أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 18th August,2000العدد:10186الطبعةالاولـيالجمعة 18 ,جمادى الاولى 1421

شرفات

الجفاف والري وراء غروب شموس عدد من الحضارات
الحرب تستعر على الذهب الأزرق
خمس سكان الأرض يفتقرون إلى اتصال مباشر مع مصادر المياه
80% من الأمراض في العالم الثالث سببها نقص الماء
استهلاك زائد، ري بطرق تقليدية، كثيرة هي الممارسات التي تجحف بحق الماء، تلك النعمة الإلهية التي لولاها ما وجدت الحياة، والعالم بالتالي يعاني من نقص في الماء ويرجح الباحثون أن هذا النقص سيكون في لب نزاعات القرن الحادي والعشرين,
هذا على الاقل ما أيدته دراسة مناخية للعصور الجيولوجية القديمة أجريت مؤخرا.
في الأربعين عاما التالية للعام (1380م) وفي الستين عاما التالية للعام (1560م) شهدت منطقة بحيرة (نيغاشا) في كينيا في سياق القرون الماضية فترات جفاف غاية في المأساوية، وعادت موجة جفاف أخرى لتضرب المنطقة نفسها في الثمانين عاما التي تلت العام (1760م) ويعلق الباحث (ديرك فيرشورن) على ذلك بقوله:
لقد كانت موجات الجفاف التي ضربت الولايات المتحدة بعد العام 1930م أحداث لا تذكر امام ضراوة موجات الجفاف التي حصلت في القرون الماضية.
هذه النتائج كانت حصيلة دراسة مناخية أجراها الباحث (ديرك) وهو من جامعة غان بلجيكا بالتعاون مع باحثين آخرين هما (بريان كومينغ ولين ليرد) ركزت على العصور الجيولوجية القديمة، وبهدف الحصول على معلومات دقيقة عن التبدلات في معدل الأمطار في المنطقة قام الباحثون الثلاثة باستخدام تقنية مكنتهم من جعل الطبقات الرسوبية القابعة في قعر بحيرة (نيغاشا) تتكلم!
وقد ركز الباحثون في دراستهم على انخفاض موجود في مركز حوض البحيرة وتمكنوا بفضل المعلومات التي جمعوها من العودة بالزمن مدة بلغت ألف ومائة عام.
ويشير الباحث (ويرك) الى ان هذه الدراسة تحمل أبعادا مناخية وجغرافية سياسية في الوقت نفسه، موضحا بأن حصول النزاعات الاجتماعية والمجاعات والحروب العرقية وهجرة الشعوب في منطقة البحيرة تركز بصورة رئيسية في فترات الجفاف الثلاث التي تقدم الحديث عنها, وقد تأكد ذلك من خلال الموروث الشفهي لشعوب هذه المنطقة إذ إنه تكلم عن موجة جفاف (وامارا) بين العامين 13901420 وموجة (نيار وبانغا 15601625/ وموجة لابانارا 17601840,وقد عرف التاريخ عدة أمثلة لحضارات ارتهن مصيرها بمواردها المائية فموجة الجفاف التي حدثت منذ أربعة آلاف ومئتي سنة في الشرق الأوسط واستمرت قرابة ثلاثة قرون أدت الى أفول شمس واحدة من أكبر الامبراطوريات التي عرفتها البشرية هي حضارة الأكاديين في بلاد ما بين النهرين، كما يرجح المؤرخون ان حضارتي الأنكا في أمريكا الجنوبية وسبأ في اليمن ما كانتا تنقرضان لولا شح الماء وتبين الحوادث التاريخية ان مملكة سبأ تداعت بعد تهدّم سد مأرب في القرن الأول قبل الميلاد.
يقول الباحث (أرون وولف) وهو اختصاصي في علم الجغرافية من جامعة آلاباما في الولايات المتحدة ان أكثر الحوادث التاريخية توثيقا في هذا السياق النزاع المسلح الذي نشب بين مدينتي (لاغاش) و(أوما) السومريتين على مياه نهر دجلة سنة (2500) قبل الميلاد، ويشير المحللون الاستراتيجيون الى ان الجفاف ليس السبب الوحيد في أفول شموس عدد من الحضارات القديمة موضحين بأن الري نفسه ساهم في اضعاف بعض هذه الحضارات، وقد يبدو هذا الكلام غريبا نوعا ما لكنه يحمل جانبا من الحقيقة، فالري كما تؤكد الدراسات يقود الى سيل من المشاكل منها استنزاف المياه الجوفية والتملح الذي يعد أخطرها، وتبين الباحثة (ساندرا بوستل) العاملة في مشروع سياسة ماء الكوكب ان هذا الوباء أي التملح لعب دورا هاما في سقوط مجتمعات بلاد ما بين النهرين مشيرة الى ان مصير معظم الحضارات التي اعتمدت بشكل رئيسي عليه كان الزوال.
أول من طرح فكرة (سلطة الماء) كان المؤرخ الماركسي (كارل ويتفوجيل) وكان ذلك بين عامي 1940 و1950 وقد أعد كارل نظرية تقول ان التحكم بمصادر المياه من قبل أباطرة الصين شكل وسيلة مهمة ان لم تكن وحيدة في اخضاع الشعب وختم كارل نظريته بالقول ان المجتمعات المائية مصدر إلهام رئيسي للاشتراكية الحديثة، وهو إلهام يقوم على كلمتين اثنتين هما: حصر السلطة.
وبعيدا عن النظريات الماركسية، يمكننا ان نلاحظ وجود عدد من النقاط المشتركة بين دراسة (ديرك) ونظرية (ويتفوجين) اذ ان الأول يشدد على الحاجة الملحة لاتخاذ قرارات سياسية عاجلة ترسخ إدارة ثابتة للماء موضحا بأنه اذا أخذنا تسجيلات الهطولات المطرية الاقليمية في عين الاعتبار نلاحظ وجود احتمال كبير لحدوث موجة جفاف شديدة في منطقة خط الاستواء الافريقية خلال الخمسين سنة المقبلة.
ويؤكد الخبراء انه بقدر ما سيزيد الضغط السكاني في هذه المنطقة تزيد نتائج موجة الجفاف مأساوية وتتضح اهمية هذا العامل بصورة جلية عندما نعلم ان عدد السكان المحليين تضاعف خلال الربع الأخير من القرن العشرين، ويرى البروفسور (هانس فان) مدير جامعة الأمم المتحدة ان افريقيا ليست القارة الوحيدة المهددة بالجفاف مشيرا الى وجود نزاعات مسلحة دولية وقومية كثيرة على الماء وهي تهدد باحتلال مساحة واسعة على الخارطة السياسية للقرن الحادي والعشرين، وفي هذا السياق جاءت المعطيات التي جمعها تقرير (نظرة حول ماء الكوكب) الذي نشر مؤخرا في المؤتمر العالمي الثاني للماء لتدق ناقوس الخطر، فقد بنى التقرير ان خمس سكان الأرض يفتقرون الى اتصال مباشر مع مصادر مياه صالحة للشرب وان نسبة تصل الى النصف لا تملك بنى تحتية صحية أساسية وجاء في سياق التقرير ان ما يتراوح بين ثلاثة الى أربعة ملايين شخص يموتون سنويا بسبب أمراض ناجمة عن استهلاك مياه غير صالحة للاستخدام البشري وان من بين هؤلاء الضحايا نحو مليوني طفل يموتون بسبب الاسهال بصورة مباشرة، وتبين الاحصاءات ان نقص الماء يتسبب في ثمانين بالمائة من الأمراض في العالم الثالث، كما يتوقع الخبراء ان يزداد الوضع سوءا موضحين بأنه في غضون قرن واحد تضاعف عدد سكان العالم ثلاث مرات في حين تضاعف حجم استهلاك الماء ست مرات، ومن جهة أخرى تبين الباحثة (ساندرا بوستيل) ان خمس الأراضي المروية تقع فريسة التملح في وقت تعتمد معيشة عدد كبير من المجتمعات اليوم في أربعين بالمائة منها على الري.
وفي الهند، يرى الاختصاصيون في الدراسات المائية ان كمية الماء التي يتم ضخها من باطن الأرض تبلغ ضعفي كمية الأمطار التي تغذي جيوب المياه الجوفية، وأنه باستمرار الأمور على هذا المنوال يرجح ان يؤدي استنزاف المياه الجوفية الى انخفاض انتاجية الأراضي بنسبة خمس وعشرين في المائة، ويبدو هذا الرقم مثيرا للقلق اذا علمنا ان عدد سكان الهند يزيد قرابة ثمانية عشر مليون نسمة سنويا.
ومن المفارقات الكبيرة ان الماء على سطح كوكبنا عموما متوفر بغزارة اذ يصل حجم الكمية المتاحة لكل شخص نظريا الى ألف وثمانمائة متر مكعب سنويا لكن الأمور عمليا ليست كذلك فالماء على الأرض ليس موزعا بصورة عادلة اذ ان حصة المصري السنوية مثلا لا تتجاوز ثلاثين مترا مكعبا في حين تصل حصة الايسلندي الى أكثر من سبعمائة ألف متر مكعب، ويوضح الخبراء أن ظاهرة الضغط المائي تفرض نفسها في الدول التي لا تؤمن لأفرادها أكثر من ألف متر مكعب سنويا لكل شخص طبعا ويعد هذا الرقم العتبة الدنيا اللازمة لقضاء الحاجات الصحية الأساسية للإنسان.
ويؤدي الى تفاقم مشكلة التوزع غير العادل للثروة المائية عاملان اضافيان يتمثل الأول في الضغط السكاني الذي يفرض مع مرور الوقت إدخال مساحات اضافية من الأراضي قليلة الانتاجية ضمن الخطط الزراعية وهي أراض تتطلب كميات كبيرة من الماء ولا تقدم انتاجا وفيرا، أما العامل الثاني فهو يتلخص في التزايد المطرد لاستهلاك الفرد من الماء ويعلل الباحثون هذا التزايد بالتطور الحاصل في مستوى المعيشة.
ويبين (فريدريك لاسير) وهو باحث في الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية في جامعة الكيبيك الكندية ان الفروق الواضحة في استهلاك المياه بين الدول المشاركة في الاستفادة من حوض مائي واحد والناجمة عن علاقات القوة وتباين مستويات التقدم بين هذه الدول تجعل المفاوضات حول اقتسام المياه غاية في الصعوبة اذ ان المياه في عدد كبير من هذه الحالات تكون حيوية لأمن الدول المستفيدة منها، وخير مثال على ذلك النزاع الدائر في الشرق الأوسط وفي حوض الأردن بالتحديد حيث يجمع المحللون السياسيون على القول بأن الماء كان أحد الأسباب الرئيسية المؤدية لنشوب حرب الستة أيام في حزيران 67,كما يشير المحللون الى ان المشكلة لم تنته حتى اليوم فمياه حوض الأردن تشكل جزءا من النزاع الدائر بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ويرى (فريدريك لاسير) ان مشكلة الماء تسمم العلاقات بين الفلسطينيين والاسرائيليين في سياق حياتهم اليومية اذ ان الفلسطينيين مجبرون على دفع ثمن مرتفع للمياه التي يستخدمونها في ري محاصيلهم على عكس اليهود الذين يدفعون أسعارا رمزية، وأكثر من ذلك، فانه يسمح لليهود بحفر آبار يصل عمقها الى ثلاثمائة وخمسين مترا في حين يحظر على الفلسطينيين حفر آبار يتجاوز عمقها سبعين مترا.
وما يزيد الوضع الجغرافي السياسي تعقيدا، ان الأردن وسورية تعتمدان بصورة متساوية على جزء كبير من مياه حوض الأردن وحوض اليرموك رافده الرئيسي وتبين الدراسات ان صبيب حوض اليرموك الواقع على الحدود السورية الأردنية انخفض من (410) مليون متر مكعب سنة 1963 الى 148 مليون متر مكعب في عام 1991 وحتى الدول الأكثر استقرارا من الناحية السياسية ليست بمنأى عن النزاعات المائية، فكندا والولايات المتحدة تتبادلان الادعاءات بصورة دورية حول الأحقية في الاستفادة من مياه البحيرات الكبرى وأنهار شمال المرج الكندي، وهناك قصة طريفة ذات دلالات كثيرة حصلت سنة 1995 في كولومبيا حيث لجأت هذه الدولة لحماية نفسها من ضغوط جارتها الولايات المتحدة التي كانت تحثها على تصدير الماء لها، لجأت الى اصدار قانون يحظر أي شكل من أشكال الاتجار بالماء.
ويشير المحللون ان التنوع الكبير في أشكال النزاعات المائية موضحين في الوقت نفسه ان الماء ليس بالضرورة العامل الوحيد المؤدي الى نشوب وتطور النزاعات اذ تلعب الخصومات القديمة والأهداف الاستراتيجية والسياسية دورا هاما في هذا السياق، ومن هذا المنظور يصبح الماء سلاح حرب حقيقي أو على أقل تقدير ورقة ضغط سياسي وعسكري.
ويخفف المحللون الاستراتيجيون من حدة تشاؤمهم بالقول ان الحلول الكفيلة بتهدئة حالات التوتر موجودة وهي تبدأ من استخدام طرق فعالة في الري، وندرك ما لهذا الحل من أهمية عندما نعلم ان نصف كمية الماء التي تقدم للبنات بطرق الري التقليدية فقط تصل الى الجذور بينما يضيع النصف الآخر سدى، ومن الحلول الأخرى احداث تغييرات في السياسات المائية الداخلية للدول اذ ان مؤسسات ومصالح المياه في معظم أنحاء العالم تتلقى دعما ماليا كبيرا من الحكومات الى درجة انه لم يعد للماء قيمة ملموسة الأمر الذي أدى الى عدم سعي القائمين على الزراعة الى ابتكار تقنيات فعالة للحفاظ على الماء ومنع هدره.
ويؤكد الخبراء في مجال المياه انه عندما تتنبّه الحكومات الى ضرورة احداث هذا التغيير في سياساتها المائية فان القيام بهذا المشروع يتطلب تمويلا كبيرا، ويقدّر البنك العالمي المبلغ اللازم لتأمين المتطلبات الأساسية لتوزيع الماء وإعادة معالجته بصورة تمنع الهدر بما يتراوح بين ستمائة الى ثمانمائة مليار دولار فيما يرى خبراء الأمم المتحدة ان كلفة مشروع كهذا لا تتجاوز مائتين وخمس وعشرين مليار دولار وبين هذين الرقمين يقع على الأرجح الرقم الذي يمثل ثمن تجنب ويلات حروب مائية تهدد الاستقرار في بقاع مختلفة من الأرض.

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved