزاة من البدو وأسرهم وأخذ إبلهم مثل جندب العربي الذي أخذ منه الملك الآشوري شلمناصر الثالث 10,000 عشرة آلاف بعير في معركة وقعت عام 855 قبل الميلاد قرب قرقر شمال حلب. وفي المصادر الأثرية القديمة التي تأتي معظمها من منطقة الهلال الخصيب وكذلك في التوراة والإنجيل، وحتى عند ابن خلدون، ترد الكلمتان بدو وعرب كمفردتين مترادفتين تشيران إلى سكان قلب الجزيرة العربية وشمالها، دون التفريق بين الرعاة منهم والفلاحين.
ولقد سيطر النموذج الخلدوني لثنائية البدو والحضر (والمصطبغ بنظرة أهل الشمال لأهل الجنوب) على الثقافة العربية وتبنته كموقف رسمي لها وأصبح هو النموذج الشائع والسائد. ورغم تطور الدراسات الأنثروبولوجية في العصور الحديثة لا يزال هناك من يرى أن البداوة بمفهومها العربي، التي تشير إلى رعاة الإبل الذين ينتجعون الصحراء بحثا عن المراعي لقطعانهم، مرادفة للبدائية، تلك المرحلة المتوحشة التي تمثل البدايات الأولى لتطور الجنس البشري. ومما كرس هذا النموذج أولوية البداوة وسيادة مفاهيمها وقيمها وتصوراتها في الثقافة العربية وما تعكسه مفردات اللغة العربية من تجذر في البيئة الصحراوية والحياة الرعوية. ولقد فسر البعض هذه الأولوية الثقافية واللغوية على أنها أولوية تاريخية وأن البداوة سابقة للحضارة. وربما ساهم في شيوع هذا الفهم الخاطئ العلاقة اللفظية، ولا أقول الاشتقاقية، بين البدو والبدائية وأن البدو، مثلهم مثل الجماعات البدائية، يعيشون حياة تنقل غير مستقرة.
البدائية بالمفهوم الأنثروبولوجي الصرف تشير إلى تلك الجماعات الصغيرة المعزولة التي تعيش على الالتقاط وعلى الجمع والصيد وتشكل فيها العلاقات القرابية الأساس الذي تقوم عليه كل العلاقات الاقتصادية والسياسية. هذه المرحلة البدائية تسبق مرحلة الزراعة واستئناس النبات والحيوان. وتعيش الجماعات البدائية حياة تنقل دائب بحثا عن الطرائد وعن المصادر الطبيعية للغذاء. فحينما تنضب مصادر الغذاء الطبيعية في مكان ما تضطر الجماعة إلى الانتقال إلى مكان آخر. وحياة التنقل التي يعيشها البدائيون تختلف عن حياة التنقل التي يعيشها البدو لأن البدو يتنقلون بحثا عن المراعي لإبلهم بينما يتنقل البدائيون بحثا عن القوت لأنفسهم. والإنسان البدائي ليست له سلطة تذكر على الحيوانات التي يصطادها، فهو لا يغذيها ولا يربيها ولا ينميها وهي لا تعتمد عليه في شيء البتة. أما البدوي فإن حيواناته لا تستطيع البقاء بدون رعايته وقيامه على خدمتها، فهو يرعاها ويسقيها ويحميها من الوحوش ويعالجها إذا مرضت ويجلب لها الفحل ويساعدها أثناء الولادة ويستنسل الأنواع الجيدة منها. وانتفاع البدوي من حيواناته لا يقتصر على أكلها، كما هي الحال بالنسبة للإنسان البدائي، بل هو يستفيد من حلبها وركوبها كما يستفيد من صوفها وجلودها وعظامها. كل هذه النشاطات المرتبطة بعلاقة البدوي بحيواناته، بما تتطلبه من أدوات وتقنيات ومهارات ومعارف، تشكل ثقافة أرقى من أن نقول عنها أنها بدائية. لذا لا يجوز لنا مقارنة البداوة بالبدائية لأنها تختلف عنها نوعيا وتتفوق عليها بمراحل من الناحية الثقافية ولأن متطلبات الحياة الرعوية لا تقل عن متطلبات الحياة الزراعية من حيث المستوى التكنولوجي ومستوى التنظيم السياسي والاجتماعي.
وفي إطلاق صبغة البدائية وصفة التوحش على البدو تجاهل لحقيقة أنثروبولوجية مفادها أن المجتمعات البدائية بطبيعتها مجتمعات صغيرة معزولة ليس لها أي احتكاك بالمجتمعات المتحضرة، وحالما يحدث هذا الاحتكاك، خصوصا إذا كان مكثفا ومتصلا، يبدأ المجتمع البدائي في التغير بفعل تأثيرات الحضارة الأقوى. والمجتمعات البدوية ليست مجتمعات معزولة بل إنها ترتبط ارتباطا عضويا مع المجتمعات الحضرية التي تشكل معها أجزاء مترابطة من الصورة الأكمل والمجتمع الأشمل الذي يتحرك بكامل طبقاته ومكوناته في مسيرته التاريخية وصيرورته الثقافية. الاختلاف الثقافي بين البدو والحضر لا ينبغي حمله على محمل أن الثقافة الحضرية أرقى وأكثر تطورا من الثقافة البدوية. قد يكون هذا صحيحا في الجانب المادي من الثقافة ولكننا نخطئ في اعتماد هذا الجانب مقياسا وحيدا للتقدم الثقافي لسببين؛ السبب الأول أن ثقافة الحضر المادية متاحة للبدو يستفيدون منها ويتعاملون معها كيف يشاؤون، وعدم استخدامهم لأداة من أدوات الحضر لا يعكس تخلفهم الثقافي بقدر ما يعكس عدم حاجتهم استخدام تلك الآلة كوسيلة إنتاجية. الاختلاف التقني المادي بين البدو والحضر لا يعكس اختلاف المستوى الثقافي بينهما بقدر ما يعكس اختلاف حاجة أولئك عن حاجة هؤلاء. ويجلب البدوي معظم أدواته وحاجاته المادية من الحضر، فهو لا يصنعها بنفسه، أي أنه يشارك الحضر ثقافتهم المادية ويستفيد منها بالقدر الذي يلبي حاجته. المتخصصون من الصناع والحرفيين يقدمون خدماتهم ومهاراتهم للبدو والحضر على حد سواء. أين الفارق التقني بين البدو والحضر، إذا كان كل ما هو متاح للحضر هو متاح أيضا للبدو؟ والسبب الثاني الذي يمنع من اتخاذ الجانب المادي مقياسا وحيدا للتقدم الثقافي هو أنه حتى لو افترضنا أن الثقافة المادية أكثر تطورا عند الحضر فإن البدو لا يقلون تطورا عن الحضر في الجوانب الأخرى من الثقافة، إن لم يتفوقوا عليهم، مثل التنظيمات الاجتماعية والسياسية والقضائية والقدرات الحربية والفصاحة والبيان وغيرها. لا أحد ينكر دور البدو في الفتوحات الإسلامية قديما وفي توحيد المملكة العربية السعودية حديثا. كيف يمكن لمجتمعات بدائية أن تلعب مثل هذه الأدوار العظيمة التي تنم عن قدرات حربية ومهارات تنظيمية ولوجستية هائلة!

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved