أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 17th August,2000العدد:10185الطبعةالاولـيالخميس 17 ,جمادى الاولى 1421

الثقافية

فلسفة الفن الجميل
حنان بنت عبدالعزيز بن سيف
الجمال هو الحلم الطموح البعيد الذي يصبو إليه ويتمناه كل واحد منّا، ويشمل الجمال كلَّ شيء في الكائن الحي خَلقه الجسمي، وخُلقه النفسي، ويشمل كذلك مظهره من لباس، وبيئته من تنظيم وتنسيق ونظافة وما إلى ذلك، وما زال المفكرون والأدباء والنقاد الباحثون ينظّرون ويدقّقون في ماهية الجمال، ويدرسون بعمق ودقة كنهه وحقيقته، حتى أصبح الجمال في عصرنا هذا علماً له أصوله وأسسه ومبادئه، وتشير كتب علم الجمال النقدية إلى مقولة لأحد الفلاسفة القدامى، وذلك حينما سُئل عن الجمال، ففكر قليلاً ثم قال: بحثت عن الجمال في كل شيء فلم أجده إلا في الإخلاص، فما بالك أيها القارىء بعلم تدرج من لفظة الإخلاص إلى فلسفة عويصة لها مفكروها ونقادها وفلاسفتها، وقد أسدى كثيرٌ من الفلاسفة أيادي بيضاء لعلم الجمال، لكن هذا العلم كثيرا ما يرتبط بالفيلسوف الكبير (هيغل) الذي أثرى المكتبة الأدبية والنقدية بدراساته العميقة لعلم الجمال، ومباحثه الرائدة حول مفهومه وقواعده، ويرى هيغل أن الكثيرين من الناس يعتقدون بأن الجمال غير قابل لأن يحبس في مفاهيم، ويبقى بحكم ذلك موضوعاً يعجز الفكر والعقل عن إدراكه والإحاطة به، وفي الحقيقة أنه لا يوجد مفهوم في أيامنا هذه لحقه من قلة الحظ مالحق المفهوم الأصلي لعلم الجمال نفسه، ويرجع هيغل السبب إلى أن الجمال له فلسفته الخاصة، ومن مظاهر هذه الفلسفة أن الإنسان لا يمكن أن يكتفى بحياة واحدة لا تتجاوز عالمه النفسي، ومحوره الداخلي، بل هو في احتياج محض، وشعور قوي حساس إلى أن يطلق العنان لاندفاعات نفسه العاطفية، وخلجات قلبه الشعورية، وتظهر الحاجة هنا إلى علم الجمال، الذي يعقل حاجة الإنسان الضرورية والملحة، إلى هذا الشعور الذي يسيطر على نفسية الفرد وحاجته وإحساسه.
ويرى الإنسان الجمال في كل شيء، في نفسه وفي بيئته وفي الطبيعة التي من حوله، وهناك علاقة وثيقة جداً بين الجمال الطبيعي وبيننا وذلك بسبب ما يولده الجمال فينا من إحساسات نفسية، فمثلاً سكون الليل في هدأة القمر وضيائه، وخرير جدول الماء المتدفق بانسياب، ومنظر البحر الهائج، وجلال السماء المرصعة بالنجوم والكواكب، فهذه المدلولات الجمالية، والمناظر الرائقة، ترتبط بنا من حيث الإحساسات النفسية التي تولدت في نفوسنا من جراء النظر والتأمل فيها.
وكذلك أيضاً الجمال الذي نشاهده ونحسه في الحيوانات، فنعجب بصفة الشجاعة في الأسد، والحيلة في الثعلب، والزهو والنضارة في الطاووس، كل هذه الصفات لها صلة قوية جداً بالحالات النفسية المتولدة في داخلنا من جراء النظر في هذه الحيوانات.
ومن الإشارات البديعة والظريفة لهيغل في بحوثه حول علم الجمال إشارته إلى الفن الشعبي وهو الذي يطلق عليه عادة الفن المبتذل أو الطبيعة المبتذلة التي رفعها الهولنديون إلى أسمى درجات الكمال، وهناك سؤال مهم وهو: ما الذي جذب الهولنديين إلى هذا الفن؟ ثم ما هو المضمون الذي تعبر عنه هذه اللوحات الفنية؟ وما مغناطيس الجاذبية فيها الذي لا يستطيع أحد مقاومته؟ ولإجابة هذه الأسئلة نجد بأن الهولنديين وجدوا في أنفسهم معنى لوحاتهم، فقد دافعوا ببسالة عن أراضيهم ضد هجمات البحر، واستطاعوا أن يطوحوا بالحكم الإسباني في عهد فيليب الثاني، وبفضل هذه الغيرة الوطنية، حصلوا على حريتهم واستقلالهم، وما دانوا بهذه الحرية لأحد، إلّا لبسالتهم الوطنية، وقوتهم الجماعية، وهنا ظهر انتماء هذه اللوحات الشعبية إلى ضمائر نفوسهم، ففيها دلالة قوية على المثل الأعلى الذي استلهموا منه قوتهم الدفاعية الباسلة، وقد اشترطوا في هذه الفنيات الشعبية أن تكون صغيرة الحجم، وأن تبدو في مظهرها الخارجي وكأنها عديمة الفائدة، بحيث يستطيع المطلع والمتأمل في هذه اللوحات الشعبية أن يسيطر على الموضوع الخارجي وعلى مضمون اللوحة في وقتٍ واحدٍ، وعلى الفنان سواء كان مجاله الفن الشعبي أو فن النحت أو الرسم الفني أن يعتمد على ذاته، ويرتكز على خياله، وأن يسكب فنه في قالبٍ بديع، يظهر فيه الفنان بصورة جديدة، تصفه لجمهوره ومحبيه بأنه فنان خالق مبدع.
ويستنكر الجماليون تلك المقولة التي تقول بأن الأدب تعبير عن شخصية الكاتب وذاتيته، وهي تستنكر على النقاد انكبابهم على قراءة حياة الكتاب والشعراء ليتفهموا ما كتبوه، وليروا المدى الذي استطاعت كتاباتهم من خلاله أن تكون مرآة صادقة لمجتمعهم وحياتهم، وينتهي الجماليون في بحوثهم ودراساتهم إلى القول بحرية الأديب المطلقة، فهي لا تحده ولا تلزمه ولا تقيده، بل تعطيه الحرية الكاملة، فالفنان الحقيقي هو من قرر أن يتحرك في فضاء واسع، وأن يحلق بجناحيه في سماء بعيدة، معتمداً على خلقه الإبداعي، وحريته المطلقة، وليس العمل الأدبي المبدع عند الجماليين في تدفق المشاعر تدفقاً طبيعياً وانسيابياً بتلقائية مباشرة، لذلك فهم يعطون للرمز أهمية كبيرة، فكلما حاول الأديب أو الفنان أن يفصح عن أحاسيسه بطريقة غير مباشرة، أو يسمى الشيء بغير اسمه، كلما زادت بلاغته وقدرته الفنية، بل انتهى الجماليون إلى أن العمل الأدبي نفسه حقيقة رمزية، فهم يؤمنون بالتصوير بدل التقرير، وبالدقة بدل الإبهام.
وبأن الفن وجد ليحقق وليدافع وليحفظ كرامة الإنسان، وقد أوضح هيغل رسالة علم الجمال وفلسفة هذا العلم بقوله: (إن فلسفة الفن لا تعني نفسها بقواعد الفنانين وآرائهم، بل عليها أن تؤكد ماهو الجمال بصفة عامة، وكيف يظهر نفسه في المنتجات الفعلية في الأعمال الفنية، دون أن يُعنى بإعطاء قواعد للإرشاد) (1) وهذه الرسالة التي حددها هيغل لعلم الجمال تنطلق من تركيزه على الدور الذي يلعبه العقل الإنساني، حيث يقول: (إن العقل وجماله الفني بكونه أرقى بالمقارنة مع الطبيعة له تمايز ليس نسبياً، فالعقل والعقل وحده قادر على الحقيقة ويستوعبها في ذاته حتى أن ما يكون جميلاً، لا يكون جميلاً حقاً وحقيقياً إلا بالمشاركة في هذا العنصر الأرقى وكشيء مخلوق، وبهذا المعنى يكون جمال الطبيعة إنما لا يكشف عن نفسه إلا على أنه انعكاس للجمال الذي يمتُّ إلى العقل، زيادة على ذلك نجد أن الاقتصار على الفن الجميل شيء طبيعي، فلم يدخل أحد في حسبانه أن يؤكد جمال الموضوعات الطبيعية ومحاولة استخلاص علم مجرد منهجي لهذه الجماليات) (2) ، وهنا سؤال يتبادر إلى الذهن وهو: إذا كانت هذه هي رسالة علم الجمال، فماهو موضوعه إذاً؟ وجواب السؤال عند هيغل أيضاً، حيث اعتبر موضوع علم الجمال الحياة الإنسانية، ويتميز عند هيغل بميزتين الأولى الحرية والثانية العقل، وأخيراً فرسالة هذا الفن الحقيقية كما يراها الأديب الأريب مُجاهد عبدالمنعم مجاهد في كتابه علم الجمال في الفلسفة المعاصرة: (أن يخلق إنسان الشمول والاكتمال وأن يقهر الاغتراب ليتربع على عرش الأرض وربما السماء أيضاً، ولم يحدث لمفكر مثله أن أكّد كما أكدّ هيغل أن الفن كله مستقبلي بل إن هدف هيغل من وراء دراساته الجمالية وقد حلَّقت بومة الجمال في غبش الماء أن يشرق فجر جديد أكثر جمالاً للإنسان وأن تعتبر الفن جداً كله لا لهواً).
الحواشي:
(1)، (2) مدخل إلى فلسفة الفن الجميل هيغل نقلاً عن كتاب علم الجمال في الفلسفة المعاصرة تأليف: مجاهد عبدالمنعم مجاهد الطبعة الثالثة 1406ه /1986م بيروت.
مراجع البحث:
1 علم الجمال في الفلسفة المعاصرة.
2 فكرة الجمال هيغل ترجمة جورج طرابيشي، الطبعة الأولى لعام 1978م، دار الطليعة بيروت.
3 الجمالية والواقعيّة في نقدنا الأدبي الحديث, تأليف: عصام محمد الشّنطي، الطبعة الأولى لعام 1979م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved