أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 23rd August,2000العدد:10191الطبعةالاولـيالاربعاء 23 ,جمادى الاولى 1421

مقـالات

منعطفات
تافهة وكسول!
د, فهد سعود اليحيا
اليوم سأروج لكتاب لا تربطني به اية صلة غير اني قرأته، واحببته, وللترويج سأنقل عدداً من فقراته، وارجو من القارئ العزيز ألا يقارن بين اسلوبه واسلوبي، فالنتيجة ستكون ضدي في النهاية.
الكتاب هو أفكار تافهة لرجل كسول والمؤلف هو جيروم ك, جيروم 1859 1927 الذي ترك المدرسة في سن الرابعة عشرة، ليعمل في محطة للقطارات، ثم مدرساً، فممثلا مسرحيا، ثم صحفياً، فمدير تحرير، وله عدة كتب ومسرحيات.
وترجم الكتاب بشكل رائع الدكتور احمد مستجير ولا اقول ذلك لأني قارنت بينها والنص الانجليزي فهذا لم يحدث ولكن لأنك تقرأه وكأنه مكتوب اصلاً بالعربية, ولأنه صدر ضمن سلسلة كتاب الهلال، فهو من القطع الصغير ولا تزيد صفحاته عن 170.
وقد صدر الكتاب لأول مرة عام 1886، اما الترجمة العربية فهي عن طبعة صدرت عام 1926, وقد اعيدت طباعة الكتاب مراراً، وما زال يطبع، وتمت ترجمته الى العديد من اللغات, ولا عجب في ذلك، فالكتاب يستمد حياته وحيويته من كونه يعرض افكاراً راودت، وتراود، كل واحد منا, او قل هي خواطر مرتبطة بالطبيعة الانسانية, وبالرغم من بساطة عرض الافكار، ووضوح مقصدها، فهي تقترب من التأمل في النفس البشرية.
في المقدمة يقول الكاتب:ان ما يطلبه القارئ من الكتاب في ايامنا هذه هو ان يرفع من مستواه، وان يعلمه، وان يهذبه، وهذا الكتاب لن يهذب ولا حتى بقرة، ولا يمكنني بضمير مستريح ان اوصي به لأي غرض نافع (!) هذه اسطر لا تبشر بخير، ولا تشجع على القراءة، ولكنها على الأقل تستفز القارئ ليرى ما هو آت في 14 فصلاً عن 14 موضوعاً مختلفاً منها الافلاس، والحب، والكسل، والملابس، والاطفال وحتى القطط, ولكن القارئ سيجد ارتباطاً على نحو ما بين هذا الموضوع وذاك.
لنبدأ مع الكتاب فاسألك: كم من مرة بقيت لك عند البائع بضعة قروش، او عدة ريالات فتجاهلتها؟ او عندما رأيت البائع يبحث في ادراجه ويفتش جيوبه قلت له: لا عليك، بعدين ؟ وانت تعلم انك لن تأخذها، ولن تطالب بها لاحقاً لأن الفلوس لا تهمك , وما دمنا في هذا السياق هل تعرف كم تدخر وتوفر؟ انظر لما يقوله جيروم: عجيب حقاً ما يقدمه الافلاس من تبصر في شؤون الاقتصاد المنزلي, اذا اردت ان تعرف قيمة النقود، فلتجرب ان تحيا على خمسة عشر شلناً في الاسبوع، ثم حاول ان ترى كم تستطيع ان تقتصد من اجل الملابس والاستجمام, ستكتشف انه من الحكمة ان تنتظر امام البائع لتأخذ مليماً تبقى لك، وانه من الحكمة ان تمشي ميلاً لتوفر قرشاً بصراحة راقت لي الفكرة خصوصاً انني منذ تسلمت اول مرتب لي، وحتى الآن، وانا اجد دائماً ان مرتبي لا يكفي للمصاريف, وتذكرت صديقاً لي اقترض مبلغاً من البنك، ثم اودعه فيه ذات اليوم! ولما سألته عن السبب قال انه يستطيع ان يعيش بنصف المرتب ولكنه لن يفعل ذلك طالما يتسلم المرتب كاملاً, ولكنه بوسيلة القرض سيقوم بالتوفير.
ولذلك اقترحت على مجلس الاسرة الصغيرة ان نجرب ما قاله جيروم اعلاه ولكني جوبهت بمعارضة شديدة من المدام ببساطة لأني على حد قولها ذو يد مخروقة ولن يصلح الحداد ما افسد الدهر، كما اني على حد قولها ايضاً لا افقه شيئاً في مصاريف البيت وغلاء المعيشة, اما الاطفال فأعلنوا الاستنفار خوفاً على مصروفهم الاسبوعي بالرغم من طمأنتي لهم بأنها تجربة مؤقتة ليعرف كل منا كيف يصرف نقوده حسب الاصول, وهكذا - وباعتباري ديموقراطيا اصيلا - تقبلت هزيمتي في دورة المناقشة المفتوحة الاولى, ولكن، ولأن زوجتي لا تقرأ مقالاتي عادة، اصارحكم بأني سأنفذ هذه الفكرة يوماً ما، ولأني عربي اصيل ايضاً فسأجبرهم على قبولها بمزيج من خطة جهنمية وصلاحياتي غير المحدودة كرب اسرة سعودي.
اما في الفصل الموسوم بالكآبة فيقدم وصفاً رائعاً للاكتئاب بعيداً عن رطانة الاطباء النفسيين وفذلكة المختصين، فيقول عن نوبة الكآبة: اما اثرها عليك فربما امكن تشبيهه بما تشرع به اذا ما اصبت بآلام الاسنان وعسر الهضم والانفلونزا في آن معاً, تصبح غبياً، ضجراً، وقحاً مع الغرباء، خطراً على الاصدقاء، اخرق، ميالاً للبكاء، مشاكساً، مؤذياً لنفسك ولكل من هم حولك.
فاذا ما تمكنت منك النوبة فلن تستطيع ان تفعل شيئاً، ولا ان تفكر بشيء، لكنك ستحس في نفس الوقت بضرورة ان تقوم بعمل ما, لن يمكنك ان تجلس ساكناً, ستضع قبعتك فوق رأسك وتخرج لتتمشى، وما ان تبلغ اول ناصية حتى تتمنى لو انك لم تخرج، فتكر راجعاً الى منزلك، تحاول ان تقرأ، فتكتشف ان شكسبير ليس الا كاتباً مبتذلاً، وان ثاكري ممل، وان كارلايل عاطفي اكثر من اللازم، تلقي الكتاب جانباً، وتجلس تسب الكتاب واحداً واحداً,, اما المتزوجون, فهم يشرعون في التنكيد على زوجاتهم، وفي الدمدمة اثناء تناول الطعام، ثم انهم يصرون على ان ينام الاطفال الملاعين فوراً,, سيولي كل اهتمامه الى باب واحد من ابواب الترويح عن النفس، هو باب الشجار .
ولعل القارئ رجلا او امرأة يجعل هذه الفقرة في مقدمة ذاكرته، فيستدعيها كلما يقدم على مثل تلك التصرفات ليرى هل هي نوبات عابرة عادية او متكررة غير طبيعية, ذلك اني ازعم ان الاكتئاب، بشتى صوره، منتشر بيننا بنسبة كبيرة لعلها تفوق المعدلات العالمية كما هو الحال بالنسبة للرهاب الاجتماعي الخجل في وجود الآخرين .
الثراء نسبي، ونحن نتسابق لجمع المال لسبب عجيب هو اننا نود ان نصبح اثرياء، ليس من اجل التمتع بالراحة والنعيم فكل ما يحتاجه الشخص للراحة والنعيم لا يتعدى ثمنه في اي مكان مائتي جنيه سنويا وانما من اجل ان يكون بيتنا اوسع وافضل اثاثا من منزل جارنا، من اجل ان يكون عدد خيولنا وخدمنا اكثر، من اجل ان تلبس زوجاتنا وبناتنا اسخف الثياب وإن تكن اغلاها ثمنا، من اجل أن نقيم الولائم المكلفة ثم لا نأكل منها ما يساوي شلنا,, هل يعيش جيروم متخفيا بين ظهرانينا؟ ام انه كان يعاني من آثار طفرة ما؟
ومن المعروف عن الانجليز انهم يتحدثون كثيرا عن احوال الطقس، ولهم حق في ذلك فطقس بلادهم متقلب للغاية، وتكاد الفصول الاربعة تجتمع في يوم واحد, والطقس لدينا اما صيف طويل او شتاء قصير وربيع وخريف عابران, بيد ان في السنوات الاخيرة فوجئت بأمرين، الاول، اني عندما اسأل المراجعين في العيادة عن احوال المزاج فان كثيرا منهم يقولون مثل جو الرياض وقبل ان افكر بماذا يقصد على وجه التحديد، يستدرك فيقول متقلب مثل جو الرياض ! اما الثاني فاني وجدت الحديث عن الطقس يحتل مساحة كبيرة من احاديثنا اليومية، حتى ولو كانت المسألة تحديد اذا ما كانت درجة الحرارة تزيد هذا اليوم عن الامس او تنقص عنه بدرجة مئوية واحدة, والحقيقة: انه دائما طقس فظيع، من وجهة نظرنا, الطقس كالحكومة دائما على خطأ, في الصيف نقول انه خانق وفي الشتاء نقول انه قاتل, وفي الربيع والخريف نجد عيبه في انه لا هذا ولا ذاك، ونتمنى لو استقر على اتجاه واضح, اذا كان صحوا قلنا ان الريف سيدمر بسبب نقص الامطار, فاذا امطرت صلينا من اجل الطقس الصحو, اذا مر ديسمبر دون ان يسقط الثلج تساءلنا ناقمين عما حدث لأشتيتنا الجميلة الماضية، وتحدثنا كما لو كنا قد خدعنا في شيء اشتريناه ودفعنا ثمنه, فاذا ما سقط الثلج تلفظنا بألفاظ قبيحة لا تليق بأمة متدينة, لن يستريح لنا بال حتى يصنع كل منا طقسه، ويدكنه لنفسه! .
ويتحدث عن خبرة السكنى في العلية Attic وهي الغرفة المائلة الجدران المحشورة بين سقف البيت وسقف الغرف: يا كم تأوهت في هذه الحجرات ذات السقف الواطئ, لكن الحزن لم يصبح اقل ولم يصبح اكثر بعد ان تركتها, ان الحياة تعمل بتوازن تعادلي، فالسعادة التي نحظى بها في اتجاه نفقدها في اتجاه آخر, كلما ازدادت امكاناتنا ازدادت رغباتنا، ونحن لا نقف ابداً في منتصف الطريق, عندما نسكن في الأتيك، نتمتع بعشاء من السمك المقلي، وعندما نسكن بالدور الاول فان الامر يتطلب عشاء متقناً في فندق الكونتيننتال حتى نحقق نفس القدر من المتعة .
ويتألق جيروم بسخريته الرائعة فيقول: كانت قضايا التذوق تحسم بسرعة في تلك الايام, فاذا ما وقع شاب من شباب القرن الثاني عشر في الحب، فانه لم يكن يخطو الى الخلف ثلاث خطوات، ثم يحملق في عينيها ويقول انها اجمل من ان تحيا، انما سيقول انه سيخرج ليتدبر الامر, فاذا ما خرج وقابل رجلاً وشج رأسه رأس الرجل الآخر فان فتاة الاول ستكون جميلة.
اما اذا شج الآخر رأسه، ليس رأسه هو شخصياً كما تعرف وانما رأس الشاب الآخر، اعني الآخر بالنسبة للثاني، ذلك لأن الشخص الآخر سيكون بالطبع شخصاً آخر بالنسبة به فقط، وليس للشخص الاول، حسناً,, اسمع لي، اذا شج أ رأس ب فان فتاة أ تكون جميلة، اما اذ شج ب رأس أ فان فتاة أ لا تكون جميلة وإنما فتاة ب هي الجميلة, كانت هذه طريقتهم في معالجة النقد الفني وازعم ان هذه ما تزال طريقتنا بعيداً عن النساء في علاج النقد الفني والادبي والعلمي والفكري, باختصار، في علاج اختلاف وجهات النظر في اي مجال، ومن يدخل اية ساحة من ساحات الحوار في الانترنت سيجد اني من الصادقين.
ويغمز من قناة النساء فيقول: انني اتطلع الى اليوم الذي نصبح فيه نحن الرجال بلا عمل سوى ان نرقد في السرير حتى الثانية عشرة ظهراً، ونقرأ روايتين في اليوم، ونشرب الشاي وحدنا في الخامسة، ولا نشغل رؤوسنا بأكثر من مناقشات عن آخر مودة للبنطلونات، وعما اذا كان معطف المستر جونز مصنوعاً من الصوف الخالص، وعما اذا كان يلائمه, انه توقع رائع، لكل كسول مثلي! واطمئن سيداتنا الفاضلات بأنه لا يعنيهن بدليل حديثه عن القراءة اليومية كما انه لا يعني السادة الرجال لذات السبب.
وتحليله للكسل منطقي للغاية، فلا يحلو الكسل الا لمن يعمل اما من لا عمل لديه فانه يتأفف الفراغ بينما ربما كان يشكو من عدم استمتاعه بالكسل ذلك انه من المستحيل ان تتمتع بالكسل كما يجب دون ان يكون لديك عمل كثير, ليس ثمة متعة في الا تفعل شيئاً اذا لم يكن لديك اصلاً ما تفعله, ان تبديد الوقت عندئذ سيكون مجرد تأدية واجب، وسيكون امراً مرهقاً .
ارجو ان اكون قد وفقت بالترويج للكتاب، فقد قمت بهذا من اجلك انت، اما جيروم فلا يعنيني من بعيد او قريب, وقبل ان اودعك الى لقاء احذرك مما حدث معي فظننت اني قادر على مجاراته ثم تيقنت بأن الكتاب عن حق من السهل الممتنع .
fahads@ suhuf. net. Sa

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved