أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 24th August,2000العدد:10192الطبعةالاولـيالخميس 24 ,جمادى الاولى 1421

الثقافية

ميلان كونديرا في روايته الجديدة (الهوية)
رواية صادمة حتى نصف الصفحة الأخيرة!
إبراهيم نصر الله
عام 1988 قدمت دار الآداب رواية جديدة ضمن سلسلة الأعمال الروائية العالمية المترجمة بعنوان (الحياة هي في مكان آخر) للروائي التشيكي ميلان كونديرا، وقد فتحت هذه الرواية الباب واسعاً لهذا المؤلف في عالمنا العربي ليطل على القارىء من الباب الواسع، إذ حقق العمل حضوراً فاعلاً وبسرعة قياسية، مما مهد الطريق لترجمة أعماله اللاحقة، وقد كانت (الحياة هي في مكان آخر) فازت بجائزة الكتاب الأجنبي (مدسيس) عام 73، وهي واحدة من الروايات التي تجاوزت حدود البلد الذي كتبت فيه، لأكثر من سبب، ووصلت إلى اللغات العالمية.
قرأ العالم العربي لكونديرا بعد ذلك، وعلى التوالي، رواياته: غراميات مرحة، خفة الكائن التي لا تحتمل، كتاب الضحك والنسيان، وكلها صدرت عن دار الآداب، قبل أن تصدر دار أزمنة في عمان روايته: الخلود، وتصدر دار (ورد) في دمشق روايتين جديدتين له هما: البطء والهوية، والأخيرة هي الأحدث في سلسلة أعماله أيضاً، وقد كتبها بالفرنسية، بعيداً عن اللغة الأم.
ولد ميلان كونديرا عام 1929 في برنو، ابنا لعازف بيانو مشهور، وقد ظهرت روايته الأولى: المزحة عام 1967 وتلتها: فالس الوداع، ثم الحياة هي في مكان آخر، قبل أن ينتقل إلى فرنسا، ويواصل الكتابة هناك، بالتشيكية طويلاً، وبالفرنسية مؤخراً.
(إن أعمال كونديرا أشد الأعمال التي نقرؤها اليوم تطلبا يقول فرانسوا ريكار واستعمل كلمة (تطلب) بمعناها الجذري المطلق، أي أن هذه الأعمال تقدم للعقل والقلب تحديا يصعب تقويمه إلى حد بعيد، ويحتم علينا البحث مجدداً عن أنفسنا, أن نستسلم ونوافق حقاً مجازفة قد تقودنا إلى أبعد مما كنا قد أردنا اعتقاده، إلى حدود الوعي تقريباً,, ومن أجل ذلك لايعتقد النقاد أنهم يصيبون كثيراً حين يستخدمون كلمة تخريب لوصف رواياته، لكنهم قلما يقولون إلى أي حد يكون هذا التخريب كاملاً، لا رجوع عنه).
ربما يكون هذا المدخل، ومن خلال نصفه الأول على الأقل مفتاحاً لقراءة رواية كونديرا الأخيرة: الهوية، التي ترجمها إلى العربية بصورة بارعة الدكتور أنطون حمصي.
تستند (الهوية) إلى أحداث بسيطة، يومية، وعابرة في منطق الحياة الرتيبة، لكنها عنده، كاشفة، محورية، وتشكل بؤرة اختبار حاسمة للشخصيتين الرئيسيتين: شانتال، وجان مارك, امرأة تنتظر حبيبها في نزل ماقرب البحر، حيث من المقرر أن يتبعها، وحتى لحظة قدومه يكون الراوي قد سرد لنا بتفصيل مكثف وغني ومحموم هواجس هذه المرأة: شانتال، تجاه حبيبها الذي يصغرها عمراً بأربع سنوات، وتفاصيل اللحظة التي جمعتهما، وأحاسيسها تجاه طفلها الذي اختطفه الموت، وتجاه ذاتها والإحساس بهذه الذات.
يبرع كونديرا في التكثيف، وهو يصف الداخل الإنساني قبل لحظات انهياره، مستغلا الطاقة الشعرية القصوى للغة، كونديرا الذي سبق أن قدم هجاء ساحقاً للشعر (قد تكون رواية الحياة هي في مكان آخر، جنباً إلى جنب مع دون كيشوت ومدام بوفاري، العمل الأكثر قسوة الذي كتب ضد الشعر، الشعر كأرض تتمتع بامتيازات التوكيد والأصالة حسب قول ريكار أيضاً.
يذهب كونديرا مباشرة إلى الداخل المصطرع، داخل شانتال، التي اكتشفت فجأة (لم يعد الرجال يديرون وجوههم نحوي) متذكرة في آن، أن حبيبها يصغرها بسنوات، وهذا الهاجس الصاعق الذي حطم يقينها بذاتها، هو المفتاح الأساس لقراءة هذه الرواية، التي يتركها كونديرا معلقة في الهواء في النهاية، حين يشكك الراوي في حقيقة ماحدث وهو يقول: وأنا أتساءل: من الذي حلم بهذه القصة؟ من تخيلها؟ هي؟ أم هو؟ أم كلاهما؟ كل واحد عن الآخر؟ وانطلاقاً من أية لحظة تحولت حياتهما الواقعية إلى هذا الخيال الماكر؟ لكن المسألة في كتابة الرواية، لا تتعلق بكون الرواية واقعاً أو حلما بقدر ما يتعلق الأمر بذلك الذي يمكن ان نقوله عبر هذا الحلم، أو عبر هذا الواقع، لأن الفرق بينهما يختفي عند الوصول إلى الحقيقة الفنية.
من هذه الزاوية بالذات يمكن أيضاً الدخول إلى العمل، كتصور ما، فني، لماهية الشخصيتين، بعد أن قدم لنا كونديرا المفتاح المتمثل في قولها المذكور، في تلك العبارة التي تطلقها من صدرها، ليسمعها جان مارك، وتقوده بالتالي إلى لعبة ابتداع معجب وهمي لحبيبته، يكتب لها الرسائل، فترق لمدى مافيها من انسانية، تخبئها كسر أثير، ويخرجها بذلك من دائرة يأسها، لتتفجر في داخلها امرأة جديدة، جديدة تماماً، رغم يقينها أنها وهي تبعث بكل هذا الإندفاع مع جان، إلا أنها في الحقيقة تتصور الرجل الآخر الرهيف، كاتب الرسائل المجهول، لتكتشف في النهاية أنه ليس سوى جان، وان الرسائل ليست أكثر من محاولته لإيقاعها في وهم حب جديد، ليسهل عليه الابتعاد عنها: عندما وضع الرسالة الأولى في العلبة، لم يكن يفكر في إرسال أخرى، لم تكن لديه أية خطة، ولم يكن يستهدف أي مستقبل، كان يريد بكل بساطة، أن يسعدها الآن فوراً، أن يحررها من هذا الانطباع المحيط، لم يحاول التنبؤ بردود فعلها, ولو كان مرغماً، على الرغم من كل شيء على تخمينها، فقد كان يفترض أن تريه الرسالة,,, وكان سيضيف إلى بكل براءة عاشق، إلى مديح المجهول ثناءاته الخاصة، ولكنها لم تره شيئاً, بقيت الحادثة مفتوحة دون نقطة نهاية, وفي الأيام التالية فاجأها يائسة، فريسة لفكرة الموت بحيث استمر شاء ذلك أمأبى,,.
هنا، واحدة من مهارات كونديرا اللافتة في أعماله التي قرأناها، حيث ثمة خدعة يمارسها الشخص، ويتورط فيها، ليصعب عليه بعد ذلك العودة إلى نفسه من جديد: شانتال في مرحلة مابعد الرسائل، هي امرأة أخرى، وجان هو رجل آخر، حتى لكأن الوهم هو الذي يرسم خط الحياة، لا الحياة نفسها، وليكتشف كل منهما، هما اللذان كانا يظنان أن كلا منهما يمتلك وجها واضحاً، ويتعرفان على بعضهما من خلال هذا الوجه، يكتشفان أنهما لا يعرفان بعضهما.
: لاتنس أن لي وجهين، تقول شانتال، ولكن امتلاك المرء لوجهين ليس سهلاً.
ويرد جان: أنت عبقرية!!
وترد: أستطيع أن أمتلك وجهين، لكنني لا أستطيع امتلاكهما في الوقت نفسه, معك أستطيع أن أحمل الوجه الذي يسخر، وعندما أكون في المكتب أحمل الوجه الرصين، لكنني أتساءل كم من الوقت أيضاً سأبقى قادرة على الاحتفاظ بوجهي الاثنين؟ إنه أمر منهك, وسوف يأتي يوم لن يكون لي فيه سوى وجه واحد.
لكن المدهش في رواية كونديرا هذه، حين يرينا كيف راح جان يركض نحو الشاطىء قبل ذلك محاولاً أن يحذر شانتال من عربة على وشك أن تسحقها، وحين يصل يكتشف أنه يركض نحو امرأة أخرى (كان يريد أن يصرخ بها، كي لا تكون على هذه الدرجة من شرود الذهن، كي تنتبه إلى هذه العربات الغبية التي تجتاز الشاطىء، وفجأة تخيل جسدها مسحوقاً بالعربة,, إلى ذلك الحد الذي أخذ معه فعلاً، بالصراخ باسم شانتال,, كانت المرأة التي ظنها شانتال تصبح مسنة، قبيحة، وبصورة ساخرة امرأة أخرى!!)
ومع هذا ينتاب جان ذلك الحس المفاجىء: هل الفرق بينها وبين الأخريات، إذن بهذه الضآلة؟ كيف يمكن أن لايعرف كيف يتعرف على طيف أحب الكائنات إليه، طيف الكائن الذي يعده لامثيل له؟
هل كانت تلك الحادثة رؤياه التي مهدت الطريق لكل شيء فيما بعد؟ ربما لكن مايحدث في داخل شانتال يصبح أكثر ضراوة لفرط صراحته (على ضفة البحر، تذكرت فجأة ابنها الميت، وغمرتها موجة من السعادة, قد يخيفها هذا الشعور بعد قليل؛ ولكن أحداً لايستطيع شيئاً ضد هذه المشاعر، فهي موجودة هنا، وتفلت من كل رقابة, يمكن للمرء أن يلوم نفسه على عمل، على كلمة تلفظ بها، ولكنه لايستطيع أن يلوم نفسه على شعور، لأنه بكل بساطة، لايملك أية سلطة عليه, كانت ذكرى ابنها الميت تملؤها سعادة,, وذلك يعني أن وجودها إلى جانب مارك مطلق ، وقد استطاع ان يكون مطلقا بسبب غياب ابنها).
يلعب كونديرا هنا في المناطق الوعرة، الأكثر قتامة، بفعل سريتها، ووحشيتها الصادمة، ويعود إلى شانتال مرة تلو أخرى ليؤكد هذا الإحساس، الذي لايمكن أن يعذبها بقدر مايعذب قارئا يصدمه بهذه القدرة على، والقدر من، البوح بمعنى أن المسألة هنا لاتقوم على حقيقة أنها موجودة ويمكن الإحساس بها أم لا، بل في القدرة على الجهر بها.
لذا تبدوالرواية، رغم حجمها الصغير، محتشدة، رغم أحداثها البسيطة كما أشرنا: تدور في الداخل أكثر ما تدور في الخارج، مسرحها النفس، وهواجس هذه النفس، فشانتال التي تحس بسعادة فقدان ابنها، لأن ذلك منحها مطلق الحرية، مطلق الحب، حسب قولها، ومنحها الخصوصية، حين مكنها الموت من أن تحصل على هذه الخصوصية، وهي تنفصل عن زوجها فيما بعد، وتنفرد بشقة خاصة أيضاً، تطوح بكل شيء إلى الشارع ما أن تمس هذه الخصوصية، في ذلك الموقف المتفجر، حين تزورها شقيقة زوجها فجأة مع أطفالها، ويبدأ الأطفال بالعبث بأشيائها، بما في ذلك ألبستها وماتخفيه من رسائل، بحيث يدفعها الأمر لطردهم من البيت، رافضة أن يمضي أحد الأطفال، حتى، بتلك التفاحة التي تناولها من على الطاولة، إذ تصرخ: من سمح له بذلك.
كل هذا يكون بحضور جان الذي لاتستثنيه من كلماتها بعد خروجهم: كنت قد نسيت، تقريباً، اني اشتريت في الماضي هذه الشقة لأكون، أخيراً حرة كي لا يتجسس علي أحد، كي أستطيع أو أضع حوائجي حيث أريد، وكي أكون واثقة من أنها ستبقى حيث وضعتها.
هل الرواية هنا، هي رواية شانتال بطريقة او بأخرى، وهل هي مكرسة لتشريح حتى لا نقول مديح حاجة انسان نهاية هذا القرن للعزلة، مهما كان الثمن؟كان يمكن أن تذهب الرواية إلى هذه القراءة وتجد نفسها فيها، وكان يمكن لكونديرا أن يحقق الجزء الثاني من قول ريكار ومعه نقاد كثيرون وهم يصنفون أعماله بأنها مخربة، لكن نهاية الرواية، لاتنبىء بذلك، ولاتحمل جوهره، حيث تبدو توفيقية.
ربما تكون النهاية، هي معضلة الرواية بشكل أو بآخر، لأنها طوحت بعيداً بمقدماتها غير التقليدية، وقادتها مرغمة نحو نهاية بالغة التقليد, كما لو أن النتائج لايمكن أن تكون وليدة أسبابها أبداً.
وسواء أكان مامر حلما أم واقعا، سواء أكان جان قد أرسل الرسائل، أم لم يرسلها، وسواء أكانت قد أخفتها بعيداً عن عينه، وهي تتأجج بكلماتها، كلمات العاشق المجهول، سواء أكانت عرفت مصدر الرسائل أم لم تعرف، إلا أن ذلك كله كان من القوة إلى درجة لايمكن أن تقضي فيما بعد إلى ذلك الصلح، الذي يبدو هنا وهما روائيا توفيقيا أفقر الرواية وجردها من سطوتها الصاعقة التي ظلت قابضة عليها كالجمرة، حتى نصف الصفحة الأخيرة.


أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved