أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 26th August,2000العدد:10194الطبعةالاولـيالسبت 26 ,جمادى الاولى 1421

مقـالات

آفاق وانفاق
شياه محظوظات (4)
(من أغاني الرعاة) للشابّي
د, محمد العيد الخطراوي
نلتقي مرة أخرى مع شياه أبي القاسم الشابّي في مرعاه الجميل العذب، لنستمتع ببعض المرائي الجمالية التي استطاع الشاعر أن يقدّمها لنا من خلال قصيدته, بلغ عدد أبيات القصيدة الأربعين، نتيجة ضرب (4في10)، فلماذا أربعون؟ أم هو محض مصادفة؟ ربما الأمر كذلك، ولكن خطر ببالي ما في الرقم أربعين من دلالة على النضج والاكتمال في التراث العربي، وبخاصة ان الشاعر متخرج من جامع الزيتونة أحد أعمدة التراث في العالم الاسلامي فالإنسان تتكامل قواه، ويبلغ أشده في الأربعين من عمره، ويغدو محنَّكاً، ويحق له أن يمرّر طرف عمامته من تحت أحناكه، قال تعالى: (حتى إذا بلغ أشُدّه وبلغ أربعين سنة قال: ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ) الأحقاف /15.
وإنما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين، واستوى الشعر للنابغة الذبياني أيضاً في الأربعين، وقال الشاعر:


وماذا يبتغي الشعراء مني
وقد جاوزت حدَّ الأربعين

وواعد الله نبيه موسى أربعين ليلة: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) البقرة/51 (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) الأعراف/142 وفي التيه ابقى الله بني اسرائيل عقاباً لهم: أربعين سنة (قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) المائدة/26 ويرى المتصوفة وهم ليسوا على حق ان الدنيا قائمة على اربعين من الابدال هذا إلى ان أقصى أبيات القصيدة العادية أربعون بيتاً، فإذا تجاوزت ذلك كانت مطوّلة، وهو لايريد لها ذلك, ومن جهة أخرى فإن العدد أربعين تضعيف للعدد أربعة الذي شكل الحركة في بنية القصيدة بصفة عامة، كما أوضحنا ونوضّح, ولنمض مع الشاعر في رباعيته الثانية:


أقبل الصبح جميلاً، يملأ الأفق بهاه
فتمطَّى الزهرُ، والطيرُ، وأمواجُ المياه
قد افاق العالم الحيُّ، وغنَّى للحياه
فأفيقي ياخرافي، وهلُميّ يا شياه

وإذا كان الشاعر قد رسم مشهد بداية اليقظة في الرباعية الأولى، وعلى الدنيا بقايا من نعاس، وآثار من حلم، فإنه هنا في الرباعية الثانية يرسم حالة التيقظ والتوفّر، فبَها الصبح يملأ الافق، والزهر يتفتح، والطير يزقزق، وأمواج البحر يتلو بعضها بعضا في توافقٍ وعناق، بل كل عناصر الأحياء تتحرك وتشترك في رسم المشهد، وأداء معزوفة الصباح، فما على الخراف إلا أن تشترك هي الأخرى في هذا المشهد، بثغائها ومرحها، وانطلاقاتها الحلوة الرائعة خلف راعيها، ويسيطر الفعل الماضي على الرباعية (اقبل تمطّر قد أفاق)، للدلالة على الإنجاز والانتماء من مضامينها، فهي قد حصلت بالفعل، بل هو يؤكد الإفاقة بالحرف (قد)، ورتّب الشاعر التمطي على الإقبال للتدليل على تأثير الضوء على الأحياء، وبيان دوره في عالم اليقظة ومدى الحاجة إليه، ثمّ هو بعد التأكد من هذه المنجزات ينتقل من الحالة الماضوية إلى المستقبلية، إلى الأمر: (وأفيقي هلمّي) والنداء: (ياخرافي ياشياه)، منهياً الرباعية بأربع كلمات (فأفيقي ياخرافي، وهلمّي ياشياه)، وإن شئت قلت: أربع جمل, وربما تساءلنا عن المضاف إليه في (شياه)، أين اختفى؟ بعد أن شاهدناه في (خرافي)؟ إن الإضافة هنا لتعريف الخراف، وهذا التعريف تحقق للشياه بأسلوب آخر، هو أسلوب ما نسميه بالنكرة المقصودة: (ياشياهُ)، مع تحقيق التنويع والمراوحة بين الأساليب، وبين المراوحة والتنويع في الأغنام والمراعي.
ثم تعود الإضافة إلى ياء المتكلم في الرباعية الثالثة والذي سهل هذا الانتقال من الماضوية إلى الأمرية، دون عبور بالمضارعية، هو ما أعطته هذه الأفعال الماضوية للمشهد من حضور رغم ماضويتها، حيث هيأت هذه المنجزات الطبيعية أمام الخراف، بل أمام الناظرين جميعا، لتصبح المشاركة فيها أمراً حتمياً، وذوقاً حضارياً, وسلوكاً جديراً بالراعي وخرافه، لا نشاز فيه.
ويستمر شاعرنا الشابي يستفز شياهه إلى المشاركة ويستنزف كل طاقاتها لتسهم في رسم لوحات الجمال، على مدى الأربع الرباعيات التالية، وذلك بإطلاق مجموعة من الأفعال الأمرية (12 فعلاً)، مما يدل على شدة اهتمام الراعي بالمرعى من جهة، وبخرافه من جهة أخرى، ورغبته النهمة في ان تلتحم مع المرعى جزاليا ونفعيا، وتتحول إلى عنصر من عناصره, ويزداد هذا التفسير قيمة إذا قرنّاه بتفسير أعمق للقصيدة كلها، فإنه من الممكن أن نفهمها في إطار سياسي خالص, يتفق مع الوضع الاستعماري الذي كانت تعاني منه بلده (تونس) آنذاك, فيغدو الصباح هو صباح الحرية، والعالم الحي بما فيه من زهر وطير وشجر ومياه، هو العالم الدولي، وما شاع فيه من تحرر، والشاعر بصفته شاعرا ومثقفا، مسؤول عن رعيته، عن قومه,, عن أمته، وهو القائل:


أيها الشعب، ليتني كنت حطّا
باً , فأهوي على الجذوع بفأس
ليتني كنتُ كالسيول، إذا سالت،
تهدُّ القبور رمسا برمس

ولا تقلّ قيمة هذا التفسير ايضا لو مضينا بالنص إلى رحاب أخرى عرف بها الشابّي ايضا، وهي رحاب الرومانسية، وروحها التي نحس أنها طاغية على القصيدة بألفاظها وصورها ونهجها، ففي الرومانسية ايضا معاناة وعذابات، ناشئة في كثير من الأحيان عن الإحباط في مواجهة الواقع، والفشل في التعامل مع ذرائعه.
ونلحظ اشكال التنامي الصّوري القائم على تبادل المواقع أحياناً، والدال ربما على لون من الوان التماهي، فالصبح كان يغني للحياة في الرباعية الأولى، والزهور ترقصها الصبا، والحياة ناعسة، والفجاج دامسة، لكننا في الرباعية الثانية، نجد العالم يقظاً حياً يغني للحياة، والزهر والطير وأمواج المياه تتمطى وتعبر عن حيويتها، والنور لا يتهادى، وإنما يملأ بهاه الأفق، ليعم كل الأرجاء، يقع كل هذا الاختلاف بين الرباعيتين، رغم أنهما مبدوءتان بما يوحي بالتشابه والتوكيد اللفظي أو التكرار: (اقبل الصبح)، (يغني للحياة الناعسة: جملة حالية = جميلاً = يملأ الافق بهاه): هذه الاحول توحي بالإحساس بالتحول الذي أحس به الشاعر مع إقبال الصبح، أوتحول المناخ السياسي الذي تعبره بلاده، ومن تمام التطابق اشتمال الرباعية الثانية على حالين لا حال واحدة، وذلك مناسب لسرعة التحول مع تدفق النور، أو الرغبة في أن يكون كذلك، على كل حال فإن التماسك بين الرباعيتين قوي ومتين، والوحدة العضوية فيهما ماثلة للعيان؟ والى لقاء آخر على مائدة الشابي.

أعلـىالصفحةرجوع





















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved