أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 1st September,2000العدد:10200الطبعةالاولـيالجمعة 3 ,جمادى الثانية 1421

الثقافية

قصة قصيرة
خلف أسوار المدينة
اقتضى البحث عن صيد في الوديان المتيبسة طول أناة، واقترب الثعلب صائد الفئران الذي أمضى به الجوع متعقباً الجري السريع لدابة صغيرة مرتبكة حتى الدوخان أو منتبشاً التراب بسرعة فائقة من جحر ضب أو منتظراً أن يقفز أخيراً يربوع ظهر من خلف سفح، فيكون باستطاعته اقتناصه بلمح البصر, اقترب بخطى ثابتة من الطرق الترابية القائمة الممتدة بارتفاع متساو في السهوب التي تستميله وتخيفه في آن, وتمر فوقها عربات صاخبة تارة في هذا الاتجاه وتارة بعكسه, هازة الأرض من حواليها تاركة وراءها دخانا ورائحة حادة منتنة ورياحاً متلاحقة متدحرجة فوق الأرض.
عند المساء وقف الثعلب على هجرة صغيرة فيها أشجار الطلح اليابسة, ينظر نظرات ثاقبة متفجعة تملؤها الدهشة إلى تلك الهجرة, التي تنقصها الكثير من مباهج الحياة المختلفة والخدمات فلا كهرباء تنير لهم ولا وسائل اتصالات تمكن سكانها من التواصل بالعالم, بل صحراء جرداء إلا من بعض المساكن المتناثرة هنا وهناك وهذه المساكن بيوت متشابهة صغيرة ذات سقوف خشبية والبعض مازال يسكن الخيام المتنقلة, وكان يشاطر هؤلاء السكان الأصليين، عدد من المعلمين ولكي يعيش المرء في هذا المكان عليه ان يكون ذا عزيمة وإلا هلك, لأن الصحراء لا تبالي سواء عندما يعيش الإنسان في سراء أم ضراء لذا ينبغي التعامل معها كما هي على حقيقتها بينما الإنسان ليس سواء عنده كيف تسير الأمور في الحياة وهو يتعذب ويكابد ويخيل إليه أن من الأوفق له لو كان في مكان آخر بين أناس آخرين, وحياته في هذا المكان ما هي إلا خطر، لذلك يضيع امام هذه الصحراء التي لا ترحم ويضعف، وان لم يكابد استحال عليه الصمود, عندما ينظر الأغراب من الطائرات العابرة فانهم يمسكون رؤوسهم بأيديهم من الدهشة يا إلهي كيف يستطيع هؤلاء الناس العيش في هذه المنطقة؟
لا شيء فيها غير الرمال والجمال، لكنهم يعيشون! واذا تسنى لك عزيزي القارئ كسر حاجز المستحيل والوصول إلى هنالك فلا تتردد! ادخل هذه الهجرة, واسأل عن المدرسة إن لم تتعرف عليها لوحدك فهي مختلفة عن باقي المساكن بزيادة قليلة في حجمها، اعبر البوابة الخارجية لتجد غرفة صغيرة على يدك اليمنى بها بعض المقاعد الحزينة وطاولة كبيرة خلفها رجل قد خطه الشيب غارقاً في بحر من الأوراق يعكف على الانتهاء منها, وإذا ما انتهى رأيته يشن زياراته التفقدية للاطمئنان على سير العمل بالمدرسة, ذلك هو مدير المدرسة الأستاذ يحيى الرجل الحديدي قد قضى في تلك المنطقة احدى وعشرين سنة, واذا ما صادفت شخصاً بدون مكتب ينبعث منه الكثير من النشاط والذكاء جاعلاً من المدرسة خلية نحل فها هو الأستاذ أبا أمل وكيل المدرسة, اما إذا سمعت صوتاً عالياً بصيغة الأمر ولم تستطع أن تحدد مصدره فلا تشك أبداً في أنه الأستاذ هريدي مدرس العلوم, وإذا ما قابلت شخصا صاحب تعليقات لاذعة فلا تتردد في مصافحته حتى تسلم من احدى تلك التعليقات انه الأستاذ سالم مدرس اللغة العربية، وعندما يجتمع الكل ويطلبون منك تلبية دعوتهم لوليمة فلا تمانع أبداً لأنها عادتهم التي لا يدعونها, هؤلاء بعض أبطال قصتنا والبعض الآخر لا يقلون عنهم, قد اختلفوا في طباعهم وعاداتهم غير انهم كانوا نبراساً للقوة والعزيمة وطول الصبر وإلا لما استطاعوا الاستمرار هنا.
لقد استطاعوا قهر المستحيل وتحويله لواقع ممكن, ولما لم يكن هناك ما يملأ وقت فراغهم ويشغله فقد تمكنوا من حل المشكلة بجلب كل ما هو مسلي وممارسته مثل كرة القدم وكرة الطائرة ولعب الورق والشطرنج وغيرها من الألعاب الترفيهية والكتب المسلية, فعند انتهاء وقت العمل يتوجهون فوراً لبيوتهم، وهذه البيوت التي يسكنونها أربعة, ثلاثة منها متجاورة والبيت الرابع يبعد عنها كيلومترا ونصف الكيلومتر تقريباً, يقطن في البيت الأول خمسة معلمين يطلقون عليه أصحابه شقة الحرية والثاني يوجد به ثلاثة، والثالث أربعة، أما الرابع فيسكنه أربعة معلمين، غير انهم جميعاً ينظرون إليها على أنها بيت واحد.
عندما يتوجهون لبيوتهم بعد المدرسة يشرعون في أخذ قسط من الراحة ان سمح لهم جمع الذباب الهائل، والحر اللافح وللمعلومية الذباب هنا يختلف عن ذباب المدينة فذباب المدينة هادئ جداً لانه يدرك جيداً انه سوف يموت ان سلك سلوكاً مشيناً, أما ذباب الصحراء فانه يتفنن في ازعاجك فإذا ما أحس بالخطر فر في الخلاء الواسع، وعندها هيهات ان تلحق به، واذا ما حان وقت العصر تجهز الجميع ونزلوا أرض الملعب لمزاولة الكرة حتى أن البعض لم تداعب رجلاه الكرة إلا في تلك المنطقة، وبعد صلاة المغرب يجتمعون في غرفة الأستاذ فرغلي لمناقشة عدد من المواضيع الهامة سواء كانت اجتماعية أو علمية وتبادل الأحاديث المتنوعة حتى صلاة العشاء، ومن ثم ينتقلون لشقة الحرية لتناول طعام العشاء ولعب الورق والشطرنج حتى يحين وقت النوم، وهكذا هي حياتهم في تلك الصحراء ذات البساط الرملي بلا حدود وبلا طرقات وبلا عود أخضر وبلا قطرة ماء، والعيش في تلك المناطق لا يخلو من الخطر فانتشار العقارب والثعابين يهدد حياة الإنسان واذا ما فكر في السفر فإن الموت والهلاك عطشاً يتربص به ان لم يكن على حذر ويحتاط لذلك.
هذه هي طبيعة تلك الأرض الهشة التي تفتت إلى تلال من الدقيق الأصفر وآكام وجبال وأودية تصفر فيها الرياح فتصدر موسيقى صاخبة.
وفي أحد الأيام عندما كان وهج الشمس يسقط على الرمال المترامية بلا حدود فتلمع كقماش من الذهب تعلو فيه التلال في رسم سريالي خرافي من تلك الرسوم التي يرسمها سلفادور دالي ، كان الجميع داخل سور المدرسة إذ عرج عليهم رجل مديد القامة صريح الوجه، حاد الملامح، تكسو وجهه سمرة خفيفة، قد هده التعب من السير على تلك الطرق المتعرجة حاملاً بيده طرداً أصفر، رحب به مدير المدرسة وأجلسه على أحد المقاعد وبعد أن التقط الرجل انفاسه طلب من المدير ان يستدعي جميع معلمي المدرسة، فلبى المدير طلبه، وعندما أخذوا أماكنهم، بدأ الرجل في الحديث فأخبرهم بأنه مرسل من ادارة التعليم حاملاً معه بشرى عظيمة ألا وهي أوراق نقلهم، لكنه صعق وتملكته الدهشة عندما سمع رأي المجموعة وهو رفضهم لذلك النقل، أي نوع من الجنون تملكهم، مثلهم كمثل السجان عندما يتجه للسجين حاملاً معه خبر الافراج عنه،ماذا تتوقع ان تكون ردة فعله؟ انه بلا شك سوف يغمى عليه من الفرحة، لكن ما هو شعورك عند رفضه للإفراج؟ قد تتهمه بالجنون أو انك لا تستطيع تخيل ذلك وتصديقه,,؟!
هذا هو شعور صديقنا السجان عفواً,, أقصد الرجل المرسل لم يصدق أذنيه فشك في صحة ما سمعه وطلب منهم اعادة ما قالوا، عندها تأكد من الرفض بيد أن الدهشة ما زالت تتملكه, ونهض الرجل حاملاً معه الأوراق خارجاً من المدرسة وسار في طريق العودة حتى غاب عن الانظار، أما الثعلب فقد أخذ في الابتعاد عن الهجرة، وكأن الدهشة مازالت تتملكه هو الآخر، كما تملكه الكثير من التساؤلات التي لم يستطع ان يجد لها جواباً، أتعلمون لماذا؟ لأنه,,,,,!
عبدالله محمد القرني
* هذه القصة غريبة بعض الشيء، يبدأ الصديق عبدالله القرني القصة في وصف ملامح هجرة ,, مخفية كثيراً,, خاصة انها خالية من مباهج الحياة المختلفة! ثم بعد ذلك يتعمق في وصف تفاصيل حياة البشر الذين يعيشون في هذه الهجرة,, الجميل في هذه القصة اذا احسنتم قراءتها أنها تثير كثيرا من المواضيع المتعددة بشكل مترابط وغير مخل بأحداث القصة.
والأكثر جمالاً,, انها بدأت بتساؤل,, وانتهت بطرح تساؤل غريب,, اجابته ليست حكراً للاذكياء فقط بل لكل أغبياء العالم!
تحية ابداع للصديق المتميز عبدالله القرني على أمل أن يتواصل معنا بقصصه القادمة بإذن الله.

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved